ابحث عن

جنوب وادي سيرا ومظاهر صراع الارض

بقلم : محمد بدوي

تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خلال الأيام المنصرمة إلي آخر بيان بتاريخ ١٣ يناير ٢٠٢٣ والذي حمل أمضاء اعلام تجمع قروبات جنوب وادي سيرا، عن معلومات مرتبطة باحتمال حدوث نزاع مسلح بمنطقة جنوب وداي سيرا، التي تقع بمحلية كرنوى بولاية شمال دارفور، وعلى وجه التحديد مناطق (عدار، قنديلات وأبوجداد )،قبل الخوض في أطراف النزاع والأسباب تجدر الاشارة الي زيارة الاستاذ الطاهر حجر عضو السيادي الانقلابي في ١١ يناير ٢٠٢٣ إلي محلية كرنوى ،منطقة ابوقمرة ووقوفه على مقبرتين جماعيتين حوت ١١٧ جثه من ضحايا الاحداث ٢٠٠٣- ٢٠٠٤ الاخري ٢٧ ضحايا في العام ٢٠٠٦، وللمنطقة رمزية في كونها مثلت أحد أضلاع مثلث كبكابية بشمال و منطقة قولو بوسط دارفور الحالية وهي المناطق التي شهدت أحداث واسعة في ٢٠٠١ قادت الي تسريع بروز النشاط اللاحق للحركات المسلحة بعد عام، ورمزية عسكرية في سياق المعارك التي دارت في العام ٢٠٠٦ بين الحركات المسلحة والقوات الحكومية وحلفاءها من المليشيات آنذاك، وهي من المعارك الكبيرة والشرسة والتي قتل فيها القائد العسكري لحركة تحرير السودان عقب تأسيسها ثم أصبح قائدا عسكريا للحركة التحرير التي يقودها مني مناوي حاكم اقليم دارفور الحالي.
تاريخيا قطنت قبائل الزغاوة بالمنطقة بما يشمل جنوب وادي سيرا قبل لجوء عدد كبير منهم الي دولة تشاد عقب اندلاع الاحداث في دارفور، بالمقابل فان راهن المنطقة الان تقطنه مجموعات اشار البيان الي انهم استقدموا من دول الجوار الغربي يرجح انها استوطنت عقب مشاركتها في سلك المليشيات الي جانب الخرطوم آنذاك.
عقب سقوط البشير وفي يونيو ٢٠١٩ زار مني مناوي بعض معسكرات اللجوء بتشاد لأول مره عقب ١٣ عاما، وعقب اتفاق سلام السودان ٢٠٢٠ برزت رغبة لعودة بعض اللاجئين الذي عاد منهم بعض القادة الاهليين مثل العمدة أبكر بشر عمدة منطقة ابوقمره الذي عاد الي السودان عقب اتفاق سلام السودان وتقع المناطق المتنازع عليها بمحلية كرنوى بشمال دارفور .
وفقا للبيانات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي بان هنالك اتصالات للتعبئة بدأت في٥ يناير ٢٠٢٣ من قبل أصحاب الأرض لاستعاده مناطقهم الأصلية التي لجوء بعيدا عنها بعد أن تم إحراقها، وتستهدف المناصرة أعضاء الحركات المسلحة المنحدرة أصولهم من تلك المنطقة وربما أن يتطور الأمر إلي لقاء تنسيقي في ١٥ يناير ٢٠٢٣، بالمقابل فإن المجموعة التي تقيم في المنطقة الآن وبعد علمها بالتطورات بدأت التنسيق لحشد المناصرة من أعضائها تحت مظلة قوات الدعم السريع.

ما يحدث هو جزء من أشكال نزاعات الأرض عقب أزمة دارفور ٢٠٠٣، والمرتبطة بالعودة الطوعية اللاجئين أو النازحين لمناطقهم السابقة أو التاريخية، والتي تتحقق بتوفر الاستقرار الذي يشكل الأمن وتوفير الخدمات بما يشمل تأهيل المناطق المتضررة سواء من الحريق أو الالغام، خلوها من مظاهر سيطرة مؤقتة مثل النشاط الرعوي أو دائمة مثل الإقامة المستقرة أو الزراعة، مع توفير الخدمات التي في الغالب ينص عليها في اتفاقات السلام أو في ميزانية الدولة أو منح المساعدات الدولية، يتم كل ذلك تحت إشراف السلطات الحكومية سواء تحت مفوضية العودة الطوعية، أو الادارات التنفيذية.

لكن في حالة دارفور برزت تعقيدات ارتبطت بسياق وجود بعض المليشيات التي كونتها السلطات الحكومية سواء من داخل الاقليم او مزاعم استقدامها من دول الجوار الافريقي الغربي في اراضي السكان الاصليين، تظل الحالة تشير الي ان الاستقرار اللاحق جاء بعد اعادة تشييد بعض القري التي احرقت من قبل المقيمين الجدد بما ابرز ظاهرة تغيير ثقافية بظهور اسماء جديدة لبعض المناطق.

إذن غياب دور السلطات في الاشراف على العودة الطوعية من الراجح انها ستقود الي نزاعات جديدة يشجع من اتساع نطاقها واستمرارها المناصرة الاثنية المرتبطة بالسلطة في التسليح باعتبار المناصرين يرتبطون بقوات مدرجة في الوثيقة الدستورية ٢٠١٩، أو اتفاق سلام السودان ٢٠٢٠، ولعل ذلك يعيد الحديث مرة اخري الا أن الراغبين في العودة الطوعية ضحايا اخرين لانقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ وضحايا لدعم بعض الحركات للانقلاب الامر الذي قاد تجميد المنح الدولية أو تمويل الدولة لتنفيذ بنود اتفاق السلام .

ما نشير إليه ليست حالة معزولة بل ستعقبها حالات اخري لارتباط الارض بالهوية بناء على ما رسخ في الوجدان من الملكية العرفية التاريخية ولا سيما خصوصيتها في دارفور حيث المنح السابق منذ سلطنة الفور جعل اسم المجموعات معرفة بالأرض بلفظة " دار " على نسق دار الهبانية، دار زغاوة، دار السميات، دار التعايشة، ودار .....و هكذا، عطفا على ذلك ولتفادي النزاعات الراجحة يجدر أن يأتي تدخل السلطات ايجابيا بما يشمل الاستعانة بالخبراء من رجال الخدمة المدنية وغيرهم ممن عملوا سابقا في تلك المناطق، وهنا أشير الي تلك الفئات على سبيل المثال لا الحصر، الضباط الاداريين، الشرطة، القضاة، البيطريين، لتولي الاشراف والتحضير لخريطة الأرض تفاديا للنزاعات، بما يشمل فك الارتباط بين الأسماء السابقة واللاحقة للمناطق.
الثابت أن هنالك وثائق عرفية لملكية الأرض، كما أن التكنلوجيا أتاحت فرص الحصول على صور بالأقمار الصناعية للخريطة قبل ٢٠٠٣ وبعدها، بالإضافة الي وثائق الخريطة الادارية للأقاليم وتشمل طبيعة السكان وأنشطة علاقات الانتاج .

استصحاب نظام الاستضافة العرفي والذي بموجبه يمكن لمجموعات استضافة اخري داخل حدود أراضيها العرفية وفقا لشروط الاستضافة، وهذا يتيح التدخل الايجابي لتكامل علاقات الانتاج الزراعية والرعوية .

أخيرا: على السلطات وقادة الحركات الموقعة على اتفاق السلام ادراك أن نصوص علاقات الأرض في اتفاق السلام رسخت للملكية القبلية دون عناء النظر أو معالجات لما نتج عن قانون سنة ١٩٧٠ الذي نص على تسجيل الارض غير المشمولة بالتسجيل تحت قانون ١٩٢٥ باسم حكومة السودان، اي بعد ٩ اعوام من ضم سلطنة الفور في ١٩١٦ للدولة السودانية، ليأتي اتفاق السلام دون معالجات أو حلول في راهن لا يزال وجدان السكان يعترف بالملكية المرتبطة بالمنح في فترة سلطنة الفور ! بل أنه قبل مناصرة اي طرف من قبل المجموعات المسلحة تحت مظلة القادة الموقعين على اتفاق السلام عليهم إدراك أنهم جزء من المسئولية ونصوص الاتفاقات القاصرة .

Pin It

السياق السياسي للاغتصاب في السودان

 
 
بقلم : محمد بدوي 
 
في يوليو ٢٠٠٤ نشرت منظمة العفو الدولية تقريرا عن الاغتصاب سلاحا في الحرب، العنف الجنسي والعواقب المرتبة عليه، صدر التقرير عن حالة اقليم دارفور آنذاك، صاعد الامر  من الاهتمام العالمي بالحالة،  فارتفع الضغوط على الخرطوم،  باعلان المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات،   لجات الخرطوم إلي  تشكيل المحكمة الخاصة بأحداث دارفور في ٢٠٠٥ برئاسة مولانا محمود أبكم،  نظرت المحكمة عدد محدود من القضايا التي تخضع للاختصاص المحكمة العامة في الاساس دون الاقتراب من  الانتهاكات في شكلها الممنهج،  كان قد كونت لجنة وطنية للتحقيق برئاسة الراحل مولانا دفع الله الحاج يوسف،  كما اصدر   الاتحاد الافريقي تقريرا عقب تحقيق  لجنة برئاسة القاضي كسياس ، ضربت الخرطوم عرض الحائط بالتوصيات  الي أن أعلنت المحكمة الجنائية الدولية أوامر قبض في مواجهة عدد من المسئولين الحكوميين بما فيهم  الرئيس  المخلوع عمر البشير ،سياق الأحداث كشف عن ممارسة العنف الجنسي بشكل ممنهج لكن استمر  رد الخرطوم عبر مواجهات اعلامية تحت دوافع التكذيب والمؤامرة على الدين 
رد الفعل الجوهري كشف عنه  عراب الاسلاميين الدكتور خسن الترابي عبر  عدة تصريحات اتسمت بالسخرية السياسية من  حملة تحدي المحكمة الجنائية، أما عن الانتهاكات الجنسية فذهب إلي   الرئيس المخلوع  حدث شخصا موثوقا بان اغتصاب" ركوب"  إمرة تنحدر اصولها  من دارفور  من رجل تنحدر اصوله من قبيلته  " يظل الاسم سالم "اليس  شرف لها!، الاجابة هي أن الانسان  لم يكن محورا في السياق الأيديولوجي للتنظيم الاسلامي ، لان حديث الترابي ليس عن معارض  سياسي من اليسار  أو عن  حدث في عهد سابق بل كان  نقلا عن قمة راس الدولة السياسية  عبر عراب التنظيم الذي " دفع به للقصر رئيسا وذهب هو للسجن حبيسا" بالإضافة الي ان الخلاف بينه والبشير تمركز حول السلطة, فانقسام ١٩٩٩ ليس  حول الافكار فرغم الاجنحة السياسية ظل هناك تنظيم واحد باسم الحركة الاسلامية السودانية،  كما لم  يكشف الترابي الحديث  في سياق بقصد الاصلاح أو مناصرة الضحايا، لغة التصريح  والجسد رجحا، قصد الكيد السياسي "شيل الحال " ، والا لاختلف الحال الي  الاعتذار ممن هو في  مقام العراب عن ما صدر من تلميذ له  تحت مظلة الفكرة ! خلاصة ما كشف عنه انذاك  ليس سوي البيان الثاني  المقابل لبيان انقلاب ٣٠ يونيو١٩٨٩  وانها " ليست لله" .
 
إذن من خلال ذلك  يمكننا الوقوف على الاسباب والدوافع الرئيسة وهي انفصام عري العلاقة بين  المشروع الحضاري و حامله ، والإنسان السوداني، عزز من الانتشار الواسع والاستخدام كسلاح في الحرب  فلسفة التمكين   المستندة على " الغاية تبرر الوسيلة" ولا تغيب عن حصافة القاري بان الغاية هي السلطة المطلقة.
 
أخيرا: لم يعد الاغتصاب سلاحا في الحرب فقط ، بل سلاحا في كل الاحوال والامكنة  مواجا الي أجساد الشعب السوداني، كان من الممكن التقدم  خطوة نحو للأمام عقب سقوط نظام الحركة الاسلامية لكن انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ أعاد الحال الي الوراء كثيرا فانتجت  تحولات تدمي الضمير الانساني ، فما بين ٣٠ يونيو و ٢٥ اكتوبر سجل سيظل حاضرا في ذاكرة الانسانية فقوم يبكون الطفل الفلسطيني محمد الدرة يثيرون دهشة الرصاصة التي اصابته في مقتل حين ترصد  اعتدائهم على طفلة أخري.
Pin It

"كلنبارتي" مَصدر البشر الأول.. هل تستعيد ذاكرة الإشعاع والإشراق والبريق؟ (٢ - ٣)

الجميل الفاضل يكتب:
بدا لافتا قبل نحو عقدين من السنوات، ان أبحاثا اجراها عالم الوراثة الإيطالي لويجي لوكا كافللي سفورزا، نشر خلاصتها في كتاب صدر في العام (٢٠٠١) بعنوان "الإنسان في الشتات.. تاريخ التنوع الوراثي، والهجرات البشرية الكبري"، كانت قد توصلت ذات الأبحاث تقريبا الي ذات نتائج معهد "Big Data" بجامعة اوكسفورد البريطانية، التي اعتبرت ان أقدم السلالات البشرية قد عاشت في السودان قبل نحو مليون سنة.
فيما أكد العالم الايطالي: أن أهمية الخريطة الجينية للسودانيين بالنسبة لبقية سكان العالم أجمع، تنبع من حقيقة أن أسلاف السودانيين يرجع إليهم، من ناحية جينية، كل البشر في عالم اليوم، وأن عنصري القِدَمْ، والتواصل المستمر، هما اكثر ما يميز الخريطة الجينية للسودانيين.
حيث أثبتت أبحاث البروفيسور لويجي: أن تسعين بالمائة من النساء السودانيات يحملن "مورثات" متصلة دون انقطاع منذ بداية نشوء النوع البشري على وجه الأرض والي يومنا هذا.
ورجح سفورزا أن أصل الإنسان وفق آراء معظم العلماء يعود إلى منطقة جزيرة "صاي" في شمال السودان الحالي، التي عثر فيها العلماء على أقدم الجينات البشرية، وتحديداً بمنطقة " كرمة ."
وكان عالم الوراثة الايطالي، قد قطع بأنّ أي إنسان على وجه الأرض، لابد أن ترجع أصوله الجينية إلى هذه المنطقة من السودان.
واضاف بأن الأصل لا يمكن أن يصنف، لعدم وجود ما يمكن ان يقارن به، مردفا بأنه إذا أردنا الوصول إلى فهم أدق وصحيح للجنس البشري، فلا بد لنا من دراسة "جينوم" السودانيين. وكشف كتاب "تاريخ التنوع الوراثي، والهجرات البشرية الكبري" ان عددا من العلماء صدر عنهم ما يفيد بأنّ السودانيين لا يمكن تصنيفهم عرقياً كغيرهم من الأجناس حسب جيناتهم باعتبار أن السودانيين هم الأصل.
وفي ذات السياق أكد عالم الآثار السويسري شارلي بونيه أنّ الحضارة النوبية هي أول حضارة قامت على وجه الأرض، وبالتالي فانها تعتبر أعرق حضارة شهدها التاريخ.
مشيرا الي أن مدينة " كرمة " في شمال السودان تعد اول عاصمة لمملكة في العالم علي الاطلاق.
ولعل من ابرز الشواهد أيضا التي تعزز فرضية أن السودان هو اصل البشرية في اوجه ومناحي الحياة المختلفة، ما أكده الباحث السوداني الدكتور جعفر ميرغني، الذي اكد أن اللغة المروية تعتبر أول لغة تم كتابتها بحروف ابجدية في العالم، اذ قال في احدي محاضرته: إن الحرف المروي هو اساس الحروف الاخري، بما في ذلك الخط الحبشي القديم، والحميري، والعربي، والاغريقي، واشار الي ان المؤرخ "هيرودوتس" اورد في كتاباته ان المرويين كانوا أول من كتب الأبجدية، وعلمها للعالم، رغم ان اللغة المروية للمفارقة ظلت الي الآن لغزا طلسميا استعصي علي الناس فك شفرته.
- ونواصل -
Pin It

"كلنبارتي" مَصدر البشر الأول هل تستعيد ذاكرة الإشعاع والإشراق والبريق؟(٣ - ٣)

الجميل الفاضل يكتب:
أن يعترف العالم اليوم، واليوم فقط، بأن السودان هو منبع، وأصل، بل ومصدر، لكامل الوجود البشري علي ظهر هذا الكوكب، بمختلف ثقافاته ومعتقداته، وتعدد أشكاله والوانه، وعلي تفاوت مستويات عيشه، وتنوع أساليب حياته، وأنماط سلوكه.
وأن يصدر مثل هذا الإعتراف العلمي العظيم، من أرفع جامعات الغرب عالية المصداقية "اكسفورد، وهارفارد"، ومن معهد البيانات الضخمة، "Big Data"، بكبري الجامعات البريطانية، ذات القيم والتقاليد العلمية الصارمة.
وأن يتم هذا الكشف والإعلان الملهم، عن نتائج مثل هذه الدراسة المذهلة، فيما ثورة سودانية ثالثة، تتصاعد علي هيئة تشبه معجزة، لتدخل عامها الخامس.
المهم بحكم الوقت، فإن لكل أول كالذي أثبتته دراسة أكسفورد مؤخرا، آخر هو لا محالة قيد التشكل الآن، لا يحجبه عن البروز والتحقق في عين المكان سوي الوقت.
إذ تظل الودائع مطوية هكذا في الخلائق، الي حين مجيء أوقاتها.
وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الودائع المكنونة، يخبئها القدر طي الكتمان، يصرف عنها الأذهان، الي حين مجيء وقت كهذا، الذي أملت فيه ضرورات القدر، علي أرفع صروح علمية في هذا العصر، الأعتراف بحقيقة ان السودان كان موئل البشرية الأول، قبل أن تتخذ لها طرائق قددا، أفضت بها الي ما صارت عليه اليوم.
هذا الضرب من الصرف او الانصراف، عن حقيقة كونية بهذا الحجم جري، رغم أن رسالات السماء كلها وكتبها، لم تخلو من إشارة الي معني وقيمة واثر لهذا السودان، الذي تمت الإشارة اليه بطريقة أو بأخري، في الأسفار التوراتية، وفي الإناجيل المختلفة، بل وفي السنة النبوية، عطفا علي أيات قرآنية، أو دونها.
أنظر كيف أن السودان ومترادفات تشير اليه قد وردت في العهد القديم "التوارة" بأكثر من خمس وعشرين موضع.
فأول ما ورد ذكره عن السودان بالتوارة يتعلق بنهر النيل، في معرض وصفه لجنة عدن التي كان فيها آدم وحواء، بانها كانت تشقها اربعة أنهر.
أحدها "جيحون"، الذي هو نهر النيل.
إذ تقول التوارة في سفر التكوين: "واسم النهر الثاني جيحون وهو المحيط بجميع أرض كوش".
وبدا لافتا جدا أن التوارة تثمن عاليا جدا روحانية شعب كوش، الذي تشيد ببسالته في الحروب، وتصفه بالمهابة من بين كل الشعوب، مقرظة طول قاماتهم، وجمال بشرتهم الناعمة (الداكنة).
حيث ورد بسفر "اشيعاء"، الاصحاح الثامن عشر: "يا أرض حفيف الأجنحة التي في عبر أنهار كوش، المرسلة رسلا في البحر وفي قوارب من البردي على وجه المياه.
اذهبوا أيها الرسل السريعون إلى أمة طويلة وجرداء، إلى شعب مخوف منذ كان فصاعدا، أمة قوة وشدة ودوس، قد خرقت الأنهار أرضها، يا جميع سكان المسكونة وقاطني الأرض، عندما ترتفع الراية على الجبال تنظرون، وعندما يضرب بالبوق تسمعون، لأنه هكذا قال لي الرب: إني أهدأ وأنظر في مسكني كالحر الصافي على البقل، كغيم الندى في حر الحصاد، فإنه قبل الحصاد، عند تمام الزهر، وعندما يصير الزهر حصرما نضيجا، يقطع القضبان بالمناجل، وينزع الأفنان ويطرحها، تترك معا لجوارح الجبال ولوحوش الأرض، فتصيف عليها الجوارح، وتشتي عليها".
وتسجل التوارة أيضا بعض الاحداث التي تمجد تاريخ ملوك "كوش"الذين حكموا مصر وحاربوا الاشوريين في مصر وفلسطين.
ومنهم بالطبع تهراقا العظيم الذي وردت الاشارة إليه بالاسم مرتين في التوارة.
مرة في سفر "الملوك الثاني"، ومرة بسفر "اشيعاء".
تصور عندما كان الاشوريون "حكام مملكة بابل"، على ابواب اورشليم دعا النبي "اشيعاء" الرب ان يحفظ شعبه منهم، وان يعينهم بملوك كوش، ليصدوا عن العبرانيين شر الاشوريين، الذين شكلوا خطرا ماحقا آنذاك على دول المنطقة.
ويؤيد التاريخ اشارة التوارة إلى الملك تهراقا، ويخبرنا ان ملوك كوش قد اخضعوا مصر وحكموها، قبل ان يمتد نفوذهم الى فلسطين وسوريا، بعد أن حاربوا الاشوريين في مصر والقدس.
ومن أشهر اولئك الملوك السودانيين، كان بعانخي وتهراقا بالطبع.
هذا في التاريخ البعيد، لكن في التاريخ الأبعد تقول الروايات: إن ابناء "شيث بن ادم" واحفاده، لما جابهتهم جبال اثيوبيا المرتفعة، ساروا شمالا بجوار الساحل الغربي للبحر الاحمر، حتي وصلوا الي وادي النيل الخصيب وعمروه، فظهر فيهم "ادريس" عليه السلام، ادريس الذي نعته كتاب تاريخ الحكماء "بهرمس الهرامسة"، وقد زعم الكتاب ان جميع العلوم التي ظهرت قبل طوفان نوح، إنما صدرت عن هرمس الأول الساكن بصعيد مصر الأعلي، وهو الرجل الذي يسميه العبرانيون، "أخنوخ النبي" بن يارد بن مهللئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن ادم، الذي هو نفسه "ادريس" النبي، الذي يصفه الكتاب بأنه: كان رجلا آدم، تام القامة، حسن الوجه، كث اللحية، مليح الشمائل، عريض المنكبين، ضخم العظام، قليل اللحم، متأنيا في كلامه، كثير الصمت، إذا مشي أكثر نظره الي الأرض، كثير الفكرة، وإذا اغتاظ احتد.
بيد أن ما يتصل بحاضر وغد السودان، الذي أثبت العلم الحديث اليوم، انه الاصل لماضي البشرية البعيد، فثمة نبوءات مستقبلية ربما أقترب اوانها، ابرزها بل وفي مقدمتها اشارة نبي الإسلام، المثيرة والموحية بحتمية الإستعانة بالسودان لإستكمال ثلة الاسلام، ففي سورة الواقعة معلم اول رواه الإمام أحمد، عن أبي هريرة، ورواه الحافظ ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، عن النبي (ص) لما نزلت الآية: "فيومئذ وقعت الواقعة"، ذكر فيها "ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين"، قال سيدنا عمر : يا رسول الله، ثلة من الأولين، وقليل منا؟ قال: فأمسك آخر السورة سنة، ثم نزل: "ثلة من الأولين وثلة من الآخرين"، فقال الرسول: " يا عمر، تعال فاسمع ما قد أنزل الله: "ثلة من الأولين وثلة من الآخرين"، ألا وإن من آدم إلي ثلة، وأمتي ثلة، ولن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان من رعاة الإبل، ممن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له".
ولعل من أكبر نبوءات آخر الزمان، ما اورده "القرطبي" في مؤلفه "التذكرة" : "من ان المهدي إذا خرج بالمغرب، جاءت إليه أهل الأندلس فيقولون: يا ولي الله: انصر جزيرة الأندلس فقد تلفت، وتلف أهلها، وتغلب عليها أهل الكفر والشرك من أبناء الروم، فيبعث كتبه إلى جميع قبائل المغرب، وهم قزولة، وخذالة، وقذالة، وغيرهم من القبائل من أهل المغرب، أن انصروا دين الله، و شريعة محمد صلى الله عليه و سلم، فيأتون إليه من كل مكان، ويجيبونه ويقفون عند أمره، ويكون على مقدمته "صاحب الخرطوم"، وهو صاحب الناقة الغراء، وهو صاحب المهدي، و ناصر دين الإسلام، وولى الله حقا، فعند ذلك يبايعه ثمانون ألف مقاتل بين فارس وراجل".
تري هل "الخرطوم" ذات الصاحب المنتظر، هي الخرطوم الماثلة، التي شرح كتاب "ذكر السودان في الصحف الاولي"، ان أول كهنة بنوا معبدا لهم عندها بمقرن البحرين، هم من أطلقوا عليها اسم "كا.. رع.. آتوم"، ويشرح الكتاب ان "كا" تعني "الروح"، و"رع" تعني "الشمس الالهية"، و" آتوم" هو الإله الخالف.
لتصبح ترجمة اسم "الخرطوم" وفق المصدر، "روح شمس الخالق الإلهية".
ويضيف المصدر ان اللفظ تدحرج علي افواه الناس الذين عملوا فيه قضما وتحويرا عبر الأزمنة، فصار "كارتوما" و"كرتوما" الي ان وصل الينا في صيغته الجارية علي السنتنا "الخرطوم".
وفي مزامير داؤد يرد القول: "ستأتيك يا الله أشراف مصر، وتسرع كوش بهداياها إليك، انشدوا لله يا ممالك الأرض، رتلوا للرب كل الترتيل".
وفي سفر "صفنيا" يرد القول أيضا: "لانى حينئذ احول الشعوب الى شفة نقية، ليدعوا كلهم باسم الرب، ليعبدوه بكتف واحدة، من عبر انهار كوش المتضرعون الئ، متبددئ يقدمون تقدمتي".
وفى سفر "الرؤيا" ذكر "اشعياء" النبى، الذى سبق وان زار السودان وقضى به ما يقارب ثلاثة سنوات قال: "فترى عيونكم اورشليم، تراها مسكناً مطمئناً، خيمة لا تنقل من مكانها، واوتادها لا تقلع الى الابد، وحبل من حبالها لا ينقطع، حيث الرب يظهر عظمته، وحيث الانهار والضفاف الواسعة".
انها "كوش" اول دولة تبتدع نشيدا لعلمها، الذي هو أول نشيد علم في التاريخ، يقول
نصه المترجم الي العربية:
"خلقنا الله فسجدنا له،
وجعل العالم ليهتف لنا،
فنحن الأوائل في كونه،
وكل البشر أتوا بعدنا،
فيا مجد كوش العظيم المجيد.
فمن في الورى يكون مثلنا،
وكنداكة تنسج ثوب المهابة
عزا وفخرا ليبقى لنا".
إذاً فإن جمرة "ديسمبر" المقدسة.. نعم المقدسة، لن يخبو اوارها، إذ أن زيتها سيضيء ولو لم تمسسه نار.
ان جمرة مضمخة بكل هذا العبق من التاريخ لن تموت.
Pin It

موقع إخباري محايد وغير منحاز لأي طرف أو جه ويقدم خدماته لجميع السودانيين والمهتمين بالشأن السوداني

329 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع