ابحث عن

التنقل ليلاً

د. عباس التجاني

النصف الأكبر من المقاعد احتلها النساء، متوشحات بألوان زاهية لموديلات من الثوب السوداني العتيق، جلست امرأة ترتدي "البرقع" في المقعد الذي يقع خلف السائق تجاه النافذة اليسرى، تفحصت المقاعد الحولي، فإذا بامرأة لم تتجاوز العقد الخامس، تجلس على مقعد من اقتراح السائق الطامع وضعه على الماكينة. تململت المرأة على المقعد الإسفنج من الحرارة المنبعثة بعفوية من الماكينة المهترئة، تصدر أصوات تنبئ بصعوبة الوصول الى أم القرى، لم تبارح الحافلة المحطة العامة حتى توقفت نتيجة الاحتقان المروري،

فاحتقنت النفوس، فصاحبة "البرقع" كانت أكثر المتأثرات على ما أعتقد، لم أبنِ رأي على موقف أيدولوجي، حركتها على المقعد وكشف القناع الأسود عن وجهها المليح، دفعني الفضول للنظر لها عبر المرآة، تفاجأت تقلع العباءة دون حياء قيمي أو ديني. تحرك التي تجلس على الماكينة يداها في الهواء في محاولة يائسة لحجب المشهد عن مرآة السائق، فتسربت الصورة من بين أصابعها التي صبغتها الحناء، فلامست الحناء المزركشه مرفقي الأيسر الذي يعمل مع أصابعي بسرعة فائقة على شاشة المحمول هرباً من المسرحية الريفية الإخراج، وقتل وحشة الطريق على هيئة طبق البيض.

توقفت عن مداعبة الهاتف المحمول، شارد الذهن لاسترجاء المشهد على طريق الرابط بين مدني الفاو– تجمدت أرجلي لساعة في انتظار سيارة تقلني من الشبارقة الى مدني، لم أشعر بالخوف في الدقائق الأولى من ساعة الانتظار، بدأت التفكير في البدائل حتى إن لم أجد سيارة تقلني.. اتصلت بصديق في القرية المجاورة موضحاً موقفي، لكني قدت معركة شرسة ضد توسله لقضاء الليلة بالقرية، استخدمت سلطة صوتي الجهور لكبح جماح التوسل الكريم، ثم شرحت له طبيعة عملي التي تقتضي الرجوع الى مدني، أغلقت الهاتف بعد أن أضاء الظلمة الهالكة في الطريق العام، تراقصت سنابل المحاصيل التي لم تحصد بعد تحت الضوء الخافت، صفقت الرياح وأطلقت الصفير فرحاً للرقصة الريفية الشائعة ليلاً، ثم انحنت السنابل للريح، ويتكرر ذات المشهد في كل ليلة حتى الساعات الأولى من الفجر، عندما يبدأ البشر نشاطهم الصباحي، وهناك الحشائش البرية تقاوم إرهاق الليلة السابقة فتصبح وجبة سهلة للحيوانات الأليفة. فقمت بتناول وجبة العشاء في مطعم يواجه مصرف الادخار، يمتلكه كسلاوي يتفنن في تشكيل اللحم، بين سلات، شية، بمبار، كستليتة وشوربة العظم المتبلة بعناية.

احتسيت كوبين من الشوربة حتى تصبب مني العرق، فعاد النشاط لبدني، ثم بدأت أتحسس شاشة التلفون الذكي.. ثم نظرت الى مرآة السائق، كان الركاب يجلسون في شكل الفصل الدراسي، بينما التي تجلس على الماكينة تحرك يدها كما مذيع النشرة الجوية، يتصبب منها العرق وسال نهراً على صدر مراهقة لا ترتدي حمالة الصدر، كشف ذلك الفستان الشفاف الممزق على صدرها، حاولت التي بجوارها تغطيتها ببعض من ثوبها، فقالت المراهقة في لغة ريفية حنينة جداً، السخانة شديدة ثم حنت رأسها في استجابة غامضة، لم أكتشف تلك العلاقة إلا بعد أن توقفت الحافلة، فوضحت لي أنها بنت وأمها أهلكهن الفقر ورسم معالمه البائسة على ثيابهن. من بعدهن ترجل كهل قوي العود تفوح منه رائحة العشب الأخضر، ترصع جلبابه ببقايا قناديل الذرة البيضاء، توقف تحت اللافتة التي كتب عليها قرية ود المهيدي، هم السائق بالنزول، ثم صعد على مقعد الركاب، أدخل يده الى جيب الصديري أخرج أوراقاً نقدية ممزقة، متلاشية الألوان، مسحوقة الجسد من تبادل الأيدي، حرك السائق يديه في إشارة لتحصيل المال، ثم عدل الطاقية البرتقالية بعد أن فعل التمباك فعله على شفته الأمامية حتى سال لعابه وترك بصمة باللون الأصفر على الجلباب الأبيض. صوته الأجهش المتصاعد، قاومته الأصوات المترتفعة من القفص، قدمت مقترحات فضفاضة بالنسبة للسائق، اقترح أحدهم أي راكب يمكنه تحصيل الأجرة، وآخر يجلس في أقصى الركن الأيمن لماذا لم توفر كمساري؟ جاء رده حاسماً: الكمساري عيان، قال ذلك بعد أن حصل على الأجرة وسكنت جيب الصديري، ثم دفع السيارة الى الطريق الترابي نحو أم القرى، لحظتها صرخت جموع النساء بما فيهن صاحبة "البرقع" الأسود الداكن، طالبن أن يسلك الطريق العام، جاء الرد من صوت ذكوري له شارب أبيض يأمر السائق بالمواصلة على ذات الطريق الترابي، ارتفعت أصوات النساء حتى ردد المجرى المائي صداهن على الناحية الأخرى من الطريق، ذلك الصخب أجبر السائق لإرادتهن.. ثم عم المكان نقاش لا نهائي.. قلت للمحمول على يدي اليسرى، يا لهن من نساء قويات.. تحت ذلك الضغط النسائي، ترك السائق الطريق الأسفلتي وسار على آخر يحاذي المجرى المائي المعتق بطين الأرض، يزداد المجرى عمقاً في المنتصف، لقد ابتلع حماراً العام الماضي عندما فتحت أبواب النيل تجاه المجاري المائية، تأرجحت الحافلة على الطين اللزج أكثر من مرة، فتأرجحت معها ضربات قلبي واعتقدت أن الحافلة ستسبح في الترعة المتسخة، السائق الغاضب كتم أنفاسنا بالسرعة الزائدة وعلق الغبار الطيني على الوجوه، طالت دقائق الشهيق والزفير حتى توقف السائق بالقرب من المظلة التي بسببها قامت ثورة نسائية على الحافلة، ثم فحط السائق فاختفت ملامح الحافلة والطريق الترابي في ذلك الهياج وغياب الرؤية توقف المركبة بالقرب من طلمبة قادرة للوقود بأم القرى.

سرح الغبار بعيداً مودعاً حتى تلاشى تماماً، ثم لاحت مباني الطوب الأحمر والكتل الخرصانية منتشرة على الأراضي الزراعية المسطحة، ظللت جالساً في مكاني لأتبين الموقف! في ذلك الذهول– قال السائق: لقد وصلنا يا أستاذ، تزامن قول السائق مع رنة الهاتف من صديقي عبد الجليل، فتأكد خبر الوصول، فشكرت السائق بكلمة واحدة، ثم ترجلت وعانقت صديقي.

صعدنا على حافلة نصف نقل باللون الرمادي، تكسي جنباتها الستائر الداكنة التي تفوح منها رائحة العرق والطين التي تزكم الأنوف، تحركنا على الأرض التي كستها الحشائش الموسمية الجافة، وهناك أناس يفلحون حقول الذرة، والطريق يخلو من المارة في تلك الساعة، حاول مرافقي بعد أن عجز من التواصل معي لانشغالي بالمحمول والاتصالات الكثيفة، فقال: عليك أن تتخيل الصورة الخريفية لهذه الأرض، استمعت لوصفه المتخيلة حتى وصلنا قرية العوضية، استقبلنا شخص واسع الثقافة بالرغم من فقده لبصره، حدثني عن فترة الجامعة وغيرها من خبراته الحياتية، ثم حاول أن يقدم دفوعات بأن ماء القرية صالح للشرب، لتجاوز ذلك الفخ قلت له إني شخص كثير التجوال، وانتشرت الأمراض التي ترتبط بالماء، لذلك دعني لممارسة هذا التقليد الأمي للفرنجة واهتمامهم بالصحة وتفادي الأمراض ظاهرياً، ويجب علي أن أعتني بنفسي في مثل هذه الظروف.. على مضض قبل تبريري الذي يتقاطع مع قيم المجتمع المدني والمحلي، التي تتسق مع التعايش مع المواطنين.

سرنا ومرافقي تحت ضوء المصباح الذي أحمله معي أين ما ذهبت، قطعنا عدداً من القرى التي لا تبعد عن بعضها البعض: قرية العيشاب التي تكونت بعد أن أغرقت السيول الموسمية مناطقهم الأصلية، ثم مررنا بقرى ود أبو عاقلة، الشريف بعقوب، ود الأبيض.. وروى مرافقي عن البئر التي يتوافد عليها الزائرون من مسافات بعيدة في يوم الاثنين من كل أسبوع، ثم يختفي الماء في اليوم التالي.. وما زلت أستمتع بحكايات الميسلوجيا الدينية والتنقل ليلاً.

Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

233 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع