عبدالجليل سليمان

إذا قال لك أحدهم إن أفراداً من النوبة هم من قتلوا تسعة من بني عامر، خلال اليومين المنصرمين بكسلا، فهل تصدق ذلك؟
لربما كان بعضاً قليلاً من الجانبين مشاركاً في تأجيج المقتلة، في بدايتها، لكن لم تكن هنالك معركة حقيقية بينهما، وإن حدث طيفاً منها، فإنه جاء نتيجة لذلك التأجيج الذي تم التخطيط له وتنفيذه، من قبل طرف ثالث.
من هو؟
وبشهادات 18 شخصاً من الجانبين وآخرين من مواطني مدينة كسلا ممن تعود أصولهم إلى شمال السودان وغربه، وأربعة من منسوبي الشرطة والجيش، واستناداً إلى شهادة موثقة منفردة لأحد أبناء النوبة مسجلة على مقطع فيديو، وبالعودة إلى مقال اسحق أحمد فضل الله الذي سبق المقتلة بيوم، ومن قبله بيانات صادرة عن جهات مجهولة تم تداولها بين أبناء شرق السودان في الأيام التي سبقت الأحداث الأخيرة، تشيطن قبيلة بني عامر، باعتبار أفرادها كلهم (هكذا) محض كيزان داعمون للنظام السابق، وإنهم استفادوا منه، ولا يزالوا يدعمون فلوله، فإنني أرى الآن الصورة بوضوح.
**
إذاً، من المستفيد؟
هل بنو عامر والنوبة، مستفيدون؟ ولماذا يضحون بأبنائهم وممتلكاتهم الشحيحة الفقيرة وأرواحهم الطاهرة، ومن أجل ماذا؟ وهم المهمشون في الأرض، الفقراء، التائهون الهائمون، الأقل تمثيلاً في الدولة بكافة أجهزتها وفي كل قطاعاتها منذ استقلال البلاد وحتى يومنا هذا.
من يقول إنّ بني عامر أشرار، فقد كذب، فليس في السودان كله، من هو أكثر نزوعاً للسلام والتعايش والمحبة والتدين ونظافة اليد منهم، وحتى كيزانهم الكبار لم توجه إليهم حتى الآن اتهامات بالفساد وسرقة أراضي الدولة وممتلكاتها ومقدراتها، كما فعل البشير وإخوانه ونافع وعبد الباسط حمزة ومأمون حميدة وعلي كرتي والحاج عطا المنان وبقية الفلول البائدة، فهل هؤلاء بنو عامر؟ ثم كم كانت نسبة منسوبي بني عامر في الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني، مقارنة بالشماليين والدرافوريين، مثلاً؟ أحسبهم فرداً فرداً، فلن تتمكن من استخراج نسبة فرط قلتهم، ربما أقل من واحد من عشر بالمائة بكثير، فكيف استفادوا؟ أين العمارات والاطيان والأراضي والممتلكات التي نهبها إبراهيم محمود مثلاً، باعتباره كبير كيزان بني عامر في النظام البائد؟ ولتخبرنا لجنة إزالة التمكين الموقرة!
**
دعكم عن ذلك، وراجعوا يوميات التحري الخاصة بالشرطة وأجهزة الأمن الاخرى، منذ استقلال السودان وحتى اللحظة الراهنة، فلن تجدوا على مستوى السودان كله (حرفياً) أقل من منسوبي بني عامر ارتكاباً لكافة الجرائم من السرقة والرشوة والقتل وبيع الخمور والتزوير والنهب المسلح والاتجار في السلاح والبشر؟

لقد عاش النوبة جنباً بجنب أهلهم البني عامر بسلام ومودة ومحبة خاصة في كسلا، بل تعتبر العلاقات بين الجانبين مثالية إلى حد إنهم لا يشعرون باختلاف بينهم، كما إن النوبة قوم مسالمون وطيبون، لا يبادرون بالعدوان، كما أنهم أوفياء لعلاقاتهم، لا يغدرون.
إذاً، ما الذي حدث ويحدث، ومن الذي خطط وهيأ ثم ودبر ونفذ ؟
بطبيعة الحال، تتحمل الحكومة وعلى رأسها البرهان وحمدوك ووالي كسلا وجهازه، المسؤولية كاملة عن الأحداث المؤلمة؟
**
أين كان الوالي وحكومته وأجهزته الأمنية، عندما تطايرت الشرارات الأولى من الشر المستطير، ماذا كان يفعل بحق السماء؟. والٍ ليست لديه القدرة على محاصرة الأحداث في بدايتها ومنع تمددها، ليس جديراً بهذا المنصب، وعليه أن يغادر فوراً.
الحكومة المركزية، تركت الفلول يعيثون في الولايات ويفسدون فيها ويؤلبون المكونات الاجتماعية على بعضها البعض وعلى الحكومة نفسها، ويثيرون الفتن وينشرون القتل ليضعفوا حكومة (قحت) الضعيفة أصلاً، حتى تكاد تكون نسخة مطابقة للنسخة الأخيرة من حكومة الكيزان التي أسقطها الشعب، بل هي نفس الحكومة، وإلا لماذا يتركون اللجان الأمنية التي توالي قوات هيئة العمليات الانقلابية المحلولة تمرح وتسرح في كافة الولايات، عدا الخرطوم. إنها حكومة الخرطوم بامتياز.
ما حدث بكسلا، هو مخطط ومدبر من قبل جهات مستفيدة من الأحداث، وهذه الجهات لن تكون بطبيعة الحال، هذه الحكومة القحتية قليلة الحيلة باهتة الصورة، بطيئة الحركة، قليلة الخبرة، سميكة الجلد، فقيرة الخيال، واهنة القبضة. وإنما هي جهة أخرى تركتها هذه الحكومة تمرح وتسرح خشية منها أو تواطئاً معها من أحد مكونات الحكومة نفسها، هذه الجهة هي اللجان الأمنية الموالية لفلول النظام السابق، ولهيئة العمليات المحلولة، وإلاّ فإن من كانوا يطلقون النار على الأبرياء ويحرقون، كانوا مسلحون في زي مدني على عربات مكشوفة (بكاسي/ لاندكروزرات) لا تحمل أرقاماً، فما هي الجهة الأمنية التي تحمل هذه المواصفات؟
**
بجانب مقاطع الفيديو الذائعة والمعروفة، فإن شهادة مهمة أدلى بها أحد أبناء حي كادوقلي ، قال فيها بوضوح تام ودونما لبس، إن عربة مكشوفة (بوكس) وصلت الحي في وجود الجيش والشرطة، وعلى ظهرها مسلحون، وهي التي بادرت باطلاق النار والحرق، وقال إنه وكثيرون يعرفون الشخص الذي بدأ الحرق، وهذا الشخص وهؤلاء المسلحون على ظهر (البوكس)، وليس الذين خرجوا مجبرين للدفاع عن أنفسهم من الموت والنهب والسلب، هم من يجب على حكومة الوالي واجهزته الأمنية المنهارة أو المتواطئة، جلبهم للعدالة، فهؤلاء من لديهم المعلومات الوافية والتفصيلية عن من دبر هذا المخطط ومن نفذه ومن موله، ومن روج له؟
النوبة وبني عامر ضحايا مخطط (كيزاني/ فلولي) بغيض، ضحايا فئة قليلة مجرمة وسافلة، وهذه الفئة معروفة، لكن الحكومة (الانتقامية)/ الانتقالية، وبالذات المكون العسكري – عدا الدعم السريع – يريدها أن تعمل فيما بإمكانه القضاء عليها قضاءً مبرماً، وفي وقت وجيز. نعم يريدها أن تعمل الآن لصالحة حتى يظهر الجانب المدني بالضعف وقلة الحيلة، كما يظهر الدعم السريع أيضاً، وهذا ما حدث مع هيئة العمليات أيضاً، حتى تركوها تنقلب على الحكومة، ولولا تدارك الدعم السريع للأمر في لحظاته الأخيرة لعاد الكيزان مجدداً، هذه حقائق ينبغي أن تقال، وعلى عبد الفتاح البرهان أن ينفض يده الآن قبل الغد عن هذه الفلول الكامنه في الأجهزة الأمنية وقيادة الجيش، وقائمة بقوة في كل حكومات الولايات. ما لم تتم الإطاحة بها بسرعة وحسم، فإن السودان كله سيذهب إلى الجحيم.
**
لذلك فإنّ القصة المروّية الآن، عن صراع بين (بني عامر ونوبة) يمتد في القضارف وكسلا وخشم القربة وبورتسودان، قصة شديدة التفاهة ولا قيمة لها. ما حدث ويحدث إنه تم توريط الجانبين في معركة دونما معترك، باعتبار إن دمائهم رخيصة وأموالهم وممتلكاتهم الشحيحة – إن جاز أن نسمي بعض الأفران والكناتين والقطاطي وبيوت الطين أموالا وممتلكاتاً في الأصل – غنيمة لحرب الفلول من أجل استعادة السلطة.
قصة (بني عامر ونوبة) مفتعلة، تزكيها بعض الأصوات الغبية من الجانبين، هؤلاء الأشخاص الجهلة الذين لا يعرفون كيف تدار الأمور من قبل النافذين الكبار في مركز الخرطوم التعيس، يتركونهم يشتمون بعضهم ويسيئون لبعض في السوشيال ميديا، بينما هم يخططون لهم، هؤلاء مثلهم كمثل ديك المسلمية (يحمروا لى بصلتو وهو يعوعي).
**
فصلاً ختاماً: من خطط وأجج ودبر ونفذ (معروفون)، وعلى الجهات الأمنية جلبهم للعدالة بسرعة. حكومة ولاية كسلا وعلى رأسها اللواء الكوز تتحمل المسؤولية والتقصير و يجب أن تذهب فوراً. البرهان رئيس مجلس السيادة، ليست لديه إرادة كافية للإطاحة باللجان الأمنية ممثلة الفلول، وهو يتحمل المسؤولية، كما يتحمل مسؤولية صمته ليوميين متتاليين، ولا يعفيه من ذلك انشغاله بالتطبيع مع إسرائيل، أما عبد الله حمدوك فلا يجب الحديث عنه كثيراً، فقط نقول له ” لا في العير أنت ولا النفير”