ابوذر مسعود
algfary88@gmail.com
قبل ثلاثين عاما من التقاط هذه الصورة
كان الزمان لسه راضي والناس ظروفها مقدره
كان التلميذان محمد حسن التعايشي وعائشة محمد موسي يقبعان تحت قاع رحيم يتدارسون فك الحرف وتعلم قصار الصور في مدرسة رهيد البردي الابتدائية المختلطه في اقصي جنوب غربي البلاد جاء التعايشي من حي شم النسيم بردائه البني وقمصيه الابيض الدموري يضع اولي خطواته علي عتبات الامل المكمُونة وروح البراءة الطفُولية
بالمقابل جاءت التلميذة عائشه تتبضع بين جنحيها وعد المستقبل بقلبها الناصع البياض وفستانها الاخضر وجدائلها المسدله بنُورها المُشع من وجهِهُا البريئ الملائكي ..
سادت روح الزمالة وترسخت الافكار الحالمه التي تشيع بالطاقة الإيجابية في بيئة العلم والامل ومرات الايام السنوات افتراقا الانداد
لم يجول بخلدهما ان الايام حبلي بالفرح الجميل وان عذابات الغربة والترحال مهما طال ليلها ستحمل خبرا سعيد يفيض بالحق والخير والجمال .
غادر التلميذ التعايشي مرتع صباه رهيد البردي الي برام طالبا بمدرسها الثانويه مرورا بنيالا الي الخرطوم مقبولأ بكليه غردون مسجل اسمه في دفتر الحضور ثم رئيسا لطلابها فيما بعد في اشهر عمليه انتخابيه حقيقه شهدها تاريخ السودان الحديث
قال كلمته ومضى في عز هاجرة الحكومة السابقة عبر مثل طيف ؛ وإنقبض كظل في سكون شريف ؛
طار الي عاصمة الضباب التي يموت حيتانها من البرد وانطبق عليه قول ازهري محمد علي
(يوم استفزت قدرتك
قيمة المسافات
عرفت إنك قليل حيله وفصيح
ستفت عمرك فى حقايب الرجعه
للسفر القديم)
ما ان تبدلت الايام وهبت ريح الثورة المظفرة وعلت الاصوات المشرئبة الي الانعتاق تشق عنان السماء (حريه سلام وعدالة والثورة خيار الشعب) من كل حدب وصوب من بيوت الجالوص وغابات الاسمنت في طقسآ استوائي شديد الحرارة ارقت مضاجع الفتي الثائر فهب الحبيب من مرقده الناعم الوثير ليحمل هم الوطن حين كان الوطن يغلي كالمرجل واللاندكروزات في شوراع الخرطوم تزأر في وحشيتها وعلي ظهورها يلقون الشابات والشباب الغض كزكائب البضاعه والبوت الذي يركل الوجوه والسياط التي تقتلع اللحم من الظهور والصفعات والبصق والكثير الي ان انجلت الخطوب وسقطت قوة البشير الفاسدة وعاد الحبيب المستطاب الي حضن الوطن محمولا بكلتا جناحي الشموخ والعزة والسؤددة الي مباني قصر غردون المنيف امين علي ملف السلام والمصالحه ليطير بما اوتمن علي اصقاع المدن البعيده بحثأ عن بريق امل
ليحط به طائره وتصاريف القدر هذه المره في (كركر ) اخر نقطة علي خارطة جغرافية الوطن في الحدود مع افريقيا الوسطى .
لتمنحنا قصه هذه الصورة التي تموج بالبساطة والرمز الظاهر لعمق الفكرة بين التعايشي عضو المجلس السيادي والزميله عائشه موسي بائعه الشاي في اعمق تجليات تصاريف القدر .
والأهم من ذلك أن هذا هو المعني الذي تدور حوله شخصية التعايشي الإنسانية, فالتعايشي الإنسان هو تجسيد لهذا المعني الجميل الذي يعبر عنه في قلبه الكبير وحبه للناس ومعني الحياة القائم علي المحبة والصداقة فإنه أيضا عاشق للسودان بلده الأصلي الذي ولد فيه, وهو عاشق لأهله الذين عاشوا في البيئات السودانية الشعبية, ولم يكن لهم حياة خارج هذه البيئة, وفي بيئة السودان الشعبية هذه تعلم التعايشي كثيرا من الحكمة الفطرية ومباديء الأخلاق الصادقة التي لاتعقيد فيها ولاتكلف, وفي هذه البيئة نفسها استمع التعايشي إلي (الجمل راقد) والسنجك والموسيقي الشعبية, وحفظ عن ظهر قلب مئات الأبيات الشعرية العامية السودانية من لدن الاندرين وعلي الرهيد , ووجد فيهما برغم بساطة مظهرهما عمقا إنسانيا وصورا فنية بديعة وأصيلة, ولذلك فقد أحبهما. فالتعايشي ليس سوي سوداني قح شعبي أقرب إلي أهل التصوف الرفيع الذي يرتفع عن صراعات الدنيا, ويلتفت إلي نداءات قوية وخفية في داخله تدعوه إلي حب أهله والاقتراب منهم والشعور الغامر بالحنان نحوهم ـ لم تغيره الافنديه وبريق السلطة شيئا من أصالته, ولم تقتلع منه جذوره الشعبية الإنسانية التي تربط بينه وبين اهله برباط روحي وثيق.
المحبة كلمةطيبه جامعة,وللتعايشي نوع اخر من المحبه .
أحب الأرض والناس عن معرفة أكيدة بحالهم وأحوالهم, فكانت له المحبة في القلوب لاتفصله زحمه الحياة ولا ضوضاء المدن عن بيته وقريته وأهله, وهو الذي يجمع في شخصيته أرقي معاني الحضارة وأحدثها وأكثرها عصرية مع أبسط معاني الحياة وأصدقها يمثل في حياته وسلوكه وتعامله مع الناس شخصية نادرة وباهرة, وهو نموذج مثالي للابن البلد البار الذي جمع بين النبوغ الاكاديمي والنبوغ الإنساني, فهذا الجانب الإنساني عند التعايشي بالغ الروعة, وهو جانب يقدم لنا مثلا أعلي للإنسان صاحب القلب العامر بالعواطف الكريمة الصادقة والثابتة, ومثل هذه الشخصية الإنسانية هي الآن بالتحديد
قيمة عالية جدا, خاصة في هذا العصر الذي يشكو فيه الكثيرون من جفاف العواطف وانصراف الناس إلي المنافع والمصالح, وانقطاع العلاقات الإنسانية الحميمة بين الأفراد, حيث يبدو كل فرد مشغولا بهمومه الخاصة التي تفصل بينه وبين الآخرين بجدار سميك. في هذا العصر يبدو التعايشي منارة إنسانية تفيض بالنور الذي يهدي السائرين.
هل مازالت الدنيا تتسع لمثل هؤلاء الفضلاء من الناس؟
الذين لديهم قدرة عجيبة علي أن يغلق أبواب دماغه إن لم يعجبه الحديث أو رأي فيه سخفا, فتراه ينظر إليك ولا يراك, ويستمع إليك ولا يسمعك لايعادي ولا يحاسب ولا يلوم, , لا ينافق ولا يحابي. قنوع لدرجة إهمال حقوقه. كل شيء لدي التعايشي سوداني ملفوف بالحشمة والتقشف ونكران الذات..
اشتهاء ..مايو 2020م
الضعين