الخرطوم:حسين سعد

التنوع فرصة عظيمة للتطور والوعي بحتمية التنوع، وأهميته هو السبيل لتناغم، وتناسق الأفراد والمجتمعات ،ويلقى هذا التنوع اهتمامًا متزايدًا في الوقت الحاضر، نتيجة المطالبات المتزايدة بالمساواة والتسامح وتقبل الآخر، والاستفادة من التنوع وتوظيفه بشكل إيجابي ليتحول من سبب للصراع إلى محرك للإبداع،وتعظيم أبعاده الغنية والاحتفاء بها، وأبلغ مثال لفشلنا في احترام اتنوع وتعزيزه هو قضية جنوب السودان ، ففي الستينات كانت تكلفة وقف الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في ظل سودان موحد هي أن يكون السودان  دولة علمانية فيدرالية ديمقراطية، فشل السودانيين في تحقيق هذا الهدف (في الوقت المناسب) ادى الى تحويل هذا الهدف (وحدة الشمال والجنوب) الى هدف مستحيل عام 2011م، وحتى لا يمضي الجنوب الجديد في طريق الجنوب القديم، يجب ان يبدأ العمل بجدية في بلورة مشروع وطني قادر على إنهاء الحرب الأهلية من خلال تحقيق المصالحة التاريخية، والتحول الديمقراطي، وإعادة هيكلة الدولة السودانية بصورة منصفة لكل مكونات الشعب السوداني، ومن ثم تجميع الطاقات المهدرة حاليا في الحروب المتطاولة والمتفاقمة وتوجيهها للعمل  في تغيير واقع التخلف الذي يطوق البلاد وهو مشروع بدايته الصحيحة هي  بناء سودان جديد.

الدَّولة الدينية – مسرح للتطرُّف والإرهاب :

وفي كتابه أزمة الاسلام السياسي،وضرورة بناء الدولة العلمانية يقول الاستاذ عادل شالوكا :ترتبط الدَّولة الدِّينية بالإرهاب الفِكري وعدم إحترام الرأي الآخر، وسلب الآخرين الحق في حرية التعبير وحرية العقيدة،ويرتبط الإرهاب الفكري بالتطرُّف والتَّكفير، وبالتالي اللجوء إلى العُنف (بشكل فردي أو جماعي) من قبل الجهة المُتطرِّفة بهدف فرض قيمها ومعاييرها، أو بهدف إحداث تغيير في قيم ومعايير المُجتمع الذي تنتمي إليه وفرض الرأي بالقوة، وهو أحد أشكال الإرهاب، والإرهاب المُنظَّم،والتطرُّف وفقاً للتعريفات العلمية يرتبط بالكلمة الإنجليزية – Dogmatism أي الجمود العقائدي والإنغلاق العقلي. والتطرُّف بهذا المعنى هو أسلوب مُغلق للتفكير يتَّسِم بعدم القُدرة على تقبُّل أية مُعتقدات تختلف عن مُعتقدات الشخص أو الجماعة، أو على التسامُح معها. ويتَّسِم هذا الأسلوب بنظرةٍ إلى المُعْتقَد، تقوم على الآتي :

  • أن المُعْتقَد صادق صِدقاً مُطلقاً أو أبدياً.
  • أن المُعْتقَد يصلُح لكل زمانٍ ومكان.
  • لا مجال لمناقشتهِ ولا للبحث عن أدلة تؤَكِّده أو تنفيهِ.
  • المعرفة كلها بمختلف قضايا الكون لا تُستمَد إلا من خلال هذا المُعْتقَد دون غيره.
  • إدانة كل ما يُخالف هذا المُعْتقَد.
  • الإستعداد لمواجهة الإختلاف في الرأي، أو حتى التَّفسير  بالعُنف.
  • فرض المُعْتقَد على الآخرين ولو بالقوَّة.

ويمضي شالوكا :وقد أوصلت الجبهة الإسلامية القومية البلاد طيلة الفترة التي حكَمت فيها إلى أقصى درجات التطرُّف ،والإرهاب الفكري وتكفير الآخرين، بل العُنف المادي مثل أحداث ودمدني والجرَّافة وغيرها من الأحداث التي قُتِل فيها المُصلين في المساجد، وحُرق معرض الكتاب المُقدَّس بجامعة الخرطوم (فبراير – 1999) بتحريض من (عبد الحي يوسف) نفسِه الذي يقود التيَّار المهووس الآن، وبتنفيذ الطُلاب المهووسين من الحركة الإسلامية وأنصار السُّنة وغيرهم، بقيادة طالب فلسطيني يتبع لحركة حماس يُدعى (ماهر) وكان يدرس بكلية الهندسة، الأمر الذي كاد أن يقود إلى فتنة دينية لولا إحتوائِنا للأمر بحكمة آنذاك حيث كُنا طلاباً بالجامعة.  فضلاً عن إيواء الأصوليين والمتشدِّدين والإرهابيين مثل أُسامة بن لادن وغيره، وقيام خلايا إرهابية يقودها عبد الحي يوسف وآخرين، الأمر الذي أبقَى السُّودان في قائمة الدُّول الراعية للإرهاب لسنوات طويلة مما أضَّر كثيراً بالإقتصاد الوطني نتيجة للحظر،وها هو عبد الحي يوسف يطِلُّ علينا من جديد. وهذا هو نموذج الدَّولة التي يريد إقامتها في السُّودان.

الدَّولة الدِّينيَّة – تقسيم المُجتمع :

ويقول الكاتب إن بناء دولة إسلامية دينية لها دين رسمي واحد، يتعارض مع الدِّيمقراطيَّة والمُساواة والحرية الدينيَّة، ويُعرِّض الأقليات الدِّينيَّة للخطر وربما الإضْطِهاد، والدُّول المؤسَّسة على الدِّين تُسبِّب ضعف المجتمع وعدم الإستقرار لأنها تعمل على ما يُفرِّق بين الناس، الأمر الذي يؤدِّي إلى الصراعات التي لا يمكن حلها بالتوافق، ومن ثم تفشِّي الحروب. والجمع بين الدِّين والسِّياسة يضعِف الدِّين نفسه إذ ينزِّله إلى حلبة الصراع السياسي ويُعرِّضه للتشويه ويُقلِّل من قدسيتهِ. والذين يدَّعون إمتلاك الحقيقة المُطلقة، فإنهم إذا وصلوا إلى السُّلطة السياسية، من الطبيعي أن يضطَّهدوا أو يبعدوا المُخالفين لهم حتَّى لو كانوا من نفس الدِّين،ومنذ أن إستولت الجبهة الإسلامية القومية على السُلطة في العام 1989 إتَّبعت الحكومة سياسات واضحة تستهدف المسيحيِّين في السُّودان، وأكثر ما يقف شاهداً على ذلك هو مُصادرة النادي الكاثوليكي في شارع المطار بالخرطوم وتحويلِه لـ(دار المؤتمر الوطني – المركز العام). وبعد إنفصال جنوب السُّودان 2011، زاد التضييق على المسيحيين فى السُّودان، وتحوَّل ملف الكنائس إلى ملف أمني بحت تقلَّصت معه حقوق المسيحيين. ويُقدَّر عدد المسيحيين في السُّودان بعد إنفصال الجنوب بنحو (1,4) مليون نسمة، أي ما يُعادل (1.5 %) من عدد سكان السُّودان وفقاً لإحصائيات غير حكومية أصدرتها مراكز بحثية – وهى إحصائيات غير دقيقة –  ومنذ ذلك الحين توالت الأحداث التى تُكرِّس الإنتهاكات والتمييز على أساس الدِّين خاصة الدِّين المسيحي،و القضية التى شغلت الرأي العام المحلي والعالمي، والتى إعتبرها المراقبون إنتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان فى السُّودان، هى قضية المواطنة (مريم يحىَ) وهى فتاة يبلغ عمرها (27) سنة آنذاك، ولدت بالقضارف، وتزوَّجت طبيباً مسيحياً من جنوب السُّودان، أدانتها محكمة جنايات الحاج يوسف برئاسة القاضى – عباس الخليفة يوم 15 مايو 2014 – بتهمتين :

1/ (الرِدَة) تحت المادة (126) من القانون الجنائى السُّودانى، وهى مادة تتعلَّق بترك الدين الإسلامى وإعتناق ديانة أخرى.

2/ وبالزِنا تحت المادة (146) من نفس القانون.

وأخيراً أصدرت المحكمة فى مواجهتها حكماً بالإعدام والجلد (100) جلدة،  بناءاً على نص المواد المذكورة سلفاً. ولكن تم الإفراج عنها، حيث ألغت محكمة الموضوع الأحكام الصادرة بحقها، وقد كان ذلك إستجابة للضغوط الدولية،وهذه المادة الموجودة في القانون الجنائي السُّوداني – المادة (126) – تُعتبر تقنيناً لإنتهاك الحق الدستوري في حرية العقيدة، كما إنها تنطوي على تمييز ديني لأنها تُجرِّم إعتناق المُسلم لأي دين آخر غير الإسلام، فيما لا يُجرِّم القانون خروج شخص من المسيحية أو أي دين آخر وإعتناقهِ للإسلام. وعليه يستحيل إستمرار الدولة مُستقرَّة ومُتماسِكة، في غياب العدالة، والمساواة، والحريات الأساسية، بغض النظر عن الدين أو العرق،وقد شملت السياسات الأخرى التي إتَّبعها النظام ضد المسيحيين في السُّودان طيلة سنوات الإنقاذ :

  • التضييق ومُصادرة حرية العبادة؛
  • مُصادرة الحريات بقانون النظام العام؛ وجلد فتيات مسيّحيات بحُجة الزي الفاضح؛
  • مُصادرة أراضي وعقارات ومُمتلكات الكنائس؛
  • إزالة المدارس التابِعة للكنائس؛
  • إعتقالات ومُلاحقات لقادة الكنائس؛
  • هدم وحرق الكنائس؛
  • قتل وتصفية قادة الكنائس.

الحرب الجِهَادِية .. وحروب الإبادة والتَّطهير العِرقي :

منذ إنقلابها على السُّلطة شنَّت الجبهة الإسلامية القومية الحروب في كافة مناطق السُّودان خاصة في الجنوب، وذلك بعد إعلان الجهاد وإصدار قانون تم بموجبه إنشاء قوات الدفاع الشعبي بتاريخ 5 نوفمبر 1989، وبعدها فُتِحت معسكرات التجنيد والتدريب بالدفاع الشعبي، وتم تجييش وعسكرة المواطنين في مؤسَّسات الخدمة المدنية وحتى الطُلاب والزَّج بهم في أتون الحرب. ويُقدَّر ضحايا الحروب في جنوب السُّودان بحوالي (2 مليون) نسمة. وفي الحرب الثانية (2011 – 2019) في جبال النوبة والفونج ودارفور يُقدَّر عدد الضحايا بحوالي (400,000) نسمة بحسب المنظمات الإنسانية العاملة في مناطق النزاعات، وشهدت هذه الحروب إنتهاكات واسعة لحقوق الإنسان بإرتكاب جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية وصلت حد إتهَام رأس النظام وعدد من رموزِه ومطالبتهم بالمثول لدَى محكمة الجِّنايات الدُّولية،وكانت قد صدرت فتوَى ضد “المُتمرِّدين” النوبة – حسب وصف الفتوَى –  بتاريخ 27 أبريل 1992 بمدينة الأُبيض بتوقيع ستة من شيوخ المُسلمين بعد مؤتمر عُقِد لهذا الغرض. ومنذ ذلك التَّاريخ شنَّت الحكومة عمليات عسكرية واسعة النطاق ضد المواطنين في جبال النوبة، وأُرتكبت إنتهاكات جسيمة من تصفية وقتل خارج نطاق القانون، وحرق المساكن والمزارع والمحاصيل، فقد كانت حرب إبادة مُكتمِلة الأركان. تم كل ذلك بإسم الدِّين والجِهَاد،وغير بعيد عن الأذهان أيضاً الفتوَى الشهيرة المنسوبة لعبد الحي يوسف (في ثورة ديسمبر 2018) والتي نصح فيها عمر البشير عندما إحتشد المُعتصِمين أمام القِيادة العامة للجيش في 6 أبريل 2019 بأنه  يُمكِن فض الإعتصام بالقوة حتى لو أدَّى ذلك إلى قتل ثلث المُعتَصمين ..!! بحُجة أنهم يتَّبعون المَذْهب المالِكي،

أرضية الفشل السياسي:

من جهتها كتبت الاستاذة رشا عوض في دراسة  منشورة ضمن سلسلة(قراءة من أجل التغيير) التي يصدرها مشروع الفكر الديمقراطي،فإذا أردنا بالفعل التأسيس لحكم راشد وديمقراطية مستدامة ووضع حد حاسم ونهائي لحالة عدم الاستقرار السياسي في السودان، فمن غير  المفيد ان نستهلك كل طاقاتنا في تصويب اللعنات إلى الدكتاتوريات والانقلابات العسكرية التي أتت بها، وهي بلا أدنى شك لعنات مستحقة بحكم ما جرته  تلك الدكتاتوريات على البلاد من كوارث ومآسي، ولكننا في مقام التواصي بالوطنية الراشدة والديمقراطية الراسخة يجب أن ندرك أن الانقلابات العسكرية لا تمطرها  سماء السودان! بل تنبتها أرضية الفشل السياسي والإخفاق التنموي والمكايدات والصراعات الحزبية التي تخرق قواعد اللعبة الديمقراطية قبل أن يخرقها البيان رقم(1) وهذا بالضبط ما حدث في العهد الأكتوبري، فالاحتفاء بأكتوبر وتمجيدها( الواجب بلا أدنى شك) لا يجب أن ينسينا حقيقة أن انقلاب مايو عندما وقع كانت البلاد تعيش أزمة دستورية، وفراغا سياسيا وإخفاقا في إدارة البلاد،  مما يستوجب مساءلة تاريخية للأحزاب السياسية التي كانت حاكمة في تلك الفترة، إن تداول مثل هذه الحقائق في هذا المنعطف التاريخي الحرج الذي تجتازه البلاد الآن، وهي تدفع ضريبة الحكم الاستبدادي دما نازفا ودموعا حرى ونزوحا وتشردا وفقرا مدقعا لا بد أن يكون في سياق البحث عن البديل الديمقراطي الناضج، والذي لديه القدرة على الاستمرارية ومن ثم النماء والتطور، وليس في سياق تبرير النهج الانقلابي والتبشير بالبديل الشمولي الذي أورد البلاد موارد الهلاك، لأن هذه سباحة عكس تيار التاريخ يمارسها بعض سدنة الدكتاتورية، وبعض الذين يجهلون حقيقة أن توطين الديمقراطية في “ظروف التخلف” عملية معقدة وتراكمية تحتاج إلى الصبر والمثابرة والجهد الفكري، ولا يدركون أن عثرات أية تجربة ديمقراطية في بلادنا يجب أن تكون جزءا لا يتجزأ من رصيد التجربة الوطنية،  وتجب الاستفادة منه  في إثراء الوعي الديمقراطي، لا ان يكون ذريعة  لمصادرة الحق الديمقراطي، وأوضحت رشا ان ورقتها تنطلق من فرضيتيين:

الفرضية الأولى: ان  الأحزاب السياسية التي تولت الحكم بعد ثورة أكتوبر شريك أساسي في المسئولية عن ضياع أكتوبر كفرصة تاريخية لتحقيق تحولات نوعية في المسار الوطني السوداني، عبر بلورة اتفاق قومي حول التوجه الكلي للبلاد فيما يتعلق بإنجازأهداف ما بعد الاستقلال ممثلة في تحقيق الوحدة الوطنية عبر توافق وتواثق وطني يستوعب مكونات السودان المتعددة والمتنافرة، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية للنهوض بمستوى حياة السودانيين،  والشرط الابتدائي لتحقيق هذين الهدفين الرئيسين هو تأسيس النظام السياسي المستقر والذي لديه الكفاءة لتحقيق هذين الهدفين، لا أعني بالطبع تحقيقهما ضربة لازب في دورة برلمانية واحدة مثلا، فهذا غير ممكن لأن هذه الأهداف التاريخية تتحقق عبر مراحل، ولكن ما أعنيه تحديدا هو ضبط بوصلة البلاد السياسية في الاتجاه المؤدي الى تحقيق هذه الأهداف، أي ان تكون المرجعية العليا في حكم البلاد ممثلة في الدستور، وهياكل النظام السياسي والإداري ومؤسساته ذات جدوى وكفاءة لوضع البلاد في بداية الطريق المؤدي لتحقيق الهدفين المذكورين.

الفرضية الثانية:  ان مأزق الديمقراطية في السودان معضلة متعددة الأسباب، وهي أسباب لا تنحصر في أن الأحزاب التقليدية ذات القاعدة الشعبية الكبيرة التي تأتي بها الانتخابات إلى الحكم فاقدة الى حد كبير للتأهيل الديمقراطي وضعيفة الأداء في إدارة الدولة، بل تشمل كذلك غياب الديمقراطية كفلسفة وكثقافة سياسية حتى عن المرجعيات الفكرية للأحزاب الحديثة(اليسارية والإسلامية)، مما يجعل هذه الأحزاب تتعامل مع الديمقراطية تعاملا تكتيكيا، ولا تعتبرها من الثوابت الاستراتيجية، وهناك معطيات إقليمية ودولية لها أيضا تأثير سلبي على استقرار الخيارالديمقراطي في السودان.

التعامل مع قضية جنوب السودان

 ومضت رشا بقولها :عندما اندلعت ثورة أكتوبر كانت الحرب في الجنوب تصاعدت الى حد غير مسبوق وكان هذا أكبر مظاهر إخفاق نظام عبود الذي واجه مشكلة الجنوب بالحسم العسكري وسياسات القمع والأسلمة والتعريب، وبالتالي كان على رأس أهداف ثورة أكتوبر حل مشكلة جنوب السودان، وأهم قضيتين في هذا الإطار قضية الحكم الإقليمي، وقضية علاقة الدين بالدولة في دستور البلاد الدائم، وبالنسبة لقضية الحكم الإقليمي او اللامركزي لم تعد في العهد الاكتوبري مجرد مطلب جنوبي (مطلب الفيدرالية الذي جعله النواب الجنوبيون شرطا لتصويتهم لصالح استقلال السودان من داخل البرلمان عام 1955م وقد وافق الشماليون على هذا الشرط)   بل اصبح الحكم الإقليمي(ان تحكم الاقاليم نفسها ذاتيا ) مطلبا في مختلف أقاليم السودان توحد حوله الجنوب، وجبال النوبة ممثلة ب(اتحاد عام جبال النوبة)،والشرق ممثلا في مؤتمر البجا، والغرب ممثلا في جبهة نهضة دارفور. وبالتالي فقد كان واضحا ان استقرار السودان السياسي ووحدته الوطنية تتطلب الاستجابة لمطلب الحكم الإقليمي.

كيف تعاملت الأحزاب الحاكمة بعد أكتوبر مع مطلب الحكم الإقليمي؟

 كان من توصيات لجنة الاثني عشر التي أعقبت مؤتمر المائدة المستديرة  تضمين الحكم الإقليمي في الدستور، فقد توحدت أحزاب سانو وجبهة الجنوب ومؤتمر البجا واتحاد جبال النوبة حول هذا المطلب، ولكن الأحزاب الحاكمة والصحف المؤثرة على الرأي العام اعتبرت مطالب الاقاليم بالحكم الاقليمي نزعة عنصرية، ووصفت التجمع الإقليمي الذي ينادي بهذه المطالب بالتجمع العنصري ورفضت في اجتماع “كل الاحزاب الذي ضم الاحزاب الشمالية” فكرة الإقليمية وتأسيسا على ذلك اسقطت فكرة الحكم الإقليمي او اللامركزية من مشروع دستور السودان الدائم 1968 م، فقد تم انتخاب الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع دستور السودان الدائم في يوليو 1965 م، ولم يكن في تلك الجمعية تمثيل لجنوب السودان سوى نائب واحد هو المرحوم جوزيف قرنق الذي رشحه الحزب الشيوعي في دوائر الخريجين، حيث تم استثناء الجنوب من إجراء الانتخابات بسبب الظروف الأمنية، وبعد ان تمت الانتخابات التكميلية في الجنوب، كونت الجمعية التأسيسية لجنة لوضع الدستور الدائم تبعها تعيين الحكومة للجنة فنية من القانونيين لصياغته عام 1967م، ولكن اللجنة لم تكمل جهدها، لأن الصراعات والانقسامات الحزبية أدت إلى حل لجنة الدستور، بل حل الجمعية التأسيسية نفسها في فبراير عام 1968م ، فعلق موضوع الدستور حتى انتخاب جمعية تأسيسية جديدة في مايو 1968م، ولكن اتجهت الأحزاب الحاكمة ليس فقط الى تجاهل مطالب الجنوب والأقاليم النائية في الحكم الإقليمي في مشروع الدستور، بل تضمن مشروع الدستور نصوصا تكرس للمركزية، كالمادة الثانية التي نصت على أن “جمهورية السودان دولة موحدة ذات سيادة على جميع الأقاليم الواقعة داخل حدودها الدولية” دونما أدني إشارة للامركزية او الحكم الإقليمي، والمادة الثامنة التي نصت على ان تعمل الدولة على توطيد روح الوحدة والتضامن بين كافة السودانيين والقضاء على النعرات العنصرية والإقليمي،وعبارة(النعرات العنصرية والإقليمية) هي الوصف الذي كانت تطلقه الاحزاب الشمالية  الحاكمة على تكتلات الاقاليم(الجنوب، جبال النوبة، دارفور، شرق السودان) خلف مطالب الحكم الذاتي والمشاركة الفعلية في السلطة المركزية ورفع المظالم السياسية والتنموية الواقعة عليها، واختزال مثل هذه المطالب في انها (نعرات عنصرية)، كان دليلا على قصور الاحزاب الحاكمة في استيعاب اخطر مشكلة واجهت وما زالت  تواجه الوحدة الوطنية في السودان، ففكرة (اللامركزية) في الحكم  بصورها المختلفة من فدرالية أوحكم  إقليمي هي ضمانة قوية للوحدة الوطنية وليس العكس كما كان سائدا بين احزاب الشمال! لأن الدول الكبيرة المترامية الأطراف وذات التعدد العرقي والديني والثقافي مثل السودان، لكي تستمر موحدة لا بد ان تعترف الدولة  بهذه التعددية وتدفع استحقاقاتها كي لا يشعر اقليم من الأقاليم بالاقصاء او بهضم حقوقه بسبب هيمنة المركز، ولكن الاحزاب الحاكمة بعد أكتوبر رأت في إحكام القبضة المركزية صمام أمان للوحدة الوطنية! رغم أن  الجنوب كان يشتعل حربا بسبب التظلمات السياسية والاقتصادية، وقد اشتعل فيه القتال مجددا عام 1966م وما تلاه بسبب إهمال مقررات لجنة الاثني عشر، ورغم ان الاقاليم الاخرى دقت جرس الإنذار، وقد تطور هذا الجرس الى حروب شبيهة بحرب الجنوب منذ الثمانينات وحتى الآن!

ان استخفاف الأحزاب الحاكمة بعد أكتوبر بمطالب الأقاليم التي باتت تعرف الآن بالأقاليم المهمّشة فضلا عن أنه مثل قصورا بالغا في مفهوم (الوحدة الوطنية) لدى هذه الأحزاب، مثل كذلك “آفة العنصرية الكامنة” في العقل السياسي لتلك الأحزاب، فوصف من يطالب بحقوق سياسية واقتصادية في وطنه لإنصاف الإقليم الذي ينتمي إليه داخل الوطن ب”العنصرية” لا يعدو ان يكون “موقفا عنصريا” يستبطن فكرة ان الوضع الطبيعي لأقاليم السودان القصية جنوبا وغربا وشرقا هو ان تقنع بما تمنحه لها أحزاب الشمال وليس لها الحق في ان تكون لها رؤيتها المستقلة ومشاركتها في حكم نفسها ناهيك عن حكم السودان ككل(يتبع)