ابحث عن

الخرطوم: الخميس ٢ فبراير ٢٠٢٣

بقلم : محمد بدوي

جاءت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين برفقة وفد أمني إلي الخرطوم في ٢ فبراير٢٠٢٣ ولقائه برئيس المجلس السيادي الانقلابي الفريق أول عبدالفتاح البرهان، ووزير الخارجية المكلف الدكتور على الصادق، وفقا للتصريحات من إعلام مجلس السيادة السوداني أن الزيارة بحثت 

 

" سبل إرساء علاقات مثمرة مع إسرائيل وتعزيز آفاق التعاون المشترك بين الخرطوم وتل أبيب في مجالات الزراعة والطاقة والصحة والمياه والتعليم لاسيما في المجالات الأمنية والعسكرية، حث الجانب السوداني الجانب الإسرائيلي على تحقيق الاستقرار بين إسرائيل والشعب الفلسطيني"

اقتباس 

بينما حملت وسائل الاعلام الاسرائيلية أن اللقاء حمل الي جانب ذلك 

 

" انضمام الصوت الإسرائيلي لتسليم السلطة للمدنيين، التوقيع النهائي على الجهود التي ترعاها الرباعية قد تكون في واشنطن، مساندة الادارة لمسالة التطبيع بين الخرطوم و تل أبيب"،

 

 بالتزامن مع الزيارة غرد الصحفي الاسرائيلي إيدي كوهين على توتير قائلا"

 

" قطار التطبيع ينطلق مجددا، تشاد والسودان على خطي المغرب، الامارات،البحرين،مصر، الاردن، السلطة الفلسطينية،اندونوسيا و الخ ...." 

لابد من الاشارة الي ان الخرطوم وقعت اعلانا مع تل ابيب في ٢٠٢٠ لكنها ارجأت التطبيع الي مهام البرلمان القومي المنتخب، من ناحية التوقيت جاء اللقاء عقب عودة بنيامين نتنياهو الي رئاسة الوزراء، لتعود اسرائيل لمساعيها لدي الخرطوم عبر مدخل اعلان مساندة أجندة الرباعية، في كشف لتنسيق بينها والادارة الامريكية، تغريده ايدي كوهين في تقديري لمخاطبة الشارع الاسرائيلي عقب عودة نتنياهو حيث ظلت قضيتي التطبيع واعادة اللاجئين السودانيين بتل ابيب جندان محوريان لنتنياهو كما انها من الراجح سعت لقراءة ردود افعال الشارع السوداني حيال الأمر، اذن هنالك سؤال عن هدف الزيارة الرئيسي طالما ان هنالك تلميح بارجاء بحث التطبيع عقب تسلم المدنيين للسلطة ؟

في تقديري أنه بهدف بحث فرص للوجود الاسرائيلي على البحر الاحمر، وهو ما يفسر مرافقة الوفود الامنية، ويدعم هذا السباق المحموم حول البحر الاحمر منذ ٢٠١٧ بين الادارة الامريكية و روسيا، لكن الاهمية لإسرائيل انها تسعي لذلك وهي اكثر الاطراف التي تعاملت مع الواقع عمليا حيث وجهت حوالي ١٠ ضربات داخل الاراضي " شرق السودان والخرطوم" السودانية خلال فترة سيطرة النظام السابق، وتتركز الاهمية الاخري بموقف اسرائيل التي تشير وسائل الاعلام بان ايران تتهمها بالوقوف خلف الضربات التي استهدفت بعض المواقع داخل اراضيها .

تعقيدات المشهد كشف عنها تصريح لنائب رئيس المجلس السيادي الانقلابي الفريق أول محمد حمدان دقلو حملت " عدم علمه بالزيارة"، بينما اكدت وكالة السودان للانباء عن زيارة لوزير الخارجية الروسي للخرطوم الاربعاء ٨ فبراير ٢٠٢٣ تزامن الزيارة مع زيارة مبعوثي فرنسا، النرويج، أميركا، بريطانيا، وألمانيا ومبعوثة الاتحاد الأوربي للقرن الأفريقي

في تقديري ان الخرطوم صارت العاصمة الاهم افريقيا عقب احداث افريقيا الوسطي الاخيرة، لان ما يحدث هناك مرتبط ايضا بصراع النفوذ على البحر الاحمر للوجود الروسي كعامل مشترك، بالمقابل كشفت بعض المصادر عن تزايد الحشد العسكري هذا الاسبوع بكل من الحدود على افريقيا الوسطي وبورتسودان يظهر النفوذ الروسي المرتبط بتحالفاته بالخرطوم ..

 

مع ختام ورشة اتفاق السلام بالخرطوم ودخول ورشة القاهرة اليوم الرابع فان المحتمل ان يحمل كل طرف توصياته استعداد لجولة بين الطرفين بعاصمة جنوب السودان جوبا، حيث الراعي للاتفاق الرئيس سلفاكير مياردت، لكن من جانب آخر ورشة القاهرة قد تعزز دورها في حالة ليبيا في ظل استمرار وجود قوات لبعض قادة الحركات المشاركة في الورشة بها، ليظل السؤال الأهم هل سيعود قادة المشاركين الي الخرطوم قبل ٨ فبراير ٢٠٢٣ ! 

 

الخلاصة: ارتباط استقرار السودان باستقرار دول الجوار هو ما يجعلها المسرح الافريقي الاهم في سياق صراع الموارد والنفوذ الاقليمي والدولي، في ظل هذا المشهد تظل كل السيناريوهات محتملة قبل ٨ فبراير٢٠٢٣، وبعده فقد تكشف نتائج اللقاءات المحتملة في ذاك التاريخ عن مسار العلاقة بين أطراف المكون العسكري من جانب ومستقبل الاتفاق الاطاري من جانب آخر، اذن ما هي الملاح والتطورات في صباح ٩ فبراير ٢٠٢٣.

 

 

 

 

 

 

Pin It

سلام السودان " أتفاق جوبا" ٢٠٢٠.. وجدل جراحة التقويم

بقلم : محمد بدوي

 

مع استمرار اطراف الاتفاق الاطاري التفاوض حول الاجندة المرحلة أعلن عن ورشة "تقييم وتقويم اتفاق سلام السودان ٢٠٢٠" ، قبل ذلك لابد من الاشارة الي أنه بغض النظر عن نتائج الورشة يشير الواقع الي ان الأستاذ الطاهر حجر قد عزز مقعده بالسيادي على خلفية تعيينه رئيسا للجنة استئنافات لجنة محاربة الفساد وتفكيك نظام ال٣٠ من يونيو ١٩٨٩، وكذلك الدكتور الهادي ادريس الذي اشار اليه نائب المجلس السيادي الانتقالي الانقلابي وقائد قوات الدعم السريع " بوصف" رجل الدولة " في ٣ يناير ٢٠٢٣ بزالنجي بولاية وسط دارفور، دون الخوض فيما سقناه من قراءة نقدية في مقالات سابقة عن الإتفاق، أود تناول بعض النقاط التي ارتبطت باستناد الورشة على مسودة دستور اللجنة التسيرية النسخة عقب التعديل والتي لم تحظ بنشر رسمي حتى الراهن.

أولا : في تقديري أن ما ستسفر عنه الورشة من الراجح انها ستشمل تعديلات في الفترة الزمنية للاتفاق لتتسق مع الفترة المقترحة للفترة الانتقالية حسب المسودة هي ٢٤ شهرا، اضافة الي النظر في التعارض بين المواد التي شكلت سيادة لنصوص الاتفاق سواء في مسار دارفور او المنطقتين على نصوص الوثيقة الدستورية ٢٠١٩" مع وقف التنفيذ ، بالإضافة الي المسارات التي نتجت من اتفاقيات الوسط والشمال والشرق نتيجة للتزيد وخطل المنهج، ما يرجح خضوعها جميعا او بعضها للإلغاء ولا سيما عقب التطورات الراهنة من بروز مجلس نظارات البجا،و درع الشمال بالإضافة الي ظهور بعض قادة المسارات الاعلامية ما لفت الانظار الي القدرات القيادية وجدوي المسارات كذلك المواقف من انقلاب ٢١ اكتوبر٢٠٢١ ، اذن الورشة قد تسبق مخرجاته ورشة ملف شرق السودان المدرجة في جدول اطراف الاطاري .

ثانيا: الاحداث التي شهدتها ولاية غرب كردفان واقاليم دارفور والنيل الازرق ولا سيما في يوليو واكتوبر ٢٠٢٢ تفرض سؤال جوهري حول نصوص السلطة في الاتفاق بين المجموعات الموقعة والمجموعات الاخري بما يشمل المتضررين من الحروب في المناطق او الاقاليم المنحدرة منها قادة الحركات، وعلاقتها بالاستقرار والسلام والمصلحة العامة عقب ٢٧ شهرا من سريان الاتفاق .

ثالثا : الفدرالية غير المنتظمة التي برزت في اتفاق جوبا ستقود الي أن مخرجات الورشة ستسبق المؤتمر الدستوري المطلوب للنظر في القضايا الجوهرية وهنا يبرز تحدي سؤال المنهج الذي استندت عليه الاتفاق في بدايته .


رابعا : تزامن الحدث مع زيارة وفد الحرية والتغيير الي عاصمة جنوب السودان جوبا من الراجح انه بصدد الطلب من الرئيس سلفاكير مياردت الذي يرعي اتفاق السلام الأذن لاجراء التعديلات المقترحة على نصوص الاتفاق، كما اشرنا فمن الراجح أن تشمل مسارات ( الوسط، الشرق والشمال) بالإضافة الي ملفي السلطة والثروة، ولا سيما اتفاق المنطقتين التي شملت بعض نسبها ولاية غرب كردفان لعل هذا ما يكشف مواقف الحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة مالك عقار، العدل والمساواة وحركة تحرير السودان قيادة مني مناوي الرافضة للاتفاق الاطاري.


خامسا: محور التقييم هو اختبار الاتفاق في الفترة المنصرمة ونسبة قبوله على الارض، قدرته على ملامسة مطلوبات تحقيق السلام، وعلاقة النصوص بثقافة الديمقراطية ؟ ننتظر ما ستسفر عنه الورشة التي في الغالب تعتمد على نتائج زيارة جوبا، ثم ردود افعال الاطراف ولا سيما أن وسائل الاعلام كشفت عن رغبة رئيس الوزراء الاثيوبي ابي أحمد لقاء جناحي الحرية والتغيير اثناء زيارته للخرطوم .

أخيرا : عندما تعرض أتفاق جوبا للنقد الموضوعي ثارت ثائره بعض المجموعات بأن النقد رفضا للسلام وتحققه، وحينما حدث الانقلاب تم تبرير الانحياز بالمحافظة على السلام، ومع تطاول الانقلاب غاب مجلس شركاء السلام، واليوم يعود بعض اطراف الاتفاق سعيا نحو جراحات امنة للاتفاق ...فهل من الممكن ذلك !

Pin It

دولة النهر والبحر: من مأمنه يؤتي المركز (1-2)

 

 

عبد الله علي إبراهيم

بين دعوات تقرير المصير-الانفصال المتكاثرة في السودان بدت الدعوة ل"دولة النهر والبحر" نشازاً. فأهل هذ الدولة هم بالتحديد من تشكل منهم "المركز" الذي نهضت في وجهه حركات تقرير المصير والانفصال في الجهات التي عُرفت ب"الهامش" في جنوب السودان ودارفور وإقليم النيل الأزرق. فشمل إعلان الدعوة لهذه الدولة (29 أغسطس 2020) 10 ولايات من ولايات السودان ال 18غطت وسط السودان وشماله وشرقه. وبدا من الدعوة وكأنها "قلب للمنضدة". فإذا اتفق لغيرهم أن حل مشكلتهم في السودان في الانفصال عنه فهم أيضاً يرون "الحل في الحل" في عبارة قديمة شهيرة لسياسي سوداني. ولعل الوارث يرث حجراً.

ليست هذه أول دعوات انفصال "النهر والبحر"، إذا استخدمنا العبارة الطارئة، حيال نهوض قوى الهامش بالسلاح وغير السلاح لتقرير المصير. فكان في المركز، الذي يتشكل افتراضاً من أهل النهر والبحر، حشمة وطنية تمسكت بها بوحدة البلاد صدقت أم لم تصدق. ومع ذلك صدع بالدعوة للانفصال أفراد أو جماعات منه هنا أو هناك. وكان خطابهم بالانفصال مع ذلك هامشياً على حواف خطاب الوحدة.

ومن المؤسف أن كانت هامشية خطاب انفصال النهر والبحر هذه سبباً لإهماله أن لم نقل تكفيره. وبلغ ذلك الإهمال حداً تمنى أجنبي مختص في الدراسات السودانية يوماً لو كان له ممثلون في مؤتمر انعقد لمناقشة مسألة جنوب السودان في النصف الثاني من الثمانينات. فقال إنه وجهة نظر استحق أن نستمع إليها في مناقشة انعقدت عن مالآت البلد.

ثم خرج هذه الخطاب للعلن في أعقاب اتفاقية السلام الشامل بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان في 2005 من فوق منصة حزبية جهيرة هي منبر السلام العادل. وتزعم المنبر الطيب مصطفى بعد أن كان فارق إخوانه في المؤتمر الوطني، حزب دولة الإنقاذ. وأصدر صحيفة "الانتباهة" التي جعلت انفصال الجنوب من الشمال، أو العكس، خطها لا محيد عنه. وكانت الصحيفة الأولى توزيعاً في جنوب السودان قبل شماله. واشتهر عن الطيب، الذي رحل عنا في جائحة الكرونا منذ سنتين، أنه ذبح ثوراً أسود يوم اختار الجنوب الانفصال كرامة رفعت البلاءـ أو كما قال.

مما يزكي الاهتمام السياسي والفكري النافذ بدعوة النهر والبحر وسياساتها أن خطاب الانفصال الشمالي ما يزال مما يدير عنه قادة الرأي والسياسة وجههم إلى الناحية الأخرى متى طرأ. فلم نتعلم من وقوع انفصال الجنوب الفاجع (لأسباب لعل أهونها الطيب ومنبره وصحيفته) دروسه في بناء الوطن.

وسيظهر لك فشلنا في استيعاب هذه الدروس في الوحدة الوطنية متى استمعنا إلى خطاب النهر والبحر في الوسائط الاجتماعية. فتجد دعاته يقفون على مقدمات صحيحة إلا أنها تسوقهم إلى نتائج وخيمة من جراء تاريخ معاصر للسودان مشوش أو عشوائي. فهم يبدأون من حقيقة أن السودان مما جمع فيه الاستعمار، سجن الشعوب في قولهم، أخلاطاً من شعوب وقبائل متباينة تاريخاً وثقافة. وهذا من المعلوم بالضرورة عن الاستعمار الذي اصطنع أكثر حدود أفريقيا في مؤتمر برلين 1985 الذي تجاحد فيه الأوربيون حول تملك أراضي أفريقيا.

ومع هذا ربما كان السودان أقل الدول تضرراً من اصطناع الحدود. فجغرافيا السودان الحالي، تزيد أو تنقص، تاريخية. فهو بلد موروث من دولة الخلافة التركية (1821-1881) ومن دولة وطنية هي المهدية (1881-1889) تطابقت في كليهما الحدود بصورة لا بأس بها. وجاء الاستعمار الإنجليزي علناً لاستعادة السودان كما عرفناه كما سنرى.

فإذا صح خطاب النهر والبحر في المقدمة عن اصطناع الاستعمار لحدود مستعمراته نجده أخطأ الاستنتاج منه. فمن رأيهم أن الإنجليز قصدوا من هذا الخلط ارباك الدول التي اصطنعها متى ما خرج منها. فالخلط في نظرهم "مقلب" ظللنا نعاني ويلاته حرباً ذات كلفة عالية في النفس والمال. وعقيدة النهر والبحر أن بالسودان هويتين: زنجية تنتمي إلى أفق أفريقي ونهرية تنتمي لمصر والحجاز والبحر الأبيض المتوسط. ودارفور عندهم مما انتمى إلى الأفق الأفريقي. فظلت قائمة على مملكتها التاريخية بعد غزو الإنجليز للسودان في 1898. ولم يتفق للإنجليز ضمها للسودان إلا في 1916. ويتخذ دعاة النهر والبحر من تأخر دارفور في الوفود إلى السودان حجة على أنها لم تنتم إليه إلا عن طريق الخطأ في أحسن الأحوال.

ونواصل

 

Pin It

دولة النهر والبحر: من مأمنه يؤتي المركز (٢-٢)

عبد الله علي إبراهيم

 

بين دعوات تقرير المصير-الانفصال المتكاثرة في السودان بدت الدعوة ل"دولة النهر والبحر" نشازاً. فأهل هذه الدولة هم بالتحديد من تشكل منهم "المركز" الذي نهضت في وجهه حركات تقرير المصير والانفصال في الجهات التي عُرفت ب"الهامش" في جنوب السودان ودارفور وإقليم النيل الأزرق. فشمل إعلان الدعوة لهذه الدولة (29 أغسطس 2020) 10 ولايات من ولايات السودان ال 18غطت وسط السودان وشماله وشرقه. وبدا من الدعوة وكأنها "قلب للمنضدة". فإذا اتفق لغيرهم أن حل مشكلتهم في السودان في الانفصال عنه فهم أيضاً يرون "الحل في الحل" في عبارة قديمة شهيرة لسياسي سوداني. ولعل الوارث يرث حجراً. 

سبقت دعوة النهر والبحر دعوة مماثلة في 2010 عرفت ب"العرنوبية". وتمثلت جغرافيا هذه الدعوة في فضاء النهر والبحر نفسه. غير أن اسمها راجع إلى ثقافة هذا الفضاء التي هي مزيج من ثقافة العرب المسلمين الوافدة للسودان منذ القرن التاسع الميلادي وشعب النوبة والبجا التاريخي. وهذه الهجنة هي الحبل السري الحضاري لشعوب العرنوبية والتي تشكل أساساً لقيام دولة قومية منهم. والعرنوبية حالة زهد في الوطن السوداني الواحد سبقت النهر والبحر. ونفى منظروها أن دعوتهم عرقية. فهامش الوطن، في قولهم، قد رفع السلاح طلباً لتقرير المصير بينما يتعلل الشمال بأنه، متى سقطت حكوماتهم الديكتاتورية، تراضى الجميع على الوحدة الوطنية. وهذه في نظر الداعين للعرنوبية خطة كاسدة. فلن يتعافى الانفصالي من انفصاليته. ولا غضاضة.  

وأكثر زهادة النهر والبحر في الوطن هي نقص حاد في التاريخ. وسأل أحدهم مرة لماذا لا نحصل على النتيجة المرجوة من ثوراتنا. وكان رده أن سببه التاريخ الغلط الذي نأتي به إليها. فلا يقوم دليل على قول النهر والبحر بأن دارفور زنوجية منبتة عن العرب ودوائرهم في الحجاز والبحر المتوسط. فأقام سلاطين مملكة دارفور علاقات وثقى مع الدولة العثمانية منذ نهايات القرن الثامن عشر اضطربت الروايات عنها. فبينما رأى السلاطين أنها ضمنت استقلال مملكتهم جاءت نصوص صريحة من العثمانيين بتبعية دارفور لمحمد علي باشا. ومن عزة سلاطين دارفور بعلاقتهم بالعثمانيين أن سمى السلطان عبد الرحمن نفسه على أختامه ب"الرشيد" التي حيّاه بها السلطان سليم الثالث (1789-1807) وهو يتلقى هداياه.

صحيح أن الإنجليز لم يستولوا على دارفور إلا بعد 18 عاماً من "استعادتهم" لمعظم السودان، كما تجري العبارة. ولم يكن تباطؤهم ذلك زهداً في تملك دارفور كأرض سودانية. كان وراء تأخرهم اعتبارات لوجستية وشواغل مع الفرنسيين الذين كانوا عند حدود دارفور الغربية. ولن نفهم ذلك التباطؤ على وجهه الصحيح إلا باعتبار أمرين. أولهما أن الإنجليز أقروا سلطان دارفور عليها شريطة دفع جزية سنوية بمثابة اعتراف بتابعيته لهم. والأخير، وهو الأهم، أن اتفاقية الحكم الثنائي بين بريطانيا ومصر (1899) شملت في السودان المناطق التي سبق للحكومتين "استعادتها" مثل الخرطوم والجزيرة والشرق علاوة على "المناطق التي ستستعيدها الحكومتان معاً" مثل دارفور. فلم يتأخر الإنجليز عن احتلال دارفور سهواً حتى طرأ طارئ قادهم إليه. كانت دارفور في واقع الأمر أرضاً سودانية "استعادتها" للأملاك المصرية فرض وجوب. وصح بذلك النظر في تأخر الإنجليز عن احتلالها في غير ما تهيأ للنهر والبحر، وحتى لانفصالي دارفور أنفسهم، من أنها إضافة عشوائية للسودان.  

ما تزال الدعوة لدولة النهر والبحر خطاباً على الوسائط بين شباب زهد في وطن طالت الحرب فيه واسقمت. ولن تجد صدى لها في دوائر الرأي والفكر المتنفذة. فلم تعقد قوى الحرية والتغيير بمختلف مسمياتها مثلاً حلقات نقاش مع دعاتها الفصيحين جداً. وبدا لي أنها دعوة استقل فيها هؤلاء الشباب بموقف من الوحدة الوطنية حيال مركز منسوبين إليه شاءوا أم أبوا. وكان استقلالهم عن وجهي المركز: وجه مثل دولة الإنقاذ التي أرادت اخضاع الهامش بالحرب الزؤام دون جدوى، ووجه معارضتها التي في الحكم الآن والتي تريد استرضاءه بتنازلات مسرفة مثل اتفاق سلام جوبا. وهو اتفاق في مركز الدائرة في خطاب النهر والبحر. فلم يروا منه دارفور تجنح للسلم إن لم تزداد عنفاً. وكان سبباً للفتنة و"الحسد" التنموي من أقاليم أخرى بما فيها أقاليم النهر والبحر.

بدا لي، فوق كل هذا، أن دولة النهر والبحر لم تفكر بعد إن كانت ستنال انفصالها بيسر متى قررت ذلك من طرف واحد. وصح التحذير من هذه الاستنامة هنا باستعادة كلمة للعقيد جون قرنق. كان، وهو في طور مشروعه لبناء السودان الجديد الموحد بفوهة البندقية، إذا سمع من أحد الشماليين مللاً طالب به بالانفصال من الجنوب قال له: "خذ سلاحك وأطلع جبل أو غابة أو صحراء وحارب لانفصالك".

Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

96 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع