الشهيد بولاد
بقلم: محمود الشين
جميل هو أن تتجه حكومة جنوب السودان وعبر حزبها (الحاكم الحركة الشعبية) لتكريم رفاق كفاحها المشترك وهو تكريم شمل أكثر من (200) ضابط من جناحها العسكري (الجيش الشعبي) و(500) شخصية عسكرية ومدنية ، منحت أوسمة (الشجاعة ، النضال الطويل ، الثورة ، التحدي والإنجاز) ، ومن بينها شخصيات من شمال السودان أبرزها المفكر الكبير الدكتور منصور خالد والقائد تلفون كوكو والأخير علي فكرة يمثل رمزية جنوب كردفان ومنطقة جبال النوبة والتي كانت تشكل العمود الفقري للجيش الشعبي لتحرير السودان.
كانت إستراتيجية الراحل الدكتور جون قرنق دمبيور هي شد الأطراف كوسيلة لزعرعة نظام الخرطوم بمقاتلين من قوي الهامش السوداني.
والتكريم كما هو معلوم إعتراف بالعطاء ومحاولة لرد الجميل. وإن أغفلت جوبا رجل في قامة المهندس داؤد يحي بولاد قائد تمرد دارفور في التسعينيات ، والذي إنتقل كلياً وسط دهشة المراقبين من اليمين إلي أقصي اليسار. وعندما سأله قرنق عن سر هذا التحول قال عبارته المشهورة في أدبيات السياسة السودانية.
بولاد هو الآخر يمثل رمزية دارفور وقد عبر الرجل في زمن الصمت عن أشواق ومطالب (8) مليون نسمة ، أصبح لهم تأثيرهم الكبير في المشهد السياسي بالبلاد.
ويبدو أن للرئيس سلفاكير الذي كرم هو نفسه في شهر يونيو الماضي من وحي هذا التكريم ، رسالة للداخل الجنوبي مفادها – أننا لن نتخلي عن رفاق الأمس واليوم – وللخارج كذلك ، هي أن الدولة بعد تضميد جراحها أضحت متماسكة بل وتقود مبادرات السلام في محيطها الإقليمي.
وللجيل الذي أحدث ثورة ديسمبر الظافرة – نحكي هذه الخلفية – ففي العام (1992م) ، لجأت السلطات في إقليم دارفور لحيلة أخري لرفع وتيرة التجنيد والحشد الشعبي لمواجهة ما أطلقت عليه (حملة المتمرد) داؤد يحي بولاد. وهو القائد الذي دفعت به حركة جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان لفتح جبهة عسكرية أخري في غربي البلاد.
كان والي دارفور (حاكم الإقليم) العقيد الطيب إبراهيم محمد خير ، يدرك بخلفيته العسكرية خطورة نوايا الحركة الشعبية لدخول مناطق جبال مرة الحصينة وهي بعد القلب النابض لدارفور وأروع منطقة أحياء بيئي وتنوع حيوي في العالم. وبقدر ما ألهمت مبدعين وانشدوا فيها:
لو شفت مرة جبل مرة.
دفعت العسكريين في حالة الفاشر لاستقطاب المبدعين المحليين وتوجيه منتجهم لتنظيم الحشود وعسكرة الشعبيين. ونذكر من هذه الشرائح (المواقو ، الهدايين ، البوشانيين ، السنجاكة ، العقدة ، الحكامات ، محموعة البرامكة) وغيرها.
وفي سبيل ذلك أقامت الولاية ملتقيات الإعلام الشعبي وطاف الوالي نفسه في معية الفرق الفنية الشعبية علي معظم مدن الإقليم لتحقيق تلك الغاية.
ولأن المجتمع السليقي هناك وبسجيته السمحاء ، قابل للتشكل والتعاطي الإيجابي مع كل طرح ، حصدت سلطات الفاشر الحد الأدنى من نتائج رحلة الطيب سيخة لمواجهة قوة بولاد المتواضعة العدد والتسليح ، غير أن عدم ثقة نظام الانقاذ في القوات النظامية ، تدفعه دوماً للاستعانة بمؤيدين له خارج نطاق القانون وأحداث ديسمبر ماثلة.
المهم أن بولاد رئيس إتحاد طلاب جامعة الخرطوم لأكثر من دورة ، خسر معركته غير المتكافئة ووقع في الأسر وأعدم بشكل غامض علي يد سلطة زميله السابق في الجامعة الطيب سيخة ، والذي كان يهتف ذات يوم مثل بقية الإسلاميين (أصلب العناصر لاقوي المواقف) ، وهو يلوح بسيخته تلك إبتهاجا بفوز بولاد بقيادة الجميلة ومستحيلة.
إن عطايا الحكم الجديد للمبدعين المحليين ، كانت حصيلته (منتج) أقل ما يوصف به أنه (للتكسب) بإمتياز ومثير للنعرات القبلية والمناطقية ، بل وفتح شهية المنتجين للوقوف علي أبواب الحكام وخطف ودهم والتغني بامجادهم وإنجازاتهم المدعاة. وهذا لا ينفي حقيقة أن بعضهم دعا لمحاربة عصابات النهب المسلح ونبذ الصراع القبلي بين مكونات الإقليم علي نحو ما ظل يرد يومذاك في خطابات الساسة المحليين :
(سلم نارك تحمي ديارك).
بعد عقد من الزمان وعشية إندلاع أزمة دارفور في العام (2003م) ، كان الإعلام الشعبي حاضراً بقوة وبكل إفرازاته واستقطاباته الحادة للمجموعات السكانية – وهذه الجزئية سنفرد لها مساحة أخري إن شاء الله.
وفي مرحلة ما بعد إتفاقية نيفاشا (2005م) ، قال إدوارد لينو أحد قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان والمقرب من الدكتور جون قرنق في ندوة له في ساحة المولد بنيالا (إن الحركة الشعبية كانت مدركة لأهمية وقيمة إقليم دارفور في المعادلة السياسية ، ولهذا دفعت بحملة داؤد يحي بولاد للانفتاح علي هذا الجزء من البلاد). ولينو من دينكا أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب ، ولمناطق شمال وغرب بحر الغزال تداخل كبير مع ولايتي شرق وجنوب دارفور ، ولذلك فإن ما يقوله رجل المخابرات بالحركة ، عمل إستراتيجي ومكر سياسي كبير.
كنت أدير (مكتب) صغير لقناة الجزيرة القطرية في مدينة نيالا ، قمت بتغطية زيارة ياسر عرمان القيادي بذات الحركة ومرشحها الرئاسي في إنتخابات (2010م) ، تجولنا في مخيمات النازحين ، لكن الزيارة المهمة كانت للحاج (يحي بولاد) والد داؤد بحي كرري العريق بنيالا – وجدناه عائد لتوه من مزرعته ، رجل قصير القامة ، ويبدو عليه الرهق وثيابه ممزقة علي كتفيه.. تلقي التعازي من وفد الحركة الشعبية الذي حرص خشية الاختراق علي دخول أناس بعينهم الي حيث يقيم الرجل الشجاع ، جلست خلف بولاد وعرمان وهما يتحدثان بصوت مسموع ، فقال الثاني للاول (تلك هي ضريبة الوطن كما تعلم) في إشارة لإعدام داؤد – وقبل أن يكمل ياسر – رد الحاج بولاد قائلاً: (من الأفضل أن يستشهد الإنسان من أجل قضية يؤمن بها بدلا من أن يموت (فطيس) علي حد تعبيره.
في الواقع صدمت لإفادات الرجل وهو في تلك السن. إنه بحق إيمان العجائز كما يقولون. كانت الفرصة الضائعة تسربت يوم سقوط طائرة الزعيم جون قرنق ، وكنا في مكتب القناة بنيالا في إنتظار وصول وفد الحركة الشعبية القادم من مدينة الفاشر العاصمة التاريخية للاقليم ، ويضم القائد عبدالعزيز الحلو. والحلو كان ضمن حملة بولاد ومسئول الجناح العسكري في تلك المهمة ، غير أنه تمكن من الإنسحاب بما تبقي له من قوات إلي أدغال أفريقيا الوسطى ، ومنها عاد أدراجه إلي جنوب السودان ، وبالتالي فإن الرجل الصامت يمثل الصندوق الأسود للتوجه الذي ذكره الجنرال إدوارد لينو.
إن حادث تحطم طائرة قرنق ، جعل وفد الحركة ينهي وعلي جناح السرعة رحلته من الفاشر ، وهكذا تبخرت الأمنيات ، ومازلت أتوق لمقابلة القائد الحلو لأنه أكثر الناس إلماما ومعرفة بتلك الأسرار.
وحكي لي الأستاذ أحمد قرشي آدم وهو أمين الحركة الإسلامية بجنوب دارفور إبان أحداث بولاد أن الدكتور حسن الترابي الاب الروحي للتنظيم ، كان ضد مسألة إعدام بولاد وأنه كان بصدد التحقيق معه وأخذ ملاحظاته بشأن أوضاع الحركة الشعبية في الجنوب ، إذ كان يجري التحضير في الخرطوم لمتحرك صيف العبور المتجه لمناطق العمليات العسكرية ، وأن الترابي يعلم أن بولاد شخص غير عادي وهنا تكمن أهمية إفاداته ، لكن سبق السيف العزل!
فالرجل الغير عادي في نظر الإسلاميين ، أغفلته الحركة الشعبية في برنامج تكريمها الرمزي لشركاء النضال ، مع أن حرمه الأستاذة حواء عبدالمطلب وابنته المهندسة خالدة بولاد تقيمان في جوبا العاصمة. فهل يا تري بدأت ملامح تراجع وسقوط مشروع السودان الجديد ؟