الصافولا الهرجلة السياسية تفسد بساطة الحياة هنالك

 

الخرطوم: حسين سعد

تتجلى جماليات الحياة عند بساطتها، واستثمار لحظاتها قطرة قطرة في ما يريح القلب.. وفي السودان كانت كذلك، بعيدا عن صخب السياسة ومعاركها التي لا تنتهي.. ولكنها ـ نعني السياسة ـ أبت إلا تقلق مضاجع تلك البساطة، وتؤرق سكينتها، فدخلت في لقمة العيش، وجعلت الجميع سياسيين في غير معترك سياسي، في عالم محفوف بالتيه والضياع. وفي هذه المساحة كانت جولتنا بعيدا عن ذلك ونحن نتلمس بساطة الحياة عند أقوام شقوا طريقهم بعرق الجبين، وأسسوا مشاريعهم الخاصة، بين بأس الحديد ولينه، في منطقة الصافولا الصناعية، حيث يعمل الناس هنالك في هدوء رغم صخب الآليات والورش والزيوت التي تزيد من وطأة درجات الحرارة المرتفعة، غير أن حب العمل جعلهم يألفون حالتهم تلك، وكأنها تبادلهم المحبة بأمثالها أو أكثر منها، والكل هنالك عندما تسألهم عن الحال على سوأته يحمدون الله.

استنطقنا في جولتنا شخصين أتعبتهم الحياة وأتعبوها حتى فاستلمت لهم على مضض، ولكنهم يواصلون ترويضها.

أول الشخصين كان الهادي حسن المعروف في تلك المنطقة بـ(ود القضارف) وهو صاحب كرين بالمنطقة الصناعية بالصافولا، بعد أن قدم إلى الخرطوم منذ سبعينات القرن الماضي، ثم اغترب خارج البلاد لسنوات عدة، عاد بعدها ليؤسس أسطولا لشاحنات النقل، لكنه المشروع الذي واجه تحديات البلاد بظروفها الاقتصادية والسياسية، مما اضطره إلى التحول إلى مشروع الكرين الذي يستخدم لرفع الحاويات وغيرها، يقول ود القضارف:

لقد أتعبتنا الدنيا بصراعات طويلة، أو ربما أتعبناها نحن، لا أدري، لكن سبب تحولي من مشروع النقل الذي كان ذا دخل مجزٍ، وقد طوفنا من خلاله جميع أنحاء السودان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، هو أن الآونة الأخيرة جعلتنا نواجه مشكلات عديدة الجميع على إلمام بها، وقد دخلت الهرجلة السياسية في لقمة عيشنا بسبب ارتفاع المحروقات، وبالتالي ارتفاع الأسعار في جميع أساسيات الحياة، حتى أصبحنا عاجزين في مسألة على من نلقي باللوم، وأنا مسؤول من تربية أولادي وتعليمهم وصحتهم، فكان ذلك سببا في التوجه نحو الكرين ليكون سندا لي في الحياة والحمد لله الحالي يمضي.

ويضيف ود القضارف أن المشكلة الجديدة التي يواجهونها تتمثل في ركود السوق وتدني عمليات الصادر والوارد، وهو ما جعل العمل يأتي من أسبوع لأسبوعين، مصحوبا بشكوى من الزبون وشكوى منا نحن، فالكل يشكو، خاصة وأن أقل الأشياء المتمثلة في تغيير الزيت وحده تضاعفت لأكثر من خمسين ضعفا، والسبب هو تلك الهرجلة السياسية التي أقحمتنا في مسائل السياسة إقحاما، ونحن نعيش في بلد لا توجد في الدنيا بلادا حباها الله من الخير والطبيعة ما حبا به بلادنا من أنهار وبحار وثروات لا حصر لها.

أما ثاني ضيفينا، فكان جرجرة، وهو إبراهيم إسماعيل علي، صاحب ورشة لتنظيف وصيانة الشاحنات الكبيرة، فهو القادم من ولاية وسط دارفور وله من الأبناء أربعا جميعهم بالمدارس، وله في هذا المجال عشر سنوات.

أما عن سبب تسميته بـ (جرجرة) فعلمنا أن اللقب ارتبط به خلال عمله بالشرطة السودانية، وحتى نضع القارئ في الصورة في مسألة ارتباط المفردة بالشرطة، هي تمثل السمة المعروفة لدى القوات الشرطية، وصارت جملة متداولة بين الناس (بوليس يحب الجرجرة) وهي المراوغة والمماطلة في الإجراءات.

يقول جرجرة إن العمل في منطقة الصافولا كويس جدا، والدخل يمكنه من إعانة أبنائه، ويتمنى لجميع الشعب السوداني إن ينعم بالخير الكثير.


أبو عركي/ علي المك/ أبو داود، مروا من هنا..!

وكما ذكرنا في المقدمة أن الحياة وسط أولئك القوم تنعم بالبساطة والجمال، كانت ملاذا لنفرٍ صنعوا جزءا كبيرا من تاريخنا الفني والأدبي، ومن بين هؤلاء كان الأديب علي المك والفنان عبد العزيز محمد داؤود، حيث كان الرفيقان يقضيان معظم أوقاتهما بالمنطقة الصناعية بالخرطوم، وسط الميكانيكية وبائعات الشاي، يستمعان إلى أحاديثهم ويراقبان محبتهم للحياة، كما روي من سيرة الرجلين العظيمين.

وكانت المناطق الصناعية في السودان بوتقة ينصهر فيها الناس بشتى مشاربهم، فتجد كل أصناف البشر، وصفات القلوب، وتعدد العقول، وتنوع الأعراق والمناطق التي جاء منها الناس من أنحاء متعددة.. فتسمع المهذب منهم حتى يخجلك، وتسمع من فاحش القول ما يجعلك تنفجر ضحكا، لأنّ الناس هنالك على حقيقتهم، لا يغلفونها، ولا ينافقون، والكلمة العليا عادة ما تكون للعمل الشاق وسط أزيز المحركات، وهدير الماكينات، وضرب المطارق، وأصوات اللحام ورائحته، ولون الزيوت الذي أخذته الأرض بعد إن صبغها به، فهي حياة ضاجة بالفن، لمن أراد أن يبدع فنا حقيقيا.

ومن هنا مر أيضا الفنان أبو عركي البخيت، الذي بدأ حياته من المنطقة الصناعية، حيث كان مشغولا بإصلاح الأعطال التي والعطب الذي يطرأ على خزانات المياه، وبطاريات العربات، وهو التخصص الذي تلقاه من لدن (الأسطوات) الذين يساهمون مساهمة لا تخفى في تسيير عجلة الحياة اليومية، دون أن ينالوا ما يستحقون من التمجيد والإطراء الذي يجده الساسة "نيام العسل".

ولكن الفنان العظيم أبو عركي كما أورد الصحفي الألمعي معاوية حسن ياسين في سفره العظيم (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان) ص ٥٥٨ ، أن صاحبنا كان يرتدي ملابس العمل في الصباح الباكر متجها نحو المنطقة الصناعية، بينما أقرانه يرتدون ملابس المدرسة، فحز ذلك في نفسه، فقصد مدارس محو الأمية بالمساء حتى صار ما صار، بعد أن صقلته تلك الأصوات، وتلك الحياة البسيطة بجمالياتها ليتشكل بتلك الروح المرهفة المحبة للخير والجمال والوطن.

فالحديث عن القوم طويل وشيق، وهو ما نخطط لتسليط الضوء عليه في مقبل الأيام بالصورة التي يستحقها.. حتى ينالوا المكانة التي يستحقونها، وتعلم البلاد أن لا سبيل لها من غير نهضة صناعية تبدأ بالمدارس الصناعية، ومعاهد التدريب المهني التي جعلت بلادنا ذات يوم في منافسة مع دول عظيمة. وما أجمل ما أبدعه حميد وهو يتحدث عن عمال الموانئ
الغبش التعاني

حيث الحقيقة البهية:
إيد العامل هي العاد تنتج
مو المكنات الأمريكية
وزيت العامل ياهو البطلع
مو المكنات الأمريكية
درن الأيدي العمالية
أنضف من لسنات الفجرة
ومن الدقن الشيطانية
ومن كرفتة البنك الدولي
وكل وجوه الراسمالية

نلتقي وتوصل..!

Pin It

مقتلة كسلا من وراءها، ومن يتحمل مسؤوليتها؟

 

عبدالجليل سليمان

إذا قال لك أحدهم إن أفراداً من النوبة هم من قتلوا تسعة من بني عامر، خلال اليومين المنصرمين بكسلا، فهل تصدق ذلك؟
لربما كان بعضاً قليلاً من الجانبين مشاركاً في تأجيج المقتلة، في بدايتها، لكن لم تكن هنالك معركة حقيقية بينهما، وإن حدث طيفاً منها، فإنه جاء نتيجة لذلك التأجيج الذي تم التخطيط له وتنفيذه، من قبل طرف ثالث.
من هو؟
وبشهادات 18 شخصاً من الجانبين وآخرين من مواطني مدينة كسلا ممن تعود أصولهم إلى شمال السودان وغربه، وأربعة من منسوبي الشرطة والجيش، واستناداً إلى شهادة موثقة منفردة لأحد أبناء النوبة مسجلة على مقطع فيديو، وبالعودة إلى مقال اسحق أحمد فضل الله الذي سبق المقتلة بيوم، ومن قبله بيانات صادرة عن جهات مجهولة تم تداولها بين أبناء شرق السودان في الأيام التي سبقت الأحداث الأخيرة، تشيطن قبيلة بني عامر، باعتبار أفرادها كلهم (هكذا) محض كيزان داعمون للنظام السابق، وإنهم استفادوا منه، ولا يزالوا يدعمون فلوله، فإنني أرى الآن الصورة بوضوح.
**
إذاً، من المستفيد؟
هل بنو عامر والنوبة، مستفيدون؟ ولماذا يضحون بأبنائهم وممتلكاتهم الشحيحة الفقيرة وأرواحهم الطاهرة، ومن أجل ماذا؟ وهم المهمشون في الأرض، الفقراء، التائهون الهائمون، الأقل تمثيلاً في الدولة بكافة أجهزتها وفي كل قطاعاتها منذ استقلال البلاد وحتى يومنا هذا.
من يقول إنّ بني عامر أشرار، فقد كذب، فليس في السودان كله، من هو أكثر نزوعاً للسلام والتعايش والمحبة والتدين ونظافة اليد منهم، وحتى كيزانهم الكبار لم توجه إليهم حتى الآن اتهامات بالفساد وسرقة أراضي الدولة وممتلكاتها ومقدراتها، كما فعل البشير وإخوانه ونافع وعبد الباسط حمزة ومأمون حميدة وعلي كرتي والحاج عطا المنان وبقية الفلول البائدة، فهل هؤلاء بنو عامر؟ ثم كم كانت نسبة منسوبي بني عامر في الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، مقارنة بالشماليين والدرافوريين، مثلاً؟ أحسبهم فرداً فرداً، فلن تتمكن من استخراج نسبة فرط قلتهم، ربما أقل من واحد من عشر بالمائة بكثير، فكيف استفادوا؟ أين العمارات والاطيان والأراضي والممتلكات التي نهبها إبراهيم محمود مثلاً، باعتباره كبير كيزان بني عامر في النظام البائد؟ ولتخبرنا لجنة إزالة التمكين الموقرة!
**
دعكم عن ذلك، وراجعوا يوميات التحري الخاصة بالشرطة وأجهزة الأمن الاخرى، منذ استقلال السودان وحتى اللحظة الراهنة، فلن تجدوا على مستوى السودان كله (حرفياً) أقل من منسوبي بني عامر ارتكاباً لكافة الجرائم من السرقة والرشوة والقتل وبيع الخمور والتزوير والنهب المسلح والاتجار في السلاح والبشر؟

لقد عاش النوبة جنباً بجنب أهلهم البني عامر بسلام ومودة ومحبة خاصة في كسلا، بل تعتبر العلاقات بين الجانبين مثالية إلى حد إنهم لا يشعرون باختلاف بينهم، كما إن النوبة قوم مسالمون وطيبون، لا يبادرون بالعدوان، كما أنهم أوفياء لعلاقاتهم، لا يغدرون.
إذاً، ما الذي حدث ويحدث، ومن الذي خطط وهيأ ثم ودبر ونفذ ؟
بطبيعة الحال، تتحمل الحكومة وعلى رأسها البرهان وحمدوك ووالي كسلا وجهازه، المسؤولية كاملة عن الأحداث المؤلمة؟
**
أين كان الوالي وحكومته وأجهزته الأمنية، عندما تطايرت الشرارات الأولى من الشر المستطير، ماذا كان يفعل بحق السماء؟. والٍ ليست لديه القدرة على محاصرة الأحداث في بدايتها ومنع تمددها، ليس جديراً بهذا المنصب، وعليه أن يغادر فوراً.
الحكومة المركزية، تركت الفلول يعيثون في الولايات ويفسدون فيها ويؤلبون المكونات الاجتماعية على بعضها البعض وعلى الحكومة نفسها، ويثيرون الفتن وينشرون القتل ليضعفوا حكومة (قحت) الضعيفة أصلاً، حتى تكاد تكون نسخة مطابقة للنسخة الأخيرة من حكومة الكيزان التي أسقطها الشعب، بل هي نفس الحكومة، وإلا لماذا يتركون اللجان الأمنية التي توالي قوات هيئة العمليات الانقلابية المحلولة تمرح وتسرح في كافة الولايات، عدا الخرطوم. إنها حكومة الخرطوم بامتياز.
ما حدث بكسلا، هو مخطط ومدبر من قبل جهات مستفيدة من الأحداث، وهذه الجهات لن تكون بطبيعة الحال، هذه الحكومة القحتية قليلة الحيلة باهتة الصورة، بطيئة الحركة، قليلة الخبرة، سميكة الجلد، فقيرة الخيال، واهنة القبضة. وإنما هي جهة أخرى تركتها هذه الحكومة تمرح وتسرح خشية منها أو تواطئاً معها من أحد مكونات الحكومة نفسها، هذه الجهة هي اللجان الأمنية الموالية لفلول النظام السابق، ولهيئة العمليات المحلولة، وإلاّ فإن من كانوا يطلقون النار على الأبرياء ويحرقون، كانوا مسلحون في زي مدني على عربات مكشوفة (بكاسي/ لاندكروزرات) لا تحمل أرقاماً، فما هي الجهة الأمنية التي تحمل هذه المواصفات؟
**
بجانب مقاطع الفيديو الذائعة والمعروفة، فإن شهادة مهمة أدلى بها أحد أبناء حي كادوقلي ، قال فيها بوضوح تام ودونما لبس، إن عربة مكشوفة (بوكس) وصلت الحي في وجود الجيش والشرطة، وعلى ظهرها مسلحون، وهي التي بادرت باطلاق النار والحرق، وقال إنه وكثيرون يعرفون الشخص الذي بدأ الحرق، وهذا الشخص وهؤلاء المسلحون على ظهر (البوكس)، وليس الذين خرجوا مجبرين للدفاع عن أنفسهم من الموت والنهب والسلب، هم من يجب على حكومة الوالي واجهزته الأمنية المنهارة أو المتواطئة، جلبهم للعدالة، فهؤلاء من لديهم المعلومات الوافية والتفصيلية عن من دبر هذا المخطط ومن نفذه ومن موله، ومن روج له؟
النوبة وبني عامر ضحايا مخطط (كيزاني/ فلولي) بغيض، ضحايا فئة قليلة مجرمة وسافلة، وهذه الفئة معروفة، لكن الحكومة (الانتقامية)/ الانتقالية، وبالذات المكون العسكري – عدا الدعم السريع - يريدها أن تعمل فيما بإمكانه القضاء عليها قضاءً مبرماً، وفي وقت وجيز. نعم يريدها أن تعمل الآن لصالحة حتى يظهر الجانب المدني بالضعف وقلة الحيلة، كما يظهر الدعم السريع أيضاً، وهذا ما حدث مع هيئة العمليات أيضاً، حتى تركوها تنقلب على الحكومة، ولولا تدارك الدعم السريع للأمر في لحظاته الأخيرة لعاد الكيزان مجدداً، هذه حقائق ينبغي أن تقال، وعلى عبد الفتاح البرهان أن ينفض يده الآن قبل الغد عن هذه الفلول الكامنه في الأجهزة الأمنية وقيادة الجيش، وقائمة بقوة في كل حكومات الولايات. ما لم تتم الإطاحة بها بسرعة وحسم، فإن السودان كله سيذهب إلى الجحيم.
**
لذلك فإنّ القصة المروّية الآن، عن صراع بين (بني عامر ونوبة) يمتد في القضارف وكسلا وخشم القربة وبورتسودان، قصة شديدة التفاهة ولا قيمة لها. ما حدث ويحدث إنه تم توريط الجانبين في معركة دونما معترك، باعتبار إن دمائهم رخيصة وأموالهم وممتلكاتهم الشحيحة – إن جاز أن نسمي بعض الأفران والكناتين والقطاطي وبيوت الطين أموالا وممتلكاتاً في الأصل – غنيمة لحرب الفلول من أجل استعادة السلطة.
قصة (بني عامر ونوبة) مفتعلة، تزكيها بعض الأصوات الغبية من الجانبين، هؤلاء الأشخاص الجهلة الذين لا يعرفون كيف تدار الأمور من قبل النافذين الكبار في مركز الخرطوم التعيس، يتركونهم يشتمون بعضهم ويسيئون لبعض في السوشيال ميديا، بينما هم يخططون لهم، هؤلاء مثلهم كمثل ديك المسلمية (يحمروا لى بصلتو وهو يعوعي).
**
فصلاً ختاماً: من خطط وأجج ودبر ونفذ (معروفون)، وعلى الجهات الأمنية جلبهم للعدالة بسرعة. حكومة ولاية كسلا وعلى رأسها اللواء الكوز تتحمل المسؤولية والتقصير و يجب أن تذهب فوراً. البرهان رئيس مجلس السيادة، ليست لديه إرادة كافية للإطاحة باللجان الأمنية ممثلة الفلول، وهو يتحمل المسؤولية، كما يتحمل مسؤولية صمته ليوميين متتاليين، ولا يعفيه من ذلك انشغاله بالتطبيع مع إسرائيل، أما عبد الله حمدوك فلا يجب الحديث عنه كثيراً، فقط نقول له " لا في العير أنت ولا النفير"

Pin It

المجلس السيادي والحكومة الانتقالية وضبط التصريحات:

 

 

 

Image result for ‫احمد بابكر بعثي‬‎

 

 

 

د، أحمد بابكر

يعيش السودانيون هذه الأيام عبق ذكرى بداية انتفاضتهم الجسورة والتي كتبت صفحات مشرقة شكلت إضافة استثنائية في سجل الثورات على مستوى التاريخ الإنساني.
توقع الثوار ان تدار هذه الثورة بذات الاستثنائية والعظمة، ولكنها كأي تجربة إنسانية تحدث بها أخطاء لتنضجها وتصححها بالممارسة.
لذلك سوف اتحدث بشكل عام عن أهمية ضبط التصريحات والتي يجب أن تتوافق مع مقتضيات الوظيفة التي يشغلها الوزير او عضو المجلس السيادي، لتضيف بعداً إيجابياً لمسيرة الثورة:
اولا: يجب أن يعلم جميع اعضاء السلطة الانتقالية (المجلس السيادي ومجلس الوزراء) انهم الآن وبحكم الموقع مسؤولين عن كل الشعب السوداني سواء كانوا مؤيدين أومعارضين.
تانيا: يجب أن تكون تصريحات المسئولين محكومة بمهامهم التي نصت عليها الوثيقة الدستورية وأن لا تعبر عن رؤاهم ومعتقداتهم الخاصة... فهذه سلطة دولة وليست مؤتمر لنشطاء سياسيين.
ثالثا: عليهم التركيز على انجاز المهام الملقاة على عاتقهم وعدم الغرق في التصريحات.. (كترة الكلام بتجيب اللوم).
رابعا: يجب عليهم فهم طبيعة المرحلة وحساسيتها وان لاينجروا لتصريحات مستفزة لا تشكل أولوية في عملية التغيير الآن.
سوف اسرد بعض المواقف التي كان على هؤلاء المسؤولين التحلي فيها باليقظة والحكمة:
سوف نتحدث اولاً عن مجلس السيادة:
١. المكون العسكري في المجلس السيادي لديه ميل مستمر لإظهار ان لهم الدور الأكبر واليد العليا وأنهم من يقرر في كثير من القضايا متجاوزين بذلك وصفهم الدستوري.
نلاحظ مثلا الخطأ الكبير الذي ارتكب في بعض بنود مؤتمر جوبا مع الجبهة الثورية، حيث تم التوقيع على اتفاق تضمن تأجيل قيام المجلس التشريعي وتعيين الولاة، بالإضافة لأنهما شكلا خرقاً دستورياً؛ فإن عدم تنفيذ هذين البندين أضر كثيراً بصعود الثورة.

تانياً: تصريحات البرهان لقناة الجزيرة حيث أجاب بطريقة تظهره وكأنه من بيده الحل والعقد في قضايا خلافية سواء كان موضوع تسليم المخلوع للجنائية او الموقف من تواجد الجنود السودانيين باليمن.
رغم ان الإجابة المناسبة والمنطقية هي توضيح أن هذه المواضيع قيد التشاور مع الحكومة لما يحيط بها من تعقيدات داخلية وإقليمية ودولية.

بالنسبة للمكون المدني في المجلس السيادي؛ فإن تصريحات بعض أعضائه تشكل كارثة حقيقية، فمن واجبهم عكس الوجه الحقيقي لما يريده الثوار من المجلس السيادي، من رصانة وتحلي بالمسئولية، لكن مواقف بعضهم أقرب لمواقف الناشطين من مواقف أعضاء مجلس السيادة..
مثلا عضو مجلس السيادة الأستاذ التعايشي الذي مازال يتعامل بعقلية الكادر الطلابي..
فالمعروف ان بعض مهام أعضاء مجلس السيادة يشمل رعاية اللقاءات والقوافل والمشاريع وووالخ... ، لكن ان يشارك التعايشي في مؤتمر الكنابي والذي تم فيه طرح ان سكان الكنابي يتعرضون للتهميش والاقصاء الاجتماعي والعنصرية والاستغلال الاقتصادي من قبل مواطني الجزيرة، وبرعاية التعايشي لمثل هذا الخطاب يكون قد انحاز إلى جزء من مجتمع الجزيرة ضد الجزء الآخر، مع انه يجب أن يمثلهم جميعا...
لاحرج على الأخوة في مؤتمر الكنابي ان يقولوا مايشاؤون ولكن على اي مسؤول أن لايتورط ويساند طرف ضد الآخر.
كذلك تصريحات بعض المسؤولين المدنيين عن العلمانية وعن الإسلام السياسي وشكل الدولة وخلافه ، رغم أن هذه القضايا ليست من اختصاص السلطة الانتقالية، بل هي قضايا حسمها من مهام بالموتمر الدستوري....
هذه الحكومة ليست منحازة لايديولوجيا ضد أخرى بل لديها مهام معينة عليها القيام بها.

خاتمة:
بخصوص إزالة التمكين وتصفية ركائز الإنقاذ، هذا الأمر مقصود به سلطة الإنقاذ وليس فكر الاسلاميين، فقضية الفكر يتم التعامل معها ضمن سياقات أخرى لاعلاقة لها بسلطة الدولة

Pin It

الفيدراليات الثقافية "خدار القلب"و"دنيا يا فراقة" "الجدي"

صلاح شعيب

ما بين بيئة البطانة الساحرة، ومروج كردفان في موسم النشوق إليها، تنقلنا مغنيات جدد إلى دهشة النغم، والإيقاع، في البلاد..فنكتشف أن جيلنا الجديد أكثر قومية في حسه الفني، فهن يعالجن غناء السودان وإن لم ينتمين إثنياً، أو ميلاداً، إلى بيئات فيه.

وذلك ما كان يستهدفه ملحن "صه يا كنار" ليمنح من لا صوت له غناءه في البث القومي. فجاءت “يا أم قرقدي جبدي كان يبقى زي حقي دي”، و"يوم بيوم نبيع الكمبة"، و”جابو لي سرو”، و"قابلتو مع البياح"، والأخيرة استثمرها الجيل الجديد بمعالجات روعة. بل خرقت الحدود، وعالجها جيراننا الأثيوبيون، ومنحوها جمالاً فوقَ جمال. وملحن "صرخة روت دمي" تعرض للسخرية من الراكزين في العملية الفنية لكونه خرج عن المسار بقوة عين. وقاده الاختلاف مع الاساطين النغمية لاستخدام عبارات قاسية ضدهم فاعتزل تعاونه معهم، وراح ليغرد في شمبات عبر فرقة البساتين التي تعكس تنوعنا الفني. واعتقد أن ملحن "ابني عشي يا قماري" يعدُ أول من نبه من الزاوية الثقافية - الفنية إلى إصلاح نظرة المركز، قبل تيارات "الغابة والصحراء" و"مدرسة الخرطوم التشكيلية" و"ابادماك". ولكن لا حياة لمن تنادي، ولا صوت يعلو فوق صوت المؤسسين آنذاك.

خلافاً للجيل السابق الذي انسجن في الاستجابة لذوق الطبقة الوسطى تجد ابنة الجزيرة فهيمة تضرب في قفار الشرق فتأتينا بجمال نغم، ولغة، البداويت، وتسافر إنصاف فتحي المولودة في الخرطوم إلى كل بقاع السودان، وتأتينا بنغم حلو: خدار القلب، وإيمان الشريف تضرب في مشارف النهود فتخرج باغنية "دنيا يا فراقة"، وشادن كذلك تبدع في كردفانياتها، وبت أم روابة تضرب في مناطق الشكرية. وقبل ذلك نهلت نانسي تواً من بيئة الحمر مرة واحدنا فأتتنا باندرية:

إذن، صرنا لا نحتاج فقط إلى فنانين من المنطقة ليأتوا لبوابة الإذاعة ليدخلوها آمنين، أو يرفضوا دخولهم لتقديم أغاني الريف، وإن سجلوا لهم بثوا أغنياتهم مرة واحدة عبر برنامج الربوع الأسبوعي ثم تذهب أعمالهم للأرشيف. وأحيانا لقلة أجهزة "الريل" يستعين القسم السياسي بتسجيل رحلات السيد الرئيس فوق هذا التراث الوطني. وقد حدث هذا الأمر في زمن الراحل الطيب مصطفى فكان كلما شح إيراد أشرطة البتيكام للتلفزيون "خمشوا" من المكتبة الغنائية ليمسحوا المادة حتى تحل محلها أخرى عن "ساحات الفداء". فتأمل.

على كل، هذا الذي يفعله جيل فهيمة هو ما يعضد الوحدة الوطنية التي بذلتها "هنا أمدرمان" بحكم الوقت، وتأثيرها السياسي، والاجتماعي، والفني آنذاك. ولأن الأستاذ محمد نور الدين كان زعيم المشرعين الثقافيين حينها، وبجانبه الذين يرومون خلق سودان غنائي موحد، فلم يكن متاحاً هذا التفجير الجديد لإيقاعات سودانية أصيلة مثل العرضة، والمردوم والكاتم، والجابودي. والغريب أنه كان متاحا لذلك الجيل الستيني مثلا أن يستعين بإيقاعات الريقي، وذلك الإيقاع الاسكتلندي الذي وظفه أحمد المصطفى في أغنية "ما أحلى ساعات اللقا".

الكبت الرسمي الذي واجه إيقاعات الجهات الخمس ينتشر الآن لدى الجيل الجديد بصورة خرافية في زمن ضعفت موصلات المركز في التأثير جمعياً. بل إننا في السنوات الأخيرة وقفنا على مئات المحاولات من الجيل الجديد لتجديد غناء الدلوكة، أو العرضة، أو السيرة، وهو إيقاع ينتشر في كل منطقة في البلاد، وإن اختلفت ضرباته الإيقاعية.

معظم السودانيين تحدروا من أجداد رعاة، ومزارعية، وقوة دفاع السودان، ولكن نخبتهم حين يحوزون على السلطة يتنكرون للريف، ويسيرون ضده إذيؤدلجون المركز ثقافياً، وفنياً، وبالتالي يسمدون للحرب. ذلك في حين أن التعدد النغمي، والإيقاعي، يثري إبداعنا بمثل ما هو حادث الآن، حيث يتعرف الناس على ثراء الغناء في بيئاتنا بعد أن ضيقنا واسعه.

الدكتور عبدالله علي ابراهيم نبه باكرا إلى وجود أكثر من مساق فني ما يُصعب تدجين كل السودانيين في مساق واحد يساقون إليه بواسطة سياسات ثقافية لم يتوافقوا عليها. وذلك في معرض نقده لتيار الغابة والصحراء الذي سعى لهجنة مركزية تستوعب المركز، وأرياف السودان، دون الاعتراف بخصوصياتها. واعتقد أنه بعد سنين من التخطيط الثقافي اثبت هذا الجيل عمليا صحة وجود مساقات غنائية مملوءة بالجمال، وتضع المساقات الغنائية الأخرى في تحدٍ لتجويد منتجاتها. وهذا هو المطلوب. فكل تيار له لونيتته، ولا يلغي الآخر. بل تكون هناك استلافات إيقاعية مثلما شهدنا توظيفاً للدليب، والمردوم، والفرنقبيا، والجراري، من خلال نمط أغنية أمدرمان. والأكثر من ذلك أن تم تم بنات كوستي أنقذ هذه الأغنية من رتابة الإيقاع، واستلهم منه كل الفنانين بعد أن كانوا حذرين تجاهه في أول الأمر. إذن التثاقف الفني يثري كل جنس غنائي ليعبر في خاتم المطاف عن قزحية إبداعية تعبر عن البلاد، وحقيقة مساقاتها الثقافية. وهذا أمر لازم، وشئنا أو أبينا، فإن مستقبل تأثير وسائط التواصل الاجتماع - مع تراجع تأثير الإذاعة والتلفزيون في السنوات الأخيرة - سيُحمل مبدعي الريف أيضا تقديم نماذجهم، والتي ستتطور أكثر، وأكثر، مثلما تطورت الاغنية الامدرمانية من همهماتها إلى هذا المستوى الذي لحنت فيه الشعر الرمزي.

الساسة الجنوبيون كانوا متقدمين سياسيا فدعوا إلى الفيدرالية الثقافية في الخمسينات بوصفها الحل، ولكن خُدعوا بعد الاستقلال، وأجبروا على خوض الحرب. ومرة ثانية دعوا للسودان الجديد في إطار البلد الواحدة، ولكن أُعلن عليهم الجهاد. والآن يستبطن السياسيون تراث قرنق ولا يستطيعون أن يخرجوا منه، ولكن بعد أن حرقنا النسل، والزرع.

لا يوجد حل لمعضلة الهوية الثقافية إلا اعتماد هذه التفانين الفيدرالية السودانوية كمدخل لتنمية الإبداع الوطني، وتجربة هذا الجيل الذي تمرد على مساقنا الثقافي المركزي أثبت أن هذا الخصب الفني له علاقة بالعزم السياسي الشاب الذي تمرد على المساق السياسي الإسلاموي فخلق ثورة ديسمبر. على أن تبقى الثقافة المركزية ممثلة لكل هذه الفيدراليات الثقافية، تتغذى بها نحو المثال القومي، وتستلف منه في ذات الوقت.

Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

358 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع