الخرطوم:حسين سعد
عاني السودان من الصراعات الأكثر عنفا، والأزمات المتكررة التى فجرت نزاعات دامية،وتمثل الحالة السودانية أحد أبرز أنواع الصراع الديني الإسلامي–المسيحي، الذي انتهى بانفصال واستقلال دولة جنوب السودان فى يوليو عام 2011م فالسودان نموذج متعدد قبليا، ودينيا، وثقافيا، وبالرغم من ذلك الثراء الثقافى فى السودان، فإنه أفضى إلى كثير من المشاكل والخلل فى بنية المجتمع والدولة معا، والسبب يعود لفشل الدولة السودانية منذ الاستقلال حتى الآن فى إدارة التنوع، وعقب انقلاب الجبهة الاسلامية علي النظام الديمقراطي بمسمياتها المختلفة استغلت الدين وزجت به في عمليات الحشد والتعبئة للوصول للسلطة، من أجل حمايتهم حتى لا يطالهم القانون،وهذا يجعل الدين حجر الزاوية فى الصراع،وفي كتابه أزمة الاسلام السياسي وضرورة بناء الدولة العلمانية يقول الاستاذ عادل شالوكا :برز الصراع السِّياسي بإسم الدِّين في السُّودان عندما بدأ الإعداد لوضع دستور دائم للبلاد، إذ ظهرت الدَّعوة للدستور الإسلامي والجمهورية الرئاسية، وهما يُشكِّلان وجهين للدَّولة الدِّينية المُتسلِّطة، وكانت الدَّعوة للدستور الإسلامي قد إنهزمت في عام (1957)، فجاءت مُسودَّة الدَّستور التي وُضِعت في ذلك العام علمانية التوجُّه إن جاز التعبير، ولكن إنقلاب عبود في 17 نوفمبر، عطَّل المعنَي فيها – وهذِه مسألة يجب الوقوف عندها كثيراً لأن الإنقلاب نفسه كان عِبارة عن تسليم السُلطة للجيش من قِبَل عبد الله خليل وبإيعاز من الأحزاب السياسية التقليدية والكيانات الإسلاموعروبية لتنفيذ أجندتهم، ولذلك رأينا كيف دافع “الترابي” فيما بعد عن مُدبِّري الإنقلاب ووقف ضد مُحاكمتهم، الأمر الذي إنتقده “نُقد” بشدة في السجالات التي دارت بين الرجلين في الجمعية التأسيسية (نوفمبر 1965) عندما تآمرت هذه القوَى لحل الحزب الشيوعي وطرد نوابِه من البرلمان وبالتالي القضاء على التَّيار العلماني في السودان بعد تزايُد نفوذ الحزب، فالإنقلاب المزعوم هو مُجرد توزيع للأدوار بين “مؤسَّسة الجلابة”، إذ يلجأون للعسكر كل ما فشل المدنيين في تحقيق أجندتهم، ولذلك شهِدنا كيف سعَى الجنرال إبراهيم عبود وشرَع في سياسات الأسلمة والتَّعريب في السُّودان بعد وصوله للسُلطة مُستخدِماً القوة و القبضة العسكرية و التسلُّط، وأقصى درجات الديكتاتورية.
الدستور الاسلامي:
يقول الكاتب وجدت دعَوة الدَّستور الإسلامي مناخاً أكثر مُلاءَمة عام 1965م، ففي يناير 1967م كوَّنت الحكومة لجنة من الجمعية التأسيسية التي أُنتخبت حديثاً لوضع مُسودَّة للدَّستور، ولكثرة الإعتراضات علي تشكيلها لم تستطيع أن تنجز شيئاً، وفي سبتمبر 1968م تمَّ تكوين لجنة الدَّستور الجديدة، ثم بدأت الصراعات والمُناورات حول الدَّستور الإسلامي واللجنة التي شُكِّلت لصياغته، وكانت اللجنة قد بدأت في إجازة بعض بنود الدَّستور، فأجازت في إجتماعها السابع بتاريخ 19 ديسمبر 1968 النص الآتى : ((أن الإسلام دين الدَّولة الرسمي واللُّغة العربية لُغتِها الرسمية، وأن السُّودان جزء من الكيان العربي الإسلامي..)) ثم أجازت اللجنة في إجتماعها بتاريخ 10 نوفمبر 1969 المادة (14) التي تقول: ((تسعَى الدَّولة جاهِدة لبث الوعي الدِّيني بين المواطنين، وتعمل علي تطهير المُجتمع من الإلحاد، ومن صوَر الفساد كافة، والإنحلال الخُلقي))وإستمرت المُناورات ومُحاولات فرض الدَّستور الإسلامي إلى أن قام الرئيس الأسبق جعفر نميري بإيعاز ودعم الإسلامين بفرض قوانين الشريعة الإسلامية أو ما يُعرَف بقوانين سبتمبر في العام 1983. وعند صعود الإسلاميين للسُلطة في 30 يونيو 1989 أتُيحَت لهم كامل الفُرصة لتطبيق ما كان يراودهم لفترات طويلة، وما سعوا إليه بكافة الطُرق – حتى لو كان إنقلاب عسكري – لأن الغاية عندهم دوماً تُبرِّر الوسيلة. ففى أول إجتماع إستراتيجى عُقد بعد الإنقلاب في بداية التسعينات، جاءت أهم المُقررات على النحو التالي((إن الثورة قد حسَمت مسألة الهوِّية فى السُّودان “الإسلاموعروبية”، وإن الإنقاذ ستسعَى لإرسَاء دعائم “المشروع الحضاري” ))وبعد إنفصال الجنوب، وبتاريخ 7 ديسمبر 2011، عقدت اللَّجنة الإعلامية لما يُسمَّى بـ”جبهة الدَّستور الإسلامي” – وهى مجموعة الجماعات الإسلامية الأصولية والسلفيين (نفس جماعات عبد الحي يوسف والجزولي)، ومعهم المُتشدِّدين داخل النظام – مؤتمراً صحفياً تنويرياً بقاعة مبنى هيئَة عُلماء السُّودان، تحدَّث فيه عدد من عُلماء “السُلطان” المحسوبين على الحزب الحاكم، ورابطة العُلماء والأئمة والدُعَاة المحسوبين على الجماعات السلفية والمدارس الإسلامية الأصولية، شرحوا فيه تفاصيل مُسودَّة الدَّستور الإسلامي الذي تمت صياغته بواسطة لجنة مُختصة مُكوَّنة من مُمثلين لكافة أطراف الجبهة، وقد تم تسليم المسوَدَّة للرئيس عمر البشير ليكون ما جاء فيها : (هادياً للبلاد في المرحلة المُقبلة من عمر ما يُسمَّي بـ”الجمهورية الثانية” بعد إنفصال الجنوب). وما يقوم به عبد الحي والجزولي وغيرهم، من أدوار قبيحة ومفضوحَة بعد سقوط البشير، فهي محاولات لا قيمة على الإطلاق، لأن تجربة الجبَهة الإسلامية القومِية الفاشلة (1989 – 2019) التي أوصلت البلاد إلى ما هي عليه الآن، لا تحتاج إلى دعاية أو مُزايدات من المُتطرِّفين والمهووسين. ولكن بالرغم من ذلك رأينا ضرورة التذكير بفشل الدَّولة الدِّينية ونموذجها في السُّودان، وأسباب قيامها في الأساس.
رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان –SPLM :
للتعرُّف على رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان حول الدَّولة الدِّينية، نستعرض أيضاً بعض ما جاء في لقاء نُشر بتاريخ : 23 سبتمبر 2011 بصحيفة المصير التي تصدر بدولة جنوب السودان مع القائد/ عبد العزيز آدم الحلو – حول موقف الحركة الشعبية من الدَّولة الدِّينية، حيث ذكر الحلو :((إن موقف الحركة الشعبية فيما يتعلَّق بمسألة الدَّولة الدِّينية أو علاقة الدِّين بالدَّولة، هو موقف مبدئي ولا يقتصر ذلك على الشريعة الإسلامية فقط، بل يشمل كافة القوانين الدِّينية – إسلامية كانت أم مسيحية، أو هندوسية .. أوغيرها – والحركة الشعبية تُنادي بالعلمانية لضرورة إخراج “السُّلطة الزمنية” من الدِّين، وتطبيق منهج علمي في الحُكم قابل للقياس والتَّصحيح والتطوير)) ثم يضيف الحلو : ويُمكن إجمال موقف الحركة الشعبية دون إبتسار في ثلاثة نقاط:
- لا يحِقُّ للدَّولة أن تفرض أي دين أو مُمارسة دينية على المواطنين؛
- تكفُل الدَّولة حرية الإعتقاد، والتديُّن، والتعبُّد، والتنظيم، والدعوة بطُرق سلمية؛
- من واجب الدَّولة سن القوانين التي تحمِي المواطنين من مُحاولة أي فرد أو جماعة القيام بفرض عقيدة أو توجُّهات دينية على هؤلاء المواطنين)) .
وفي ردِه على حُجة المؤتمر الوطني بأحقيَّة الأغلبية في السُّودان الشمالي أن تختار نوع القوانين التي تحكُمه، ردَّ بقوله :
((إن مُبرِّر الأغلبية في مواجهة الأقليَّة، حُجَّة واهية، ولا تقوم في إطار الدولة الحديثة ومباديء وقيم النظام الليبرالي، حيث أن الفرد هو الأساس، وإن الدَّولة ما وجِدَت إلَّا لخدمة وحماية حقوقهِ وحرياتهِ وصون كرامتهِ، ورغم ذلك، هناك عدة أسباب إقتضت موقف الحركة الشعبية وضرورة تمسُّكها بفصل الدين عن الدَّولة وهي :
- أسباب مُتعلِّقة بطبيعة الدين نفسه؛
- أسباب مُتعلِّقة بتاريخ المُمارسَة الدينية؛
- أسباب مُرتبطة بطبيعة الدولة الحديثة.
بخصوص الأسباب المُتعلِّقة بطبيعة الدين نفسه، نجد أن أساس الدّين، وأهمَّ قيمة فيه هي الإيمان، ومن المعلوم أن الإيمان مكانه الضَّمير، والضَّمير مجاله الفرد، وبالتالي لا يُمكِن فرض الدِّين قسريَّاً على الفرد، وذلك لأن أهمَّ قاعدة في الدِّين هي : “إنما الأعمال بالنيَّات، ولكل أمريءٍ ما نوَى”)).
ويواصل الحلو :
((أما بخصوص طبيعة الدولة الحديثة نجد أن أهم ما في الدَّولة الحديثة والمُجتمع الحديث، هي أنها دولة مؤسَّسات، تقوم على إختلاف الإختصاصات، وأن هذه المؤسَّسات قادرة على البحث والتقصِّي، وإيجاد حلول لمشاكل المواطنين بعيداً عن المقولات الدِّينية، وتسند هذه المؤسَّسات معاهد بحوث ومؤسَّسات تعليمية. وفي الدولة الحديثة تستطيع هذه المؤسَّسات عبر البحث العلمي من تقديم مُعالجات لكافة القضايا التي تواجه المُجتمع بما في ذلك قضايا الأخلاق. وفي المجتمع الحديث يتم التفريق بين “المجال العام” و”المجال الخاص”، وبالتالي فإن القوانين التي تصدُر عن الدولة تكون مُختصَّة بالـ”مجال العام”، مع إعطاء الفُرصة للـ”مجالات الخاصة” لتقوم بسَن قوانينها كلياً في : (المسجد/ الكنيسة / الشركة / النادي/ … الخ))..
وفي سؤال عن دوافع القوى السياسية التي تقف وراء مُحاولات فرض الشريعة الإسلامية .. ردَّ قائلاً : ((هي دوافع عِرقية وسياسيَّة وليست دينيَّة، وهي مُحاولات لتمرير أجِندة ثقافية لا علاقة لها بقيَم الدِّين الإسلامي، وفي تقديري – إن الدوافع الحقيقيَّة تهدُف إلى خلق إمتيازات تُمهِّد للسيطرة على السُّلطة)).ويضيف القائد/ عبد العزيز الحلو :((إن الدَّعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية هدَفت أيضاً إلى تحجيم عملية تحرير المرأة السودانية التي بدأت في إرتياد دور التعليم، والمُشاركة الفاعلة في الحياة السياسية، لذلك سعت القوَى الرجعية إلى إعادة المرأة إلى المنزل تحت ذرائع النِصوص الدِّينية))
الأحزاب الحاكمة بعد اكتوبر وعلاقة الدين بالدولة
نعود الي الاحزاب بعد ثورة اكتوبر لنري علاقة الدين بالدولة حيث تقول الاستاذة رشا عوض في دراسة منشورة ضمن سلسلة(قراءة من أجل التغيير)لقد شهدت السنوات التي أعقبت ثورة أكتوبر استغلالا للدين في الصراع السياسي بصورة كبيرة، وتحديدا في صراع الأحزاب الحاكمة(الأمة والوطني الاتحادي) مع الشيوعيين وعلى خلفية تنامي تأثير جماعة”الاخوان المسلمين” على الأحزاب الحاكمة، جاء مشروع الدستور الدائم 1968م ينص في مادته الأولى على أن “السودان جمهورية ديمقراطية اشتراكية على هدى الإسلام” وينص في مادته الثالثة على ان “الإسلام هو دين الدولة الرسمي” ، وكان الدكتور حسن الترابي قد رفع مذكرة للجنة الدستور داعيا فيها الى ترجيح الالتزام بالدستور الإسلامي، لأن الجمهور في السودان جمهور مسلم، ولهذا لا بد ان يمثل دستور السودان قيمه، خاصة وأن الإسلام(عقيدة أهل السودان ) وبخلاف كل الأديان الأخرى، هو دين ودولة يأمر بالحكم بما أنزل الله،وقد كان “الدستور الإسلامي” ضربة في الصميم للوحدة الوطنية، وتكريسا للتمييز بين المواطنين على أساس ديني، فضلا عن ان الحماسة لفكرة الدستور الإسلامي اعتمدت على تأجيج العاطفة الدينية ولم تكن مسنودة بأية تصورات نظرية وبرامج عملية لما يجب ان يكون عليه الحكم الإسلامي المزعوم، وقد اعتبر الاستاذ محمود محمد طه هذا الدستور ساقطا قبل التصويت عليه، منطلقا في ذلك من “الفكرة الجمهورية” التي ترى ان لا “ديمقراطية” في الشريعة الإسلامية القائمة على ما يسميه ب”آيات الفروع” ومنها آية الشورى، والشورى حسب “الفكرة الجمهورية” ليست هي الديمقراطية الدستورية بل هي “وصاية الرشيد على القاصر” التي كانت ملائمة لظروف القرن السابع الميلادي، وقد استدل الأستاذ محمود محمد طه على “المأزق الفكري” الذي يعانيه دعاة”الدستور الإسلامي” في ذلك الوقت من أحد محاضر مداولات الجمعية التأسيسية، وتحديدا محاصرة فليب عباس غبوش(اتحاد عام جبال النوبة) للدكتور الترابي في قضية حق غير المسلم في تولي رئاسة الدولة:
السيد موسى المبارك: جاء في مذكرة اللجنة الفنية نبذة حول (الدستور الإسلامي) في صفحة (7) أن يكون رأس الدولة مسلما، أود أن أسأل هل لغير المسلمين الحق في الاشتراك لانتخاب هذا الرئيس؟
السيد حسن الترابي: ليس هناك ما يمنع غير المسلمين من انتخاب الرئيس المسلم، الدولة تعتبر المسلمين وغير المسلمين مواطنين، أما فيما يتعلق بالمسائل الاجتهادية فإذا لم يكن هناك نص يترك الأمر للمواطنين عموما، لأن الأمر يكون عندئذ متوقفا على المصلحة، ويترك للمواطنين عموما أن يقدروا هذه المصلحة، وليس هناك ما يمنع غير المسلمين أن يشتركوا في انتخاب المسلم، أو أن يشتركوا في البرلمان لوضع القوانين الإجتهادية التي لا تقيدها نصوص من الشريعة
السيد فيليب عباس غبوش: أود أن أسأل ياسيدي الرئيس، هل من الممكن للرجل غير المسلم أن يكون في نفس المستوى فيختار ليكون رئيسا للدولة؟
الدكتور حسن الترابي: الجواب واضح ياسيدي الرئيس فهناك شروط أهلية أخرى كالعمر والعدالة مثلا، وأن يكون غير مرتكب جريمة، والجنسية، وما إلى مثل هذه الشروط القانونية
السيد الرئيس: السيد فيليب عباس غبوش يكرر السؤال مرة أخرى
السيد فيليب عباس غبوش: سؤالي يا سيدي الرئيس هو نفس السؤال الذي سأله زميلي قبل حين – فقط هذا الكلام بالعكس – فهل من الممكن أن يختار في الدولة – في إطار الدولة بالذات – رجل غير مسلم ليكون رئيسا للدولة؟
الدكتور حسن الترابي: لا يا سيدي الرئيس
وإجابة الترابي القاطعة تلك كانت كافية لتلخيص المأزق الذي دخلت فيه الدولة السودانية، (أي تعريف نفسها بأنها دولة إسلامية من ضمن شروط تولي منصب الرئاسة فيها الاسلام، وعندما يضمن مثل هذا الشرط في الدستور فهذا بمثابة دق اسفين بين المواطنين المسلمين والمواطنين غير المسلمين). والترابي نفسه الذي قطع بعدم أحقية المسلم في رئاسة الدولة في الستينات، هو ذات الترابي الذي لم يجعل “الإسلام” شرطا لتولي رئاسة جمهوريته الإسلامية في دستور عام 1998 الذي كتبه بيديه! ولكن لا نستطيع الرهان على هذا التطور الحميد في موقف الترابي، لأنه غير مسنود بمنهج فكري متماسك ومنضبط، بل هو موقف ظرفي أملته ضغوط الواقع السياسي
المسئول الأول عن عدم حسم قضية الحقوق والواجبات في الدولة السودانية على أساس”المواطنة فقط” وإغلاق الباب أمام الدخول في متاهات “الإسلام السياسي” التي ما زال السودان تائها فيها، هو الأحزاب التي تولت الحكم بعد “ثورة أكتوبر” وتحديدا “حزب الأمة” و”الوطن الاتحادي”، فجبهة الميثاق التي يتزعمها الترابي في ذلك العهد والتي ضغطت بأقصى ما تستطيع في اتجاه الدستور الاسلامي مستخدمة الخطاب العاطفي التهييجي لم تكن حزبا مؤثرا ووزنها في الجمعية التأسيسية كان ضئيلا جدا لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، ولكنها نجحت في فرض فكرة الدستور الإسلامي، وفي إقصاء الحزب الشيوعي من الساحة السياسية والسبب في ذلك هو ان الحزبين المؤتلفين في الحكم تجاوبا بحماس كبيرمع هذه الأهداف، ترجيحا لمصالح حزبية ضيقة تتمثل في إقصاء الحزب الشيوعي تماما من الساحة، ليس بسبب “كفره وإلحاده” بل بسبب التحدي السياسي الذي يمثله لهذين الحزبين، بسبب “نوع القضايا” التي يطرحها ويحشد الناس حولها، وبسبب نفوذه في الحركة النقابية، وبسبب اكتساحه لأغلبية دوائر الخريجين مما يمثل بروز قوة سياسية جديدة غير مرحب بها
الحماس لفكرة “الدستور الإسلامي” بالنسبة للحزب الوطني الاتحادي بزعامة السيد إسماعيل الأزهري كان محض انتهازية سياسية لإقصاء الشيوعيين، لأن الحزب أسسه مثقفون لبراليون علمانيون، ولم يتأسس على مرجعية دينية، اما بالنسبة لحزب الأمة، فرغم ان قاعدته الاجتماعية هي “طائفة الأنصار” ، ورغم ان مؤسس وراعي الحزب هو الإمام عبد الرحمن المهدي إمام الأنصار، إلا ان مؤسسي حزب الأمة الأوائل من مثقفين وتكنوقراط اختطوا للحزب نهجا أقرب ما يكون للعلمانية، اما بعد ثورة أكتوبر فقد تبلور في حزب الأمة توجه إسلاموي يمثل الإمام الهادي نسخته التقليدية المحافظة، ويمثل السيد الصادق المهدي نسخته التجديدية الحديثة، وبقراءة متأنية لتاريخ تلك الحقبة وما تلاها، نستطيع استنتاج ان ذلك التوجه الإسلاموي لحزب الأمة لم يكن مفيدا، لا للإسلام، ولا للسياسة السودانية، حيث لم يتبلور في ذلك الحين، بل وحتى هذه اللحظة مشروع سياسي واضح ومفهوم مستمد من الاسلام له قدرة على مجابهة إشكالات الواقع السوداني، فذلك التوجه الإسلاموي لم يكن له من مردود سوى انه ادخل “الإرهاب الديني” للخصوم السياسيين كآفة جديدة في الصراع السياسي وظلت هذه الآفة ملازمة للسياسة السودانية منذ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة .
لم يقتصر الضرر الذي تسبب فيه استغلال الدين في إقصاء الخصوم السياسيين وإقحامه في مشروع الدستور الدائم بتلك الصورة، ثم استبعاد مطالب الأقاليم المظلومة سياسيا وتنمويا ممثلة في الحكم الإقليمي من ذلك المشروع، لم يقتصر على إفشال التجربة الديمقراطية الأكتوبرية فحسب، بل إن الضرر كان أبعد وأعمق من ذلك! إذا أخذنا في اعتبارنا واقع تفكك الدولة السودانية الماثل أمامنا الآن، فمن أسباب هذا التفكك ان القوى التي كان واجبها التاريخي يحتم عليها تقوية رابطة المواطنة بين السودانيين بحيث يكون “الانتماء للسودان هو الرابطة الأقوى بين السودانيين” انهمكت هذه القوى بسبب قصورها الفكري وتغليبها للمصالح الحزبية في إطار الصراع على السلطة، انهمكت في كل ما من شأنه إضعاف هذه الرابطة
. وفي موضوع “علاقة الدين بالدولة
شهدت أكتوبر تراجعا كبيرا في موقف “حزب الأمة” الذي اتسم في عهد الديمقراطية الأولى(1956- 1958م) بقدر من العقلانية والحرص على الوحدة الوطنية، ففي بدايات عهد الاستقلال(1956 – 1958م) لم يستخدم الدين كأداة في الصراع السياسي من قبل الأحزاب السياسية ذات الثقل والتأثير(حزب الأمة، الوطني الاتحادي، حزب الشعب الديمقراطي)، فلم يشهد ذلك العهد حديث عن دولة إسلامية يحكمها دستور إسلامي وتطبق فيها الشريعة الإسلامية، بل كانت قيادات الأحزاب الكبيرة حريصة على إبقاء الدين بعيدا عن الصراعات السياسية، صحيح لم يخل ذلك العهد تماما من دعوات ومطالبات بأسلمة الدستور، و”الحكم بما أنزل الله”، فقد طالب مشايخ المعهد العلمي بأن يتم تمثيلهم في “اللجنة القومية للدستور” التي أرسلوا لها مكتوبا ورد فيه( كل دستور لا يستمد من الشريعة الإسلامية فهو حكم بغير ما أنزل الله، ولذا فهو حكم باطل بمقتضى قوله تعالى(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)) كما طالب هؤلاء المشايخ زعماء الأحزاب ومشايخ الطرق الصوفية وزعماء العشائر بمساندتهم في تلك الدعوة ، ولكن لم تستجب القيادات السياسية والقيادات الدينية لتلك الدعوة،وعندما تحدث الأستاذ بابكر كرار – وهو من الاخوان المسلمين – عن الدستور الإسلامي في مداولات اللجنة القومية الثانية للدستور رد عليه الأستاذ محمد صالح الشنقيطي رئيس اللجنة بأن
(الحديث عن الدستور الإسلامي حديث غوغائي)
في 22/ مايو/ 1958م عقدت الجمعية التأسيسية لوضع الدستور أول اجتماع لها للتدارس في المشروع الذي تقدمت به اللجنة القومية التي أنيط بها وضع مسودة الدستور، وكان من بين المقترحات التي تسلمتها الجمعية مقترح من القوى الإسلامية بزعامة الاخوان المسلمين تدعو فيه إلى تبني دستور إسلامي للحكم، وجاء في ذلك المقترح ان بلدا كالسودان حيث الهيكل الاجتماعي قائم على العادات العربية والسنن الإسلامية ، وحيث إن غالبية أهله من المسلمين، فمن الواجب ان تستقى المبادئ العامة للدستور من الإسلام، وأن القوانين التي تحكم البلاد ينبغي ان تسن وفقا لمبادئ الإسلام الأساسية، وأن الإسلام دين ودولة، ولكن تمت معارضة هذه المقترحات من الاحزاب الكبيرة في البرلمان، حيث صوت أعضاء حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي في الجمعية التأسيسية ضد هذه الآراء مرتين، رغم أن الأخوان المسلمين أسسوا ما أسموه (الجبهة الإسلامية للدستور)،و لوحوا بالتأييد الذي تلقوه من كل من: السيد عبد الرحمن المهدي زعيم طائفة الأنصار، والسيد علي الميرغني زعيم طائفة الختمية، وقاضي القضاة الشيخ حسن مدثر الذي بعث مذكرة للجمعية التأسيسية يدعوها لوضع دستور إسلامي
ردت الجمعية التأسيسية بان (السودان يتألف من أهل معتقدات وأديان مختلفة الأمر الذي يتطلب البحث عن هوية أوسع ينتمي لها المواطنون بدلا من الانتماء لديانة معينة. كما ذكرت ان مبدا المساواة أمام القانون يحتم عدم إقامة الدولة على أساس ديني. جاء أيضا في التقرير حول الدستور المقترح ان جميع الحضارات ساهمت بنصيب وافر في صوغ الأفكار التي قامت عليها الأنظمة الديمقراطية ، ولهذا ليس من الضروري بالنسبة للسودان أن يرجع إلى الإسلام لتعريف الديمقراطية، وأخيرا قالت إن ثمت مخاوف تنتاب الجنوبيين نتيجة لإصدار دستور قائم على أساس ديني، فالدين لله والوطن للجميع) وقد كان وراء هذه الآراء كل من محمد صالح الشنقيطي(من حزب الأمة)، الذي عمل قاضيا شرعيا، وكان على دراية بتعقيدات الموقف في الجنوب منذ مؤتمر جوبا، وأحمد خير(من حزب الشعب الديمقراطي) الذي رفض رسالة التأييد للدستور الإسلامي المنسوبة إلى السيدين المهدي والميرغني، قائلا ان السيدين ليسا عضوين في لجنة الدستور ولا ينبغي ان تتأثر اللجنة بأية ضغوط خارجية ،ومن المفارقات ان مشروع الدستور الإسلامي عارضه حزب الامة عبر ممثله في لجنة الدستور القاضي محمد صالح الشنقيطي، وعارضه حزب الشعب الديمقراطي عبر ممثله في لجنة الدستور أحمد خير، وعبر ممثله في البرلمان الشيخ احمد عبد الرحمن، رغم تأييد زعيمي الطائفتين اللتين تدعمان الحزبين، بينما أيد هذا المشروع الحزب الوطني الاتحادي رغم توجهه العلماني، وقد كرر الحزب الوطني الاتحادي مساندة الدستور الإسلامي في الستينات، وهذه المفارقة تعكس خللا كبيرا في السياسة السودانية هو انعدام المبدئية في قضايا استراتيجية بطبيعتها لا تحتمل التلاعب والمساومات الظرفية(يتبع)