عصام أبو القاسم

سيبقى منصور خالد، الذي رحل فجر اليوم، رمزاً سياسياً وثقافياً وسياسياً خالداً بكل ما لكلمة الخلود من معنى. ستعرفه الأجيال المقبلة أكثر فأكثر، وستعرف من خلال مؤلفاته العديدة والثمينة، مسارات ومحطات الحياة السودانية، بمختلف وجوهها، منذ الخمسينيات وصولاً إلى أيامنا هذه. كتب الرجل كل شيء، وباللغتين العربية والانجليزية، كتب في كل وقت وفي كل مكان، كتب ببلاغة يستلذ بها كل من يعرف القراءة؛ كتب بفصاحة ترهب وتربك، كتب أكثر وأعمق وأشجع من أي واحد ممن زاملوه في مجال اشتغاله.
وحين يتتبع المرء سيرة الراحل سيلحظ على الفور كيف انه ما كان يفوت لا الأوقات ولا الفرص لإثراء تجربته المهنية والمعرفية،والتقدم إلى الأمام.
قرأت عن منصور خالد (1931ـ 2020)، الذي صنع أول اتفاقية سلام ناجحة بين شمال وجنوب السودان مطلع السبعينيات من القرن الماضي، انه عند دخوله جامعة الخرطوم (1951) التحق أولاً بقسم الفنون، ولكنه بعد عام راح ليدرس القانون، واثناء دراسته في الجامعة كان يكتب في الصحف، وراسل وكالة الأنباء الفرنسية، كما التحق بالمركز الثقافي الفرنسي في الخرطوم لتعلم اللغة الفرنسية، وظفر بمنحة من المركز للتعمق في الفرنسية في باريس.
وبعد حصوله على البكالوريس في القانون 1957، بثلاث سنوات (أي 1960) ، حصل على المجاستير في الاختصاص ذاته من جامعة بنسلفانيا (الولايات المتحدة)، ، ثم حاز سنة 1965 شهادة الدكتوراه في جامعة باريس في القانون أيض.
من 1964 إلى 1969 كان منصور خالد يعمل بين منظمتي الأمم المتحدة واليونسكو في بلدان مثل فرنسا وامريكا والجزائر، ثم صار جزءاً من نظام مايو 1969 حيث تقلد العديد من المناصب قبل أن يقاطع النميري مطلع الثمانينات ويلتحق بالحركة الشعبية بقيادة جون قرنق قرن، إلخ.
في وصف تكوينه الفكري والثقافي، قال منصور خالد، في مقدمة كتابه ” حوار مع الصفوة” إنه عرف ” في شرخ الصبا، محاياة تجارب تاريخية هامة كان لها أثر عميق على نظرته للأمور، على رأس تلك التجارب: تجربة الثورة الجزائرية غداة إعلان استقلالها، وتجربة التحول الاجتماعي في الولايات المتحدة الذي فجره الرئيس جون كنيدي، خاصة فيما يتعلق بالحقوق المدنية، ثم تجربة ثورة الربيع الشبابية في باريس، ومن المدهش أن يتعلم ذلك الشاب الوافد من قلب أفريقيا عن قارته الأم في ضفتي المتوسط ما لم يتعلمه في السودان. الجزائر في وهج تألقها الثوري في مطلع الستينيات كانت هي المثابة التي يلاقى فيها الآباء المؤسسون للتحرير الافريقي: أحمد سيكوتوري، مادبو كيتا، اميلكار كابرال، اوغسطينو نيتو، والقائد المؤسس كوامي نكروما”. وأضاف انه تعرف “على الشط الآخر من البحر على الجذور الفكرية للحضارات الافريقية في [مؤسسة الحضور الافريقي] التي مكنت القارئين من الإطلاع على الآثار الانشائية والبحثية لليوبولد سيدار سنغور، شيخ أنتا ديوب، هامباتي با، وعالم الاجتماع الفولتي كي زيريو، وأشار خالد إلى انه لُقن في طفولته، انه ينتمي إلى ـ أمة أصلها للعرب .. دينها خير دين يحب ـ ذلك كان نشيد مؤتمر الخريجين، حادي الركب، وكان صائغه سوداني من أصل نوبي”.
الروائى الراحل الطيب صالح، قال عن منصور خالد ” سواء راق لك أم لا، وسواء اتفقت معه أو لم تتفق، فإنك لا تستطيع أن تنكر، انه من أكثر المفكرين، لفتاً للنظر وتحريكاً للاهتمام، لا في السودان فحسب، لكن في اتساع العالم الثالث على إطلاقه، وحين ينطوي ظل هذا العهد القائم ـ نظام البشير ـ والظلال لا بد أن تنطوي طال نهارها أم قصر ـ فسوف يكون له شأن”.
ووصف صالح كتابات خالد قائلاً إنها تحفز على “التفكير والتأمل”، وأضاف ” الجرأة العقلية من سمات الدكتور منصور خالد منذ هو طالب علم يافع في مدرسة وادي سيدنا الثانوية أواخر الاربعينيات. قادته تلك الجرأة إلى أن ينحاز إلى معسكر الحركة التي يقودها جون قرنق. رغم انه لم يكن الشمالي الوحيد الذي فعل ذلك، فإن تحوله أحدث بلبلة بين رفقاء صباه واصدقائه والمعجبين بفكره. وكنت أحد الذي عجبوا لذلك التحول.. تساءل الناس كيف أن رجلاً نشأ في بيت علم ودين في مدينة أم درمان العتيدة، وامتلأ وجدانه بعشق اللغة العربية وتراث الإسلام؟ من أكثر الناس فصاحة عربية حين يتحدث أو يكتب، وشاعره المفضل هو أبو الطيب المتنبي.. كيف انحاز إلى حركة بدا كأنها تهدف إلى اقتلاع الكيونية العربية الإسلامية من أرض السودان؟ الذين أحسنوا الظن به قاله له رأي ما لم يرؤا وعرف ما لم يعرفوا… أيا كان الأمر فإن موقف الحركة قد تغير الان فانصاعت في نسق المطالبين بالوحدة إنما على أساس التعدد والشرعية الديمقراطية، وربما كان لمنصور خالد يد في ذلك”.
وعن الراحل كتب الدكتور عبد الله علي إبراهيم عنه في مقدمة كتابه الموسوم ” .. ومنصور خالد”، كتب معلقاً على مادة كتابه التي كانت في الأساس سلسلة مقالات نشرت في مجلة الخرطوم الجديدة “هذا كتاب عن كاتب لا مهرب منه في الفكر السياسي السوداني هو الدكتور منصور خالد”.
إلى جانب ” حوار مع الصفوة”، كتب الراحل العديد من المؤلفات منها، بلا ترتيب: ” لا خير فينا إن لم نقلها”، ” الفجر الكاذب “، و”السودان والنفق المظلم” ، و” النخبة السودانية وادمان الفشل”، و” جنوب السودان في المخيلة العربية”.
رحمه الله واسكنه فسيح جناته، وخالص التعازي للصديق العزيز عبد الماجد عليش، ابن خالة الراحل، والذي كتب كتابا قيماً حول الراحل بعنوان ” منصور خالد: ملاحظات وأسئلة بدون إجابات”