المجلد: أجوك عوض
على بعد أميال من الخرطوم وبعيدًا عن عدسات الإعلام تتسع دائرة المعاناة وتضيق الأرض بما رحبت، وينحصر معنى الوطن إزاء ما يتعرض له أبناء دينكا نقوك القاصدين الوصول للخرطوم بين الغابات الخالية و”الحيشان” المخصصة لتجميعهم ثم ترحيلهم، فلم يكن أسوأ المتشائمين منهم يتوقع أن ينطق عليهم وقائع مشابهة لما نقلتها شاشات الفضائيات وصفحات الصحف عن مأساة السودانيين في ليبيا فيما يخص تفاصيل
الاحتجازات ورحالات التهريب والاستغلال والاتجار بالبشر التي ضجت بها الأسافير استنكاراً ورفضًا؛ فمهما كانت مرارات تلك الروايات والصور التي نقلها الإعلام عن أهوال رحلات تهريب السودانيين بليبيا الا أنها تبدو مفهومة في سياق الغربة،
الاستضعاف، الحاجة والاستغلال ولكن الأمر يبدو مختلفًا تمامًا ومثيرًا لكل الدهشة والاستغراب عندما تنام عيون الرقابة وتغيب وتستغل الظروف والمتغيرات السياسية وبالنتيجة يطفح المنتفعون فيعاد إنتاج سيناريوهات رحلات التهريب والاتجار بالبشر لتنطبق روايات لا تختلف كثيرًا عن تلك التي حدثت هناك، ولكن الفرق في أن ما يحدث يحدث داخل بلادهم وعلى أيدي بني جلدتهم، وأول مسارح وفصول تلك الأحداث تبدأ في منطقة “المجلد” فما أن يفكر أحد أبناء “دينكا نقوك” في السفر الى الخرطوم حتى يتفاجأ بأنه أجنبي ولم تشفع له المواطنة والإقامة داخل بلاده، قصص أقرب للخيال، وروايات لم تكن لتصدق لولا الشهادات والوقائع والبراهين التي رواها الضحايا ولسان حالهم يردد: “إذا بغي الأهل والأقربون فكيف من العالمين الحذر” كما قال عمرو بن الأهتم لعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق. وفقاً ما تضمنت إفاداتهم.
بعد أن اجتهدت السيدة نياجانق أروب في جمع وتأمين ما زاد عن الخمسة آلاف جنيه سوداني قررت السفر الى الخرطوم بغرض العلاج بعد أن اشتدت عليها الأعراض والمرض ولما كان اختيار الصديق ضرورة قبل اختيار الرفيق كما يقول المثل الشعبي “الرفيق قبل الطريق” انضمت نياجانق لسيدتنا من بنات عمومتها كانت إحداهن تحمل طفلة تدل تقاطيعها ولونها أنها نتاج انصهار وتمازج جينات من الشمال والجنوب وتروي نياجانق لـ(الأخبار): (وصلنا المجلد الساعة الخامسة مساء فأخطرنا من قبل المعنيين بالترتيب للسفر أنهم سينظرون في صباح الغد في أمر تذاكر سفرنا بالبص، وأمضينا ليلتنا في منزل محمد أمبدي في المجلد وفي الصباح ذهبنا برفقة أخيه مهدي الى المحطة بغية حجز تذاكر السفر، وهناك علمنا بحسب ‘فادة أصحاب الباصات ـن سفر ـي جنوبي من “دينكا نقوك” بالباص بات في حكم المستحيل تماماً، فأخبرناهم بأننا نملك تصريح مرور من الـ”الجي إم سي” وهي الجهة الإدارية الموجودة في المنطقة مزيل بتوقيع العميد ركن فرح عبيد حولي عبيد رئيس لجنة المراقبة العسكرية المشتركة بأبيي فكان ردهم أنهم لا يعترفون بتصريح العميد فرح وزيادة على ذلك خاطبنا أحدهم: (سنعتمد تلك الطفلة ونسمح لكم بالسفر لأنها صفراء بدلًا عن تصريح العميد فرح) وعلق قائلهم قائلاً: (وإنتو البت دي جبتوها من وين؟، نسمح لكم بالسفر عشان البت بتنا وراجعة لينا). وتم تهريبنا الى الفولة التي وصلناها الساعة الخامسة مساء وأدخلنا داخل “حوش” كبير وجدنا بداخله عدداً كبيراً من النساء والأطفال والشيوخ ينتمون لدينكا نقوك ولم نكن بحاجة وقت لنفهم بأن ذلك “الحوش” نقطة لتجميع من يودون السفر الى الخرطوم من “دينكا نقوك” توطئة لمواصلة عملية التهريب وعلى امتداد “الحوش” مستغل أسرَّة مفروشة ونساء يقمن بتقديم خدمات تجارية لمن يجلبهم تجار التهريب؛ استفهمناهم عن الخطوة التالية ومتى نتوجه الى الأبيض؟ أجابوا بأننا سنتوجه الى الأبيض في أي وقت، لأنهم قاموا باللازم واتصلوا للتو بصاحب العربة التي ستقلنا الى الأبيض وبالفعل وصلت العربات المعنية” بص بافلو وأتوس” في الثامنة مساء وقاموا بتسجيلنا وأخبرونا بأن تذكرة نقل الفرد الواحد (2,950) واستنكرنا ذلك المبلغ الكبير فأوضحوا لنا أن مبلغ الـ(ـ2000) جنيه عبارة عن رسوم نقل العربة ومبلغ الـ(950) جنيه عبارة عن رسوم البوابات التسعة التي سنمر بها في طريقنا، فقلنا لهم وما دخلنا بذلك؟ والمعروف أن رسوم البوابة شأن بين سائق العربة ونقطة العبور فبرروا لنا بأن الحكومة لا تسمح بسفر أبناء دينكا نقوك الى الخرطوم لذلك يتوخون الحذر ويقومون بتهريبنا، فتساءلنا وما مصير من لا يملك هذا المبلغ الكبير؟ أجابوا بأن من لا يملك فلا خيار له سوى الاستدانة من الآخرين وبالفعل غادرنا ذلك “الحوش” وتركنا من عجزوا عن توفير المبلغ المطلوب من النساء محتجزات بصحبة أطفالهن). تواصل نياجانق روايتها قائلة: (وصلنا بارا فوجدنا البصات واقفة داخل الغابة، وأخبرونا بأنها ستقلنا الى الأبيض، ترجلنا من “الأتوس” وعلمنا بأنه سيعاود أدراجه الى المجلد وبعد مغادرة “الأتوس والبافلو” قدم بص وطلب منا السائق مبلغ (200) جنيه مقابل كل شخص “فقلنا لهم اتركونا نموت في هذا الخلاء بدلاً من هذا الاستغلال السيئ أجابونا بأننا لن نترككم لتواجهوا الموت فقط ليدفع كل منكم ما بطرفه حتى تصلوا بسرعة ففعلنا، وعندما استفهمناهم الى أين ستقلوننا؟ أجابونا الى ليبيا. سرنا كانت عقارب الساعة تشير الى منتصف الليل وقد غطى ظلام دامس كل الأرجاء؛ وفجأة… أوقفوا محركات المركبات وطلبوا منا أن نترجل جميعاً من البصات وقالوا لنا”خلاص وصلتو ليبيا” ولأنه لم يكن معنا سوى شابين ورجل مسن اضطررنا لتنفيذ الأوامر وترجلنا وما كان إلا أن غادرت البصات الثلاثة معاودة أدراجها وقد تركونا في ذلك المكان الموحش بغير دليل نواجه قدرنا ومعنا أطفال، فطلبت من الشابين حراسة النساء والأطفال حتى يستطعن النوم وبينما الحال كذلك لمحنا عند الخامسة صباحاً ضوءاً خافتاً لعربة بعيدة متوجهة نحونا فطلبت من الشباب إيقافها وعندما سألنا سائقها أيقرب سوق ليبيا من مكان وجودنا هذا؟، أجابنا باستنكار “ليبيا شنو؟! لسه بعيدة شديد إلا تركبوا تاني” فذهب وتركنا ولم تمضِ إلا برهة من الوقت حتى لمحنا عربة أخرى قادمة من الاتجاه الذي ذهب إليه السائق الذي سألناه وعندما بلغنا أخبرنا بأنه سيقلنا الى ليبيا مقابل مبلغ من المال فأخبرناه بأننا لم نعد نملك أكثر من خمسين جنيهاً عن كل فرد فقبل وقام بتوصيلنا الى سوق ليبيا أخيرًا.
الجدير بالذكر أن العميد ركن فرح عبيد حولي عبيد هو رئيس لجنة المراقبة العسكرية المشتركة بأبيي يقوم العميد ركن فرح باستخراج تصريح مرور عبر البوابات التسعة لأبناء دينكا نقوك الذين يعتزمون السفر الى الخرطوم والتصريح عبارة عن شهادة بانتماء حاملها لمنطقة أبيي لجهة معرفة رئيس اللجنة بأهل المنطقة بحكم إشرافه عليها بجانب استخراج شهادة مواطنة باعتماد رئيس المجلس بولاية غرب كردفان وتوقيع منسق شؤون دينكا أبيي – محلية المجلد. بيد أن كل تلك المستندات الرسمية ما كانت لتعتمد من قبل سماسرة الطرقات بحسب روايات الضحايا لـ(الأخبار)، بل يقومون بتمزيق التصريح المشار إليه بحجة أنهم لا يعترفون به.
مع اختلاف المواقف إلا أن كوات كوال ورفاقه لم يكونوا أوفر حظًا من غيرهم ويقول في روايته لـ(الأخبار): (وصلت الخرطوم قبل أسبوعين بعد رحلة شاقة استمرت ثلاثة أيام من أبيي؛ عندما حضرنا لسوق “آلييت” استقللنا عربة “لاند كروزر” نحن سبعة أشخاص دفع كل واحد منا مبلغ (450) جنيهًا وبالقرب من القولد توقفت العربة وأخبرنا السائق بأن البوابات التسعة فرضت مبلغ (250) جنيهاً عن كل عربة لتهريب”دينكا نقوك” وعلينا دفع المبلغ لكل بوابة من البوابات التسعة كل على حده فقمنا بتجميع المبلغ المطلوب وسددنا لأفراد القوات المرابطة في البوابة الأولى وسلك بنا السائق طريق الغابة بدلًا عن الردمية وعندما سألناه لماذا لم تسلك الطريق الرسمي لا سيما أن لدينا تصريح معتمد بتوقيع رئيس لجنة المراقبة العسكرية المشتركة بأبيي العميد ركن فرح، أجابنا: (إذا سلكنا الطريق الرسمي لن يسمحوا بعبوركم لذلك نعمد لتهريبكم، ليس لديكم رقم وطني حتى يسمح لكم بالسفر على الطريق الرسمي) ويمضي كوات في روايته: (علماً بأن استخراج الرقم الوطني لأبناء دينكا نقوك يتم في الخرطوم فقط وبصورة حصرية، وعندما وصلنا منطقة “بلف” تم توقيفنا أيضاً بغرض تجميع ضريبة البوابة وتكرر ذات السيناريو ودفعنا الضريبة المفروضة وصلنا المجلد عند مغيب الشمس فولجت العربة التي كانت تقلنا “حوشاً كبيراً” كان بداخله “عناقريب” وفرشات بجانب عدد كبير من الأطفال بجانب ما يزيد عن العشرين سيدة، وصاحب ذلك “الحوش “مشهور ومعروف بالاسم وهو من أبناء أبيي نفسها ويقوم بتحصل مبلغ (600) جنيه عن كل فرد داخل “الحوش” ومن ينفد كل ماله يبقى داخل ذلك السور على أن يخرج كل صباح للبحث عن عمل باليومية ليعود آخر اليوم ويسدد ما تحصل عليه كأجرة “العنقريب” ومن لا يملكون المال بالداخل كثر يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وهناك أطفال يعانون من حالات سوء التغذية ولا تملك أمهاتهم ثمن الغذاء والدواء الحال مزرٍ جداً، الصور هناك مهينة للإنسانية في جوهرها، يحدث ذلك ونحن مواطنون داخل بلدهم فأين السلطات؟! وعندما يتحرك بص بداخله أفراداً من دينكا نقوك يسارع “السمسار” بالاتصال بمن سيقوم بتسليم الركاب المعنيين في النقطة التالية ويخبره بأن لديه في العربة كذا عدد سبعة أو ثمانية (حبة سوداء) والحبة السوداء اسم متداول أطلقه سمسارة التهريب على دينكا نقوك المسافرين الى الخرطوم). وفي حال محالفة الحظ لنفر من دينكا نقوك بسفرهم عبر البص السفر يطلب منهم في نقاط التفتيش باستثناء الركاب السودانيين الآخرين بعد البحث عنهم داخل البص دفع ضريبة وبالإضافة لتعرضهم لإهانات لفظية من شاكلة: (موش انفصلتوا ما تمشوا بلدكم عذبتونا دايرين شنو؟)..
أشاي دينق سيدة في العقد الثالث كانت متلهفة لرواية قصتها لـ(الأخبار) تقول: (قصدت الخرطوم برفقة والدتي وهي سيدة مريضة لم نكن نظن أن السفر الى الخرطوم سيجردنا من كل ما ادخرنا للعلاج، وصلنا “حوش” تجميع المسافرين لم نعد نملك شيئًا وعندما شرحت لأحد السماسرة حالتنا وأننا لا نملك المبلغ المطلوب كله أجابني بقوله: “عليك البحث عن حلول مريحة لكل الأطراف ألستي سيدة؟”) وتختم أشاي بأن كرم الله قيض لها من استدانت منها مبلغًا من المال حتى تمكنت من الوصول للخرطوم والآن والدتها طريحة الفراش ولا تملك ثمن العلاج بعد أن أنفقت كل ما بطرفها من مال للوصول للخرطوم وتقول أشاي رسالتي للرئيس عمر البشير نحن مواطنون سودانيون ولكن هناك من يستغلنا أسوأ استغلال دون أن تعلم يا سيادة الرئيس).
ومن جانبه أكد عضو المجلس الوطني عن دائرة أبيي ماجط بان من أسماهم بالمجرمين يقومون باستغلال مواطني دينكا نقوك وقاموا بفتح وكالات لتهريبهم للخرطوم بمبالغ خرافية ووصف ما يتعرض له أبناء دينكا نقوك من التهريب بعمليات الاتجار بالبشر فضلًا عن الاستغلال البشع، وفي تطابق وحديث الضحايا يقول ماجط في حديثه لـ(الأخبار) يتم ترحيلهم الى الأبيض، حاولنا الاتصال بالإخوة في المجلد بخصوص بحث أسباب عدم اعتماد تصريح المرور المستخرج بواسطة رئيس لجنة المراقبة العسكرية المشتركة بأبيي العميد فرح) وبحسب ماجط فإن أبناء أبيي من دينكا نقوك ليست لديهم قصد أو موجدة شخصية تجاه أحد في إشارة لشكواهم للسيد نائب رئيس الجمهورية حسبو، وكان الأخير وعد بوضع حد لما يحدث بوضع ترتيبات لبحث أصل المشكلة، مؤكداً ضرورة مشاركة أبناء دينكا نقوك في إدارة الإشرافية من جهة السودان.
وعند معادوة (الأخبار) الاتصال برئيس الإشرافية الإدارية الخاصة بأبيي من جانب السودان حسن نمر وبعد اعتذار سابق له عن الإفادة قبل أيام لظروف المرض لم يجب هاتفه.