عباس التجاني ـ أحمد حمدان

يكافح السودانيون بعزم للتخلص من ماض مظلم ملئ بالتمييز العرقي والجهوي، والتأسيس لمستقبل يسوده التعايش السلمي والعدالة الاجتماعية بمثلما نادت بذلك ثورة ديسمبر في شعارها “حرية سلام وعدالة”. لكن أحداث مأساوية وقعت الأسبوع الماضي في ولاية الجزيرة أعادت للزاكرة انتهاكات مرعبة ظل يمارسها نظام البشير طوال حقبة حكمه.

واعتدى الاسبوع الماضي حوالي ٥٠٠ شخص من مواطني منطقة “المعيلق” التابعة لمحلية الكاملين بولاية الجزيرة، على سكان الحي الشرقي لذات المنطقة المنحدرون من اقليم دارفور، بالضرب والسباب، كما أحرقوا نحو ٢٤ منزل، مخلفين خسائر قدرت بـ ١٧ مليون جنيه.

ووقعت الأحداث بسبب خلافات بين مواطنين بالمنطقة وسكان الحي المعروف بـ “الكنابي” وهم العاملون في مشروع الجزيرة، حيث يطالبون بتخطيط الحي وتمليكهم المنازل وتوصيل الخدمات لهم، بينما يرفض أهالي المنطقة ذلك ويعتبرون سكان “الكنابي” دخلاء لا حق لهم في تملك الأرض.

وتاورت الأحداث جراح لم تندمل بعد، كان قد فتحها نظام البشير في جسد التعايش السلمي بالبلاد حينما اعتمد سياسة ضرب المكونات الاجتماعية ببعضها البعض مما أزكى النعرات القبيلة، لكن نشطاء سياسيون يؤكدون في حديث لـ (سلام ميديا) أن ثورة ديسمبر خلقت انقلاب في منظومة القيم بالسودان، وهزمت كل محاولات النظام البائد لتوليد الخطاب العنصري والجهوي، من خلال شعار “يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور”.

يقول سفيان التجاني، باحث في فض النزاعات، لـ (سلام ميديا) إن الفرصة لا زالت مواتية لخلق واقع جديد في السودان يستوعب كل التنوع الموجود لإنجاز مرحلة تسودها عدالة إجتماعية يتم على أساسها توزيع عادل ومتوازن للتمينة والخدمات والبنى التحتية.

وأكد أن شعار “كل البلد دارفور” بمثلما وضع نهاية لنظام الإنقاذ البائد، وضع كذلك نهاية لفترة عصيبة من العنصرية البغيضة في السودان، مشيراً إلى أن جيل الثورة تجاوز بذلك كل المحددات التي فصّلت المجتمع السوداني الى طبقات على أساس أثني ومناطقي وديني كان الغرض منها فرض هيمنة أقلية على أغلبية.

وأضاف “أسس الشعار لأرضية متينة كان بمقدورها ان تأطر لعهد جديد من التسامح والتعايش وقبول الآخر دون إعتبار للجنس والنوع والقبيلة والدين والمنطقة، إلا ان تلك الأرضية سرعان ما تلاشت مع التعاطي مع الواقع السياسي الذي لم يستوعب أهداف الثورة بشكل كبير بالرغم من غياب خطاب الكراهية الصارخ الذي تم تدواله في الماضي”.

وكان شعار “يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور” أطلقه السودانيون خلال احتجاجات ثورة ديسمبر رداً على ممارسات الأجهزة الأمنية لنظام البشير العنصرية ضد الطلاب من أبناء دارفور، حينما قامت باعتقال العشرات منهم وتصويرهم برفقة أسلحة وعرضهم على شاشات التلفزة باعتبارهم مجرمون يخططون لاغتيالات وسط المتظاهرين.

وداهمت قوة من جهاز الأمن والمخابرات خلال الاحتجاجات سكن لطلاب من أبناء دارفور بجامعة سنار واعتقلتهم وصورتهم للرأي العام باعتبارهم خلية تدربت في إسرائيل لتنفيذ اغتيالات بالسودان، كما داهمت لاحقاً سكن لطلاب بجامعة الزعيم الأزهري بالدروشاب بالخرطوم بحري وأطلقت الرصاص عليهم مما أدى لمقتل طالب واعتقلت الآخرين بذات التهمة.

تصحيح الأخطاء

يقول بروفيسر سليمان يحيى، مدير معهد دراسات السلام بجامعة السودان، لـ (سلام ميديا) إن غالبية الشعب السوداني لم يكن مدركاً لأبشع أنواع الانتهاكات الانساية التي ارتكبها نظام البشير في دارفور بسبب التعتيم الاعلامي وتلفيق الأخبار لحجب الرؤية الحقيقة ومعرفة ما كان يجري من قبل الحكومة بجيشها ومليشياتها في الاقليم.

وأشار إلى أن حكومة البشير كانت توهم الناس بأنها تقاتل الحركات المتمردة فقط بينما كانت تستهدف الذين ينتمي إليهم قادة الحركات المسلحة. وأضاف “ذلك لم يفهم حقيقة إلا مع انفجار الثورة مدفوعة بالوعي الثوري الذي عبرت عنه في شعارها يا عنصري يا مغرور كل البلد دارفور”.

وتابع “هذا الشعار خرج من لب المطلب الأساس للثورة الذي هب وضحت وستظل تضحي ولن تتراجع عنه طال الزمن أو قصر ولا ترى بديلاً له ولا تتحقق الدولة المدنية بغيره، ولا تراجع او استسلام من دون الحرية والسلام والعدالة، مهما عملت قوى الثورة المضادة”.

ويؤكد يحيى أن العنصرية والجهوية لا مكان لها في المستقبل المرهون فقط بالتعايش السلمي، مما يتطلب تصحيح الأخطاء وتراكماتها فليس بمقدور كائن من كان أن يشرب من البحر مرتين، حسب قوله.

ويحاول الجميع ما بعد ثورة ديسمبر التغلب على سياسات طبعتها الثقافات المجتمعية المنطلقة من تجارة الرقيق التي كانت سائدة في القرن العشرين، حتى جاء نظام الحركة الاسلامية “ليزيد الطين بلة” باعتماده سياسة النقاء العرقي، فقد صرح البشير في خطاب شهير بعد انفصال الجنوب، بأن السودان أصبح عربياً اسلامياً لا وجود فيه لشريعة “الدغمسة”.

ويراهن الناشط المدني، محمد فتحي، على قدرة ثورة ديسمبر على وضع حد لكل أنواع التمييز العرقي التي ورثها السودان منذ أمد بعيد، بيد ان تلك الثمار ستحصده الأجيال اللاحقة لمفجري هذه الثورة ،كما جنت أجيال ما بعد الثورة الفرنسية نتائج شعارات ثورتهم الملهمة.

وقال لـ (سلام ميديا) إن عقدة العروبة والنقاء العربي لدى المثقف السوداني عقب الاستقلال هي المسؤل الأول والأخير عن تفشيها لاحقا، لجهة انه في ظل فترات الحكم الوطني تحول الصراع الطبقي المجتمعي بين أبناء العرب وأبناء العبيد على السلطة وأحقية ادارتها والسيطرة على كل مواردها.

وأوضح أن نظام الحركة الاسلامية بقيادة البشير عمق هذا الصراع وحوره الى صراع هوية عقائدية إضافة إلى ما سبق من معايير للهوية تحدد انتمائك الانساني ودرجتك المجتمعية.

وأشار إلى أن ثورة ديسمبر انفجرت في وجه الجميع بصورة مختلفة تماما عن كل الثورات التي سبقتها، لأنها ثورة مفاهيم في المقام الأول وليست انتفاضة من أجل تغيير على المستوى السياسي او الاقتصادي فقط.

وأضاف “ثورة ديسمبر هي أول معول يضرب ويشق الصورة النمطية لدى المجتمع السوداني حول الهوية وتلك بذرة ستكبر عبر التراكم والحراك الى أن تصير شجرة عملاقة يستظل بها الجميع ويتمتع الجميع بخيراتها بغض النظر عن اللون او العرق او الدين فيكفي ان تكون سوداني فقط”.

مواجهة الماضي

من جهته يقول الناشط الحقوقي، أبوهريرة أحمد، إن تحقيق التعايش السلمي والتسامح في السودان يتطلب مواجهة ومعالجة الأسباب الجذرية ورواسب التمييز والتحيزات التي استمرت لستة عقود من الزمان منذ العام 1956م.

وأضاف “من بين مسبباتها التمييز السياسي والايديولوجي والسيكولوجي والثقافي وعدم قبول الآخر وعدم احترام التنوع العرقي والديني والتنمية غير المتوازنة والظلم الاجتماعي مقترنة مع الإهانة والقمع والإفقار والإبادة الجماعية والحروب الأهلية”.

وأكد في قوله لـ (سلام ميديا) أن السودان في حاجة لمشروع وطني أخلاقي يعالج ختل وتركة النظام الإخواني البائد الذي أذكى الهوس الديني وبناء حواضن للكراهية والعنصرية بين السودانين.

وأشار إلى أن ديسمبر 2018 اختطت طريق سالك لبناء سودان جديد تسوده الحرية، والسلام والعدالة، إنتصافاً للمآسي التاريخية وبناءاً لمستقبل سلمي، مما يتطلب تحقيق التوزيع العادل للثروة والسلطة وإصلاح الخدمة المدنية لضمان تحقيق العدالة والكفاءة والنزاهة وتوزيع الخدمات والتنمية بلا تمييز وفتح الطريق لإقامة دولة المواطنة المتساوية يسود خلالها نظام حكم ديمقراطي مدني يعلي قيمة الحقوق المدنية ويضمن مشاركة ممثلين عن كل فئات المجتمع دون تمييز.

وما ذكره أبو هريرة هي مطالب تفاوض من أجلها حركات الكفاح المسلح في جوبا مع الحكومة الانتقالية على أمل ان يتم تضمين ما يتم التوصل له من اتفاق في الدستور الدائم الذي ينتظر ان يتوافق عليه عبر مؤتمر دستوري في نهاية الفترة الانتقالية.

يقول عضو شبكة الصحفيين السودانيين، حسن فاروق، لـ (سلام ميديا) إن ثورة ديسمبر أحدثت انقلاب في منظومة القيم بالسودان، لأنها ثورة وعي هزمت كل محاولات النظام البائد في توليد الخطاب العنصري والجهوي، فكان أحد شعاراتها “يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور” ما أربك حساب نظام المؤتمر الوطني، لأنه شعار أقوى من الرصاص.

وأضاف “الثورة السودانية هزمت فرية التميز وسياسة فرق تسد التي صنعها الانجليز واستمرت فيها الدولة الوطنية، مما ولد حروبات وصراعات أدت إلى التميز والتهميش وعدم توزيع عادل للسلطة والثروة بالسودان”.

وأوضح أن جيل ثورة ديسمبر أدهش العالم وتجاوز خطاب القوة التقدمية في السودان التي تناضل لإزالة التهميش وتعمل على بناء دولة تسع الجميع، مضيفاً “ربما خطاب هذه القوة أثر على مسار الثورة لكن جيلها تقدم على كل الدعوات والأشكال والأنماط العنصرية التي تمسك بها النظام البائد”.

ودعا فاروق لبناء وطن جديد، مطالباً المثقفين الذين يحاولون لبس ثوب الوعي الانتباه لمكونات خطابهم النخبوي ومدلولاته العنصرية، لأن جيل الثورة فوت الفرصة على الجميع ولم يقبل كل المحاولات لضرب وحدة السودان، حسب قوله.

وتابع “علينا الانتباه لأن العنصرية والتمييز العرقي لهما تاريخ في السودان، وترتفع الوتيرة في المناطق التي تعاني من تهميش، تمييز وعدم توازن في الفرص لكن الثورة وجيلها قضى على ذلك بالوعي والثورة موجودة ومستمرة”.