بقلم – حيدر المكاشفي
لم يكد النزاع الدموي القبلي الذي نشب بين قبيلتي الرزيقات والفلاتة فى غرب البلاد وأهدرت فيه أنفس عزيزة يهدأ نوعا ما، إذا باشتباك قبلي آخر عنيف وقع بين قبيلتي البني عامر والنوبة بشرق البلاد، وهو أصلا نزاع قديم لا يهدأ الا ليتجدد مرة أخرى، وهذه والله من مخازي القبلية المنتنة..
روي عن الراحل د . جون قرنق وهو يعد من الذين اهتموا بمسألة الهوية السودانية أنه روى قصة في احدي المقابلات التي أجريت معه قبيل رحيله الفاجع، ومفاد القصة أنه وزميل آخر له في الجيش السوداني حين كان ضابطا فيه، كانا في كورس بالولايات المتحدة الامريكية، وفي اليوم الاول للكورس تم تقسيم الدارسين من أنحاء العالم المختلفة حسب اقاليمهم الجغرافية، أمريكا اللاتينية، شرق وغرب أوروبا، شرق آسيا، أفريقيا، والعالم العربي أو الشرق الاوسط. وذكر قرنق أنه عندما تم هذا التقسيم احتار هو وزميله الاخر وكان من الشمال هل ينضمان الى مجموعة افريقيا أم الى الشرق الاوسط، حتى أن الضابط الأمريكي المسؤول عندما لاحظ حيرتهما سألهما من أين أنتما؟ فأجابا من السودان. فضحك وقال لهما اذهبا إلى أي اتجاه تريدانه وانضما إلى أي مجموعة تشاءا..
هذه الواقعة التي رواها قرنق تتجسد فيها تماما نظرة الشعوب الأخرى تجاهنا حتى في محيطنا العربي والخليجي، إذ يعتبروننا جميعنا على اختلاف قبائلنا (سوادنة) لا فرق عندهم بين جعلي من المسيكتاب أو حلفاوي من السكوت أو هدندوي من سنكات أو مسلاتي من قارسيلا أو دينكاوي من أبيي..
ثم تعال إلى داخل البلاد واسمع مني هذه الحكاية التي قصها علي شرطي مرور قبل سنين عدة، قال الشرطي أنه كان مرة يحقق في حادثة انقلاب لوري أودى بحياة الكثيرين من ركابه، وعند سؤاله لأحد الناجين عن عدد من كانوا على متن اللوري، قال كنا أربعطاشر، فينا تسعة رجال وأربعة نسوان وجنقاوي واحد (يقصد دينكاوي)..
ولم يكن أحد المسؤولين الكبار جدا يختلف في عنصريته في شئ عن ذاك المواطن العادي، قيل أن أحد كبار المسؤولين كان على موعد للقاء مسؤول كبير آخر يليه مباشرة في المقام والدرجة،جاء المسؤول الكبير الذي طلب اللقاء بالأكبر في الموعد تماما، أدخلته السكرتاريا المكتب الفخيم وأجلسته وأكرمته لحين حضور المسؤول الأكبر، وقتها كان المسؤول الأكبر يتسامر مع بعض خاصته في مكتب اخر مجاور، ولم يأبه لتنبيهات السكرتاريا له باللقاء للمرة الثانية بل كان غارقا في سمره وضحكه، وحين عاودت السكرتاريا تذكيره للمرة الثالثة، نهض واقفا وقال لخاصته ( أها يا جماعة ودعتكم الله نمشي نشوف العب دا عاوز يقول شنو)..
وحكاية (الجنقاوي والعب) ما هما إلا مجرد مثالين يمكنك أن تقيس عليهما مئات الآلاف بل ملايين الأمثلة الدالة على مدى تعشعش وتغلغل القبلية والعنصرية في الرؤوس وتجذرها في الثقافة الشعبية، بل الأنكى والأدهى أن كثيرا من النخب والقيادات التي تلعلع أصواتها في أجهزة الاعلام تلعن القبلية والعنصرية نظريا وجهرا من على المنابر بينما تمارسها عمليا في حياتها وسرا في مجالسها الخاصة..والادهى والامر من ذلك أن وزارة الداخلية كانت وربما لا تزال تخصص موضعا لـ(القبيلة) في كل فورمات التقديم لنيل الوثائق الثبوتية، والكارثة أن كل هذه الممارسات القبلية تتم رغم أنف وثيقة الحقوق الواردة في الدستور، وهذا ما يكشف أن القبلية داء معشعش فى الرؤوس ولم ولن تزله القراطيس..انها فى الحقيقة أزمة ثقافة وهوية بامتياز.