الخرطوم:حسين سعد
الفشل في ادارة التنوع شكل عبئا على بعض الدول فوصل الامر الى حالة من الصراع  الذي ذهب ضحيته الالاف من الضحايا، وقد أوصل بعضها الى حالة الانقسام، كما حدث في السودان او في يوغسلافيا ومناطق اخرى من العالم، حيث شكل عاملا للتصدع والصراع الذي قد يصل الى مستويات عالية من العنف،يبدأ الشخص بالبحث عن هويته ،حين يمارس عليه الاقصاء والتهميش، او حين يحرم من اي نوع من انواع المشاركة (اقتصادية او سياسية) وفي بحث المواطن عن مأوى او مظلة أو خيمة يستظل بها، فلا يجد غير هويته الفرعية، فيكرسها وطنا بديلا وهوية يشعر بها وينتمي لها او يستعيدها او يعيد ارتباطه بها ليحصل على الامان والاطمئنان، فالمشكلة هنا ليست في التنوع بحد ذاته، اذ يمكن ان لايعد واقع سلبي ،وعامل ضعف في الواقع المجتمعي لو تمت ادارته بحكمة وانسانية من خلال التأسيس لمبدأ المواطنة الذي يتساوى من خلالها الجميع في الحقوق والواجبات ، فتتحقق المشاركة السياسية والثقافية والاقتصادية للجميع، وقد عاشت الدول بسلام وقوة ،وتقدم في ظل التنوع الذي أصبح مصدر قوة كما في الولايات المتحدة الامريكية،وقد اشار الرئيس الاميركي الاسبق بيل كلنتون الى التنوع الاثني والثقافي في الولايات المتحدة في خطابه امام الكونغرس في غضون اكثر من خمسين عاما لن يعود هناك عرق أكثري في امريكا، ففي عالم مترابط بشكل متزايد، يمكن لهذا التنوع ان يكون ورقتنا الرابحة الاكثر عظمة ، يكفي النظر الى هذه القاعة، انظروا حولكم، فلدينا في هذا الكونغرس اعضاء من كل الاصول الاثنية والدينية تقريبا واعتقد بأنكم تشاطرونني الرأي بأن امريكا أكثر قوة لهذا السبب.

سياسَات الإفقَار  وتدمير الإقتصاد :

وفي كتابه أزمة الاسلام السياسي  وضرورة بناء الدولة العلمانية يقول الاستاذ عادل شالوكا :منذ إنقلابها في العام 1989 وضعت الجبهة الإسلامية القومية خُطط وإستراتيجيات بعيدة المَدى للتشبُّث بالسُّلطة والإحتفاظ بها وتوطيد الحُكم، فإنتهجت سياسة (التَّمكين) حيث أحالت مئات الآلاف من الموظفين المؤهَّلين إلى الصالح العام، ووضعت في مواقعهم  أشخاص موالين عديمي الكفاءَة والقُدرات. وإرتفعت نسبة البطالة، وإتجه الخريجين المؤهَّلين للأعمال والمِهن الهامشيَّة.

والسُّودان أصلاً  ورث (إقتصاد إستعماري – Colonial Economy)  ذو أهداف واضحة – وهي نهب الموارد – إذ لم يهتم المُستعمِر كثيراً بمناطق التَّنمية وكيفية توزيعها بقدر إهتمامه بنهب الموارد بأقل تكلفة، وبالتالي من الطبيعي أن تستهدف التنمية المناطق المُنتجة، وهي المناطق التي تم فيها تشييد الطُرق وخاصة السكك الحديدية، وما سُمِّيت بالحكومات الوطنية – خاصة في حكومة الجبهة الإسلامية – تبنَّت نفس السياسات الإقتصادية التي إتَّبعها المُستعمرون، وإستهدفوا بالتنمية نفس المناطق، أو ما يُعرف بـ(مثلث حمدي) – وتركَّزِت التنمية في المُدن الكبيرة – وبالأخص في (الخرطوم) – وبرزت ظاهرة (ترييف المُدن) مع تدهوُّر الإقتصاد وزيادة نسبة البطالة. والأزمة الإقتصادية أصبحت أكثر حِدة في عهد الجبهة الإسلامية القومية حيث تم تدمير المشروعات الحيوية مثل مشروع الجزيرة وغيره من المشروعات الإستراتيجية، وتم تطبيق سياسة التحرير الإقتصادي دون دراسة علمية،  الأمر الذي ساهم  في زيادة نسبة الفقر، وتلاشت الطبقة الوسطى وتوزَّع السُّودانيين  ما بين أغنياء – وهم قِلة – أو فقراء، وهؤلاء يُمثِّلون أغلبية الشعب السُّوداني.

ويضيف شالوكا في عهد الجبهة الإسلامية القومية تنامَى إقتصاد الريع بصورة أضرت ضرراً بالغاً بالإقتصاد الوطني. والريع هو كافة أشكال الدخول المُكتسبة بدون مشاركة  في عملية الإنتاج؛ مثل : (الدخول العقارية وغيرها من عمليات تدوير الأموال بمعزل عن الإنتاج)، فأصحاب الريع هم عناصر غير مُنتِجة. وقد إرتبط الريع في فترة حُكم الجبهة الإسلامية بأنظمة القرابة أو ما يُعرَف بـ(إقتصاد الريع العشائري) حيث تجد أُسر و”عشائر” بعينها تحتكِر مجال من مجالات التِّجارة من صادرات وواردات وغيره، وتُقدَّم لهم التسهيلات من رُخَص وإعفاءات جُمركية وتوفير الأسواق، وأحياناً تدخُل المؤسَّسات الحكومية كمُستهلِك رئيسي لهذِه السلع المُحتكَرة (عشائرياً) بتوجيهات عليا من القيادات النافذة في الدولة بهدف “تمكين” المُوالين للنُظام وكوادر الحركة الإسلامية.  وبعد فشل النُظام وتصاعُد معارضتِه وعدم قبوله، قام بإنتهاج سياسة الترضيات وتوسيع المناصب الدستورية، وكسب المُعارضين وإستنساخ أحزاب للـ(توالي) وإستقطابهم للحكومة، والتوقيع على إتفاقيات وهمية مع حركات لا وزن لها بهدف تضليل الرأي العام المحلي والدولي بوجود الأمن والإستقرار. كل ذلك أدَّى إلى الترهُّل في المناصب، وزيادة الصرف والإنفاق على الحكومة،  وهي  سياسات كلَّفت الدولة أموالاً طائلة على حساب المواطنين. وأصبح الإقتصاد السوداني (إقتصاد تسوُّل) والبحث عن المُساعَدات والأموال من دول لها أجندة  تهدُف لنهب ثروات البلاد.

تنامي العُنصُرية :

 

العُنصُرية في عهد الجبهة الإسلامية القومية صارت تمشي على أرجلها، وصارت تُمارَس على مستوى قمة الهرم القيادي للدَّولة ورأس النظام، وصارت سياسة تتَّبعها مؤسَّسات الدَّولة، وظهرت العُنصُرية في التوظيف، والعُنصُرية في تولِّى الوظائف العامة، والعُنصُرية في توزيع الموارِد على السُّكان، وحتَّى العُنصُرية في التِّعداد السُكَّاني الذي يتم تزويره لتغليب مُكوِّنات سُكَّانية مُحدَّدة على مُكوِّنات أخرى وما يترتب على ذلك من تخصيص الموارِد وتقسيم الدوائر الجُغرافية. والأخطر من كل ذلك هو العُنصرية في إنشاء القوات وتسليحها، وشن الحروب العُنصُرية، والقتل والإبادة على أساس عُنصُري. فقد مارست الدَّولة كافة أنواع العُنصُرية المزدوجة القائمة على أساس الدين من جهة، والعرق واللون من جهةٍ أُخرى.

 

التَّخريب الدستوري والقانوني :

 

أكثر ما يُميِّز دولة المشروع الحضاري التي أقامها الإسلاميين في السُّودان – والتي من المُفترض أن تكون دولة عادلة لأنها تقوم على الدين – هو غياب العدالة. ودولة العدالة هي دولة ديمقراطية بالضرورة، وتتميَّز بالقضاء المُستقِل، وتكون السُّلطات الثلاثة مُستقِلة إستقلال تام، بمعنى أن لا يخضع القضاء للسُّلطة التنفيذية والسُّلطة التشريعية، بل تخضع له السُّلطة التنفيذية والتشريعية، لأنه إذا كان هناك أي مواطن مظلوم فإنه يلجأ للقضاء، وإذا كان القضاء مُستتبع للحكومة فهذا يعني إن القضية قد ضاعت. ففي الدَّولة الديمقراطية يكون القضاء سُلطة مُستقلة من حيث : التعيين، والترقيات، والتمويل – وهذا يقطع الطريق أمام أي إغواء أو تخويف للجهاز القضائي – بالإضافة إلى عملية التأهيل إذ قام النظام بحشد الجهاز القضائي بأناس غير مؤهَّلين لا يحمون الدستور بل يعملون على تقويضهِ، ولا يؤمنون بحقوق الإنسان، بل إنهم ضدها في الأساس.

 

الفسَاد الشامِل :

 

والفساد في عهد الإسلاميين، وفي ظل مشروعهم الحضاري لا يحتاج إلى بُرهان، ومنظومة الفساد في السُّودان لا تقف عند حد البشير وحَرمهِ وأخوانه، ولا كوادر المؤتمر الوطني فقط. ولكن الفساد ضرب كافة أركان الدولة وفي مُختلف المجالات، فقد وصل إلى المحليات والأحياء واللجان الشعبية، و كتير من المُنتفعين من هذه الأوضاع فإنهم لا يجدونها إلاَّ في الأنظمة الديكتاتورية. وإذا أراد الناس مُراجعة ملفات الفساد فقد يستغرق ذلك عدة سنوات حتى يتم العثور على الملفات : (الفساد في الدولة، الفساد في الأراضي، الفساد في الرسوم والجِبايات، الواردات والصادرات، القروض البنكية، العطاءات، الإعفاءات الجُمركية، الشركات، الذهب ، البترول، ….إلخ).  وهناك الفساد السِّياسي الذي تحدَّثنا عنه سلفاً، والفساد الأخلاقي : شقق مُمارسة الدعارة بواسطة المسئولين “عينك يا تاجر” حتَّى لو كان ذلك في شهر رمضان الذي “أُنزل فيه القُرآن” ..!! ومنهم من صدَّر الفتيات إلى دول الخليج لهذا الغرض في إذلال ما بعده إذلال لكرامة الإنسان السُّوداني ..!!. ودار المايقومة للأطفال مجهولي الأبوين تقف شاهداً قوياً على هذا النوع من الفساد. وقد شمل الفساد مسألة ترويج وبيع وتعاطي المُخدِّرات، وهذه المسألة بالتحديد تركوها وفتحوا لها أوسع الأبواب (ومنهم من شارك فيها، وبعضهم يُشارك فيها حتى الآن) بهدف تدمير وتخريب عقول الشباب وصرفهم عن قضايا البلاد المصيرية، حتى لا يقوموا بأي دور طليعي لتغيير الأوضاع في البلاد، ولكن هذا لم يثنيهم عن القيام بالثورة وإحداث التغيير، هذه هي الدولة التي يريدها الإسلاميين ودُعَاة (الدولة الإسلامية) بعد أن أثبتت فشلها خلال الثلاثين سنة التي جثموا فيها على صدر الشعب السوداني. والآن يتباكَى عليها المُتشدِّدين من بقايا النظام والجماعات الأصولية السلفية، والمُتعطِّشين لسفك المزيد من الدماء وسرقة أموال الشعب، يريدون إعادة إنتاجها بعد أن تم إسقاطها.

ضد التنوع

 وبحسب الجزيرة نت يقول أستاذ العلوم السياسية عوض أحمد سليمان فقال إن فقدان العوامل المنظمة للتنوع بالسودان كالمشاركة في السلطة والمساواة أمام القانون والعدالة والترقي وكل المظاهر المرتبطة بالدولة الحديثة جعلت من السودان نموذجا لسوء إدارة التنوع،وأكد تلازم سمتي السيطرة والعجز التي تمثلت في سيطرة الوسط النيلي ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وعجزها عن استيعاب حاجات الأطراف الأخرى في الاقتصاد والسلطة والتنمية، وقال إن الحكومات السودانية عززت -بدون وعي- نموذج المركز القابض بدكتاتورية سياسية واقتصادية غير مبررة، مشيرا إلى أن العدالة ظلت النقطة المحورية في فشل إدارة التنوع، وإلى تخلي الدولة عن وظيفتها الأساسية في حماية التنوع ورعايته لتتحول إلى دولة تسعى للتربح وتحقيق الذات. 

أفكار إقصائية

فيما لفت أستاذ الاقتصاد والعلوم الاجتماعية بجامعة النيلين محمد إسماعيل إلى أن الحكومات المتعاقبة لم تستخدم التنوع استخداما راشدا “فبدلا من أن يكون (السودان) دولة عظمى تحول إلى دولة ممزقة ومضطربة وعزا فشل السودان في إدارة التنوع “لوجود أفكار إقصائية أججت صراع الهويات وحولت الحروب في بعض الأحيان من أهلية إلى دينية”، مشيرا إلى أن الأطماع الخارجية “التي وجدت لها مدخلا بسبب عجز الحكومات الوطنية عن سد الفراغ،واعتبر انفصال الجنوب “قمة التعبير عن فشل إدارة التنوع في السودان”، مشيرا إلى وجود جهل اجتماعي كبير بأهمية التنوع واحتياجاته وقضاياه،وأكد للجزيرة نت “أن المجتمع لا يزال يدعي المصير المشترك مع الكيانات الأخرى، لكنه في ذات الوقت يعيش حالة تعال عرقي وإثني وثقافي” معتبرا أن بعضا من المناهج التعليمية رسخت لهذا الأمر،وقال للجزيرة نت “إن المركز اختزل الهويات في إرضاء بعض النخب الاجتماعية والثقافية وأهمل احتياجات التنوع الأساسية كالتنمية والعدالة الاجتماعية، موضحا أن ما يحدث للبلاد من أزمات دليل على عدم الاعتراف بالفشل في إدارة الشعوب السودانية.

التنوع
تبنت الجمعية العامة للامم المتحدة اعلان مبادئ التعاون الثقافي الدولي الذي قدمته اليونسكو في 2001 وأعلنت يوما عالميا للتنوع الثقافي. ودعت الأمم المتحدة الى الاحتفال بهذا اليوم من اجل تعزيز قيم التنوع الثقافي وزيادة الوعي بشأن أهمية استثماره في التنمية تعبيرا عن العلاقة الايجابية بين الثقافة والتنمية وأهمية الدور الذي يجب أن تلعبه تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في الحوار الثقافي والتنمية المجتمعية .ودعت الامم المتحدة الى اعتبار هذا اليوم فرصة مهمة للاعتراف بالتنوع ومن ثم التعايش معه بوصفه واقعا لايمكن الهروب منه او غلق الابواب دونه بوصفه فرصة لبناء السلام
وقادت الامم المتحدة بالتعاون مع اليونسكو عدة حملات لرفع الوعي على مستوى العالم بشأن أهمية الحوار بين الثقافات من أجل الوصول الى مايمكن تسميته بالمجتمع العالمي. ويمكن اعتبار اليوم العالمي للتنوع الثقافي فرصة للحوار واللقاء بين الثقافات من اجل التلاقح دون هيمنة ومغادرة عقدة الهوية التي يتحجج بها البعض من دعاة الانغلاق والعزلة، فقد اثبتت الفترات التي مرت بها الامم ان لامجال للعزلة لانها آلية للنكوص والانكسار الداخلي وهو مايجعل اية امة تعيش تحت تأثير هذه الآلية ستجد نفسها خارج سياق التاريخ والزمن والتطور وستتسع الهوة الثقافية والعلمية بينها وبين الامم الاخرى
وبقدر تعلق الامر بالعالم الثالث وعالمنا العربي فانه أشد مايكون الى التعايش والاعتراف بالتنوع وبخاصة في المجال المحلي ، وهذا يشمل مجتمعات التنوع والتعدد الاثني والديني والطائفي، فيوم التنوع الثقافي فرصة لادامة التعايش وايجاد وبناء فضاءات السلم الاجتماعي وبناء قيم الاخوة الانسانية بعيدا عن العداء والاحتراب ويمكن القول ان التنوع الثقافي لا يمكن أن يزدهر الا في بيئة تضمن الحريات الأساسية وحقوق الانسان وايجاد ضمانات دستورية وقانونية تحمي التنوع وتنظم عملية رعايته وتنميته لان هذا يعني احترام كرامة الفرد وخياراته العقائدية والثقافية ، ولايمكن القفز على التنوع او تجاهله وتجاوزه لانه واقع سسيولوجي وثقافي لابد من الاعتراف به ورعايته وتوفير متطلبات تنميته.(يتبع)