محمد أحمد شقيلة
محاضر –  قسم العلوم السياسية
جامعة بحري

19 يوليو 2019

يُصادف اليوم 19 يوليو الذكرى 47 لثاني انقلاب عسكري يقوم به الحزب الشيوعي السوداني، حيث كان قد شارك في الانقلاب الأول  مع تنظيم الضباط الأحرار في الجيش وقاما معاً بتدبير انقلاب 25 مايو 1969 الذي قوّضا به نظام الحكم الديموقراطي الثاني في السودان (65 – 1969)، وأسسا لنظام حكم عسكري شمولي بقيادة العقيد جعفر محمد نميري.

تفاصيل ذلك تعود إلى أنه نشبت في العام 1965، في بواكير عهد الحكم الديموقراطي الثاني في البلاد، أزمة دستورية بين الهيئة التشريعية المعروفة وقتها باسم “الجمعية التأسيسية” والهيئة القضائية ممثلة في المحكمة العليا، حيث قامت الجمعية التأسيسية في ذلك العام بحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه المنتخبين منها وقد رفضت الحكومة (مجلس الوزراء برئاسة محمد أحمد المحجوب) والجمعية التأسيسية معاً قبول قرار المحكمة العليا القاضي ببطلان حل الحزب الشيوعي، ووجوب عودة نوابه إلى مواقعهم الدستورية كنواب عن الحزب وجماهيره في الجمعية التأسيسية، بل وقامت الجمعية التأسيسية بعد ذلك في عام 1968 بتبني مشروع دستور إسلامي للسودان يُكرّس لسلطة الأحزاب ذات الصبغة الدينية الإسلامية (حزب الأمة بجناحيه وقتها، الاتحادي الديمقراطي، جبهة الميثاق الاسلامي/ الجبهة الاسلامية فيما بعد)، بشكل عام، في البلاد.

من ضمن ردود الفعل تجاه ذلك أن قام تحالف نشط داخل الجيش السوداني بين الشيوعيين القوميين العرب وشخصيات وطنية مستقلة ويسارية بتدبير وتنفيذ انقلاب عسكري علي النظام المدني القائم في 25 مايو 1969، والذي يُشكّل نقطة البداية لتأسيس نظام عسكري أسماه الانقلابيين “نظام ثورة مايو” بقيادة العقيد جعفر محمد نميري، وتم تأسيس مجلس قيادة الثورة برأسته، والذي بحكم موقعه كسلطة حاكمة كان يتمتع بسلطات واسعة في اتخاذ القرارات السياسية، وفي توجيه وإدارة سياسات الدولة في نفس الوقت.

إذا أُخذ في الاعتبار احتياج السلطة الحاكمة الجديدة لنوع من التحالفات مع المجتمع المدني، كشرط لازم وضروري لاستمرارية أي نظام حاكم، فقد كان على الحكام العسكريين البحث عن حلفاء ومتعاونين جدد. ولما كان القادة العسكريون من ذوي التوجهات التقدُّمية، بشكل عام، فإنه لم يكن أمامهم سوى ربط أنفسهم مع الحزب الشيوعي الذي قبِل التعاون مع النظام الجديد والمشاركة فيه خاصة مع تضرره المُسبق من النظام المدني الذي قام العسكريون بتقويضه، وذلك بجانب أن مجلس قيادة الثورة كان يضم في معيّته بعض العناصر المرتبطة بالحزب الشيوعي أمثال “بابكر النور” و “أبو القاسم هاشم”، وذلك بجانب تعيين العسكريين لبعض قيادات الحزب البارزة في مجلس وزراء الانقلاب الذي يرأسه “بابكر عوض الله”، رئيس القضاء السابق، الذي قام بمعارضة جهود الأحزاب القديمة بحل الحزب الشيوعي واعتباره غير دستوري.

لكل ذلك، فإن علاقات الطرفين، القادة العسكريون والحزب الشيوعي، بدأت بشكل جيد، كما وبدأ تأثير الحزب الشيوعي في سياسات الحكومة واضحاً وجليا، ومنذ وقت مبكر من عمر النظام، والتي كانت اشتراكية التوجه.
عليه اُتخذت خطوات واسعة لتأميم البنوك والشركات الخاصة المحلية والأجنبية، وفي مجالات الحياة العامة مثل: الخدمة المدنية، والتعليم، والتعيينات السياسية في المواقع المختلفة وغيرها.

لكن، وبعد فترة وجيزة من بداية النظام، ظهرت الخلافات بين الحزب الشيوعي والقوميون العرب الذين يسيطرون على مجلس قيادة الثورة بقيادة الرئيس جعفر محمد نميري، وذلك عند إتجاه الأخيرين إلى بناء تنظيمهم السياسي (حزبهم)، وذلك بهدف دعم وتعزيز حركة “الثورة” كما كانوا يسمونها. وقد قامت سلطة الانقلاب في هذا الإتجاه بحل كل الأحزاب، ومن ضمنها الحزب الشيوعي نفسه، وذلك لصالح تأسيس نظام الحزب الواحد كما في الأنظمة الانقلابية الثورية في بعض بلدان الشرق الأوسط، وخاصة تنظيم “الاتحاد الاشتراكي العربي” في مصر الناصرية (مصر  تحت حكم جمال عبد الناصر).

ولما كان القوميون العرب، وخاصة نميري، ينظرون للحزب الشيوعي كمنافس خطر عليهم لذلك كانوا يرون من الضروري أن يؤكد الشيوعيون التزامهم الكامل والثابت بتوجهات النظام الجديد، وإعلان تأييدهم للإنخراط في التنظيم الجديد الذي سُمِّي “الاتحاد الاشتراكي السوداني”. وبينما أيّدت مجموعة محدودة من الشيوعيين وأعلنت وقوفها مع هذا الإتجاه، فقد أعلنت الأغلبية وقوفها خلف السكرتير العام للحزب الشيوعي (رئيس الحزب)، “عبد الخالق محجوب”، المعارض لحل الحزب والإنخراط في التنظيم الجديد.

المجال الثاني للخلاف بين الطرفين، فقد تمثل في مشروع الوحدة مع مصر وليبيا، حيث كان نميري ينظر إلى جمال عبد الناصر في مصر ومجموعة صغار الضباط في ليبيا بقيادة “معمر القذافي” كنموذج ومثال يجب أن يُحتذى.
وكان يرى أن اتحاد البلدان الثلاثة قد يُمكّن عبد الناصر والحركة الناصرية في مصر من إستعادة شبابها وحيويتها بعد أن أخذت تضربها الشيخوخة، ويُعزز دور هذه البلدان الثلاثة في المنطقة العربية، ولكن الحزب الشيوعي كانت له شكوكه العميقة حول هذا المشروع بحكم عدم ثقته في عبد الناصر نفسه ودوره في قمع الحركة الشيوعية المصرية وتصفية بعض قياداتها، واحتمال امتداد سياسات القمع والاضطهاد هذه إلى السودان في حال تحقيق مشروع الوحدة هذا.

نتيجة لكل ذلك، ظهرت خلافات الطرفين إلى السطح في النصف الثاني من العام 1970 وبداية 1971. في نوفمبر 1970 أُبعد “بابكر النور” و “هاشم العطا”، الضابطان الشيوعيان البارزان، و “فاروق حمدالله” من مجلس قيادة الثورة، وأُعتقل عبد الخالق محجوب وتم إبعاده إلى القاهرة.
ووصلت حالة التوتر والصراع ذروتها القصوى في 19 يوليو 1971 عندما قاد هاشم العطا انقلاب عسكري ناجح تمكّن على إثره من استلام السلطة واعتقال نميري وزملائه المناصرين من الضباط في الجيش السوداني.

لكن تمكّن نميري بعد مرور ثلاثة أيام فقط في 22 يوليو من استعادة السلطة، وقام بإعدام قيادات الإنقلاب وفي مقدمتهم هاشم العطا وبابكر النور وفاروق حمدالله، ومعظم قيادات الصف الأول للحزب الشيوعي وفي مقدمتهم عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وجوزيف قرنق.
وأعقب ذلك مطاردات وحملات اعتقال واسعة للشيوعيين وأنصارهم، والتي أثّرت على فاعلية ونشاط وتأثير الحزب في العملية السياسية السودانية منذ ذلك الوقت وحتى اليوم سيما بعد تمكّن الإسلاميين، ألدّ أعداء الشيوعيين، لاحقاً في 30 يونيو 1989من الإستيلاء على السلطة في البلاد، وعبر انقلاب عسكري أيضاً، ومُؤسسين لنظام عسكري شمولي قمعي ومفرط في العنف، وكان الشيوعيين من أكثر المتضررين منه، والذي استمر  حاكماً  لحوالي 30 سنة لاحقة، وذلك حتى تمت الإطاحة به عبر “ثورة” شعبية، وليس “انتفاضة” ، في 11  إبريل 2019.

بأيّ حال، كانت المحاولة التي تعرّض لها نميري للقضاء عليه وعلى نظامه من قِبل الشيوعيين هي التي شكّلت له الفرصة للقضاء عليهم، للمفارقة، والتي استغلها بصورةٍ مُثلى كما يبدو بوضوح.
كانت من النتائج المُترتّبة عن إخراج الشيوعيين من دائرة النظام الحاكم أن تولّى القيادة السياسية في البلاد، وخاصة على المستوى الوزاري (مجلس الوزراء)، “التكنوقراط” المحايدون أو المستقلون الذين أدار نميري وجهه نحوهم في الجزء الأخير من العام 1971 ومطلع 1972.
وبالرغم من أن التكنوقراط لم يكونوا يُشكّلون مجموعة مُنظّمة سياسياً إلا أن التصوُّرات المشتركة كانت هي التي تجمع بينهم وتدفعهم للعمل معاً بسلاسة وانسجام كبيرين.
وقد كان كل من تقلّد منصباً حكومياً من هذه المجموعة اختصاصياً أو خبيراً في الحقل (الوزارة) الذي أُختير له كوزير، وكما أن غالبيتهم لم يرتبطوا بالأحزاب السياسية من قبل، وقد كانوا يركزون على التنمية من خلال الأُطر الموجودة أكثر من محاولة تغيير طبيعة المجتمع السوداني، ولم تكن المؤسسات التي شكّلها النظام بالنسبة لهم أدوات تغيير، بل قنوات يمكن للنظام أن يكسب من خلالها التأييد ومشاركة الجماهير. كما لم يكونوا ملتزمين بتأكيد دور العناصر الراديكالية في هذه المؤسسات ولا بعزل عناصر المؤسسات القديمة.

بجانب التكنوقراط، كان من القيادات السياسية التي اعتمد عليها النظام “الساسة الجنوبيون” سيما بعد أن تمكّن التكنوقراط من قيادة مفاوضات ناجحة في العام 1972 أدّت إلى توقيع اتفاق سلام مع حركة “الأنيانيا” المعارضة المسلحة في جنوب السودان بوساطة أثيوبية (اتفاقية أديس أبابا)، حيث عمل الجنوبيون في تحالف مع التكنوقراط.
 
وقد استمرت سيطرة التكنوقراط على قيادة الدولة يرسمون سياستها العامة طوال الفترة من عام 1972 وحتى 1980، وهي الفترة التي كانت، وبحق، أميز الفترات التي حُكِم فيها السودان من حيث الانجازات في المجالات السياسية والاقتصادية – التنموية والاجتماعية، وذلك منذ الاستقلال في مطلع يناير 1956 وحتى الآن.

هكذا، ومن خلال هذا السرد التاريخي، يُمكن فهم وتفسير الأسباب التي تجعل من الحزب الشيوعي في هذه الأيام مُتطرفاً حدّ التشنّج في رفض مشاركة العسكريين في حكومة الفترة الانتقالية ويريدها مدنية “كاملة” رغم عدم “موضوعية” هذا المطلب، وذلك لدواعي كثيرة ليس هذا مقام ذكرها، وتمكّن الحزب من تعبئة ثوار ثورة ديسمبر 2018 المجيدة، والتي لا تزال مستمرة حتى كتابة هذه السطور، أبان فترة اعتصامهم أمام القيادة العامة للجيش، لتأييد مواقفه السياسية والتفاوضية، والتي من بينها عدم مشاركة أي عسكري في مؤسسات الحكومة الانتقالية، بل وتعبئته للثوار بضرورة إعادة هيكلة الجيش وحل جهاز الأمن وقوات الدعم السريع في توقيت غير مناسب لذلك، على أقل تقدير، وقد ساعده لأن يستطيع القيام بكل ذلك هو غياب أو عدم تواجد قيادات وكوادر قوى إعلان الحرية والتغيير الأُخرى بين الثوار في ميدان الاعتصام مما أدى لاستفراد الحزب الشيوعي عبر كوادره الميدانية بهم، وكل السبب، في الحقيقة، هو حنق الحزب الشيوعي ونقمته على المؤسسة العسكرية السودانية وعدائه التاريخي لها بسبب كونها أنها قد أصابته في مقتل بعد فشل الانقلاب العسكري الذي قام به الحزب عبر عناصره في الجيش في يوليو 1971، وهو المقت الذي اكتمل بعد نجاح كوادر الاسلاميين في الجيش، أعداء الشيوعيين الرئيسيين، في القيام بانقلاب عسكري ناجح تمكّنت عبره منظومة الإسلاميون من حكم البلاد منفرده لفترة ثلاثة عقود كاملة من الزمان.

بذلك يتكشّف، وبكل وضوح، أن مناداة الحزب الشيوعي بالمدنية الكاملة للحكم في الفترة الانتقالية هو في حقيقة الأمر موقف “حزبي” وكلمة حق أريد بها باطل أكثر من كونه موقف “وطني” حقيقي له حول ذلك، فهو المطلب الذي لا يتعدّى أن يكون سببه المشكلة “الشخصية” التي تخص الحزب الشيوعي في علاقته بالجيش السوداني ومؤسساته، هكذا بكل بساطة.

المهم في الأمر أن تعبئة الحزب الشيوعي للثوار للمطالبة الكاملة بمدنية الحكم كانت من أهم نتائجه أن عقّد ذلك من عملية المفاوضات بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير التي كانت تتعرّض لضغوط شديدة من الجماهير التي تبنّت، دون وعي منها في الغالب، مواقف ومطالب الحزب الشيوعي خاصة التفاوضية سيما مع افتقادها للعقلانية ومجانبتها للصواب في كثيرٍ منها، بل ويُعتبر أن أحد الأسباب الرئيسية التي قادت إلى فض الاعتصام بكل وحشية سقط على إثرها العديد من الضحايا والشهداء هو مطالبة الثوار بحل قوات الدعم السريع وجهاز الأمن وإعادة هيكلة الجيش، وذلك في توقيت خاطىء، على الأقل، وهي المطالب التي في أصلها مطالب الحزب الشيوعي دون سواه من قوى الحرية والتغيير.

إذا كان الحزب الشيوعي هو ملك الانقلابات العسكرية في السودان، فإنه يكون من العسير والمتعذّر التصديق بأن الحزب يعني ما يقول من مطالبته بالمدنية الكاملة للحكومة الانتقالية، وإلا فقل لي كيف يتّسق هذا المطلب مع تاريخه العسكري الانقلابي حتى تكاد أن تكون الانقلابات العسكرية في السودان “ماركة مسجلة” باسم هذا الحزب، والتي بدأها باكراً قبل زهاء الخمسين عاما. كما ويتحمّل الحزب الشيوعي أيضاً المسئوليتين “السياسية” و “الأخلاقية”، وليس المسئولية “الجنائية”، لفض الاعتصام “مناصفة” في ذلك مع تلك الجهة التي قامت به ميدانياً أيٍّ كانت، والذي ما كان ليحدث لولا تبنّي الثوار للمواقف “المتطرّفة” والمطالب “غير العقلانية” للحزب الشيوعي، والتي ما يزال متمترساً فيها لمبررات “شخصية” تخصه وليست “عامة” في غالبها الأعم.