عبد الكريم الكابلي

كتب : فرح امبدة

اول أمس “الجمعة” أكرم الله سبحانه وتعالي، المغني، الفنان، الشاعر، المثقف، الرسام، الملحن،الباحث، المنقِب، التُراثي، المُنشد، جميل الطبع والطبائع، الوطني، عبد الكريم عبد العزيز محمد عبد الرحمن الكابلي، بالرحيل عن دنيانا الفانية، قضي 90 عاما، يعلم، ويدرس، وينثر المعرفة، ويزرع الجمال في ربوع بلادنا والعالم، أكرمه الله جلّ شأنه، بلقاءه يوم القيامة ولا حساب عليه، فقد أخرج ابن جريح عن عطاء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم أو مسلمة يموت في يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقي عذاب القبر وفتنة القبر ولقي الله ولا حساب عليه، وجاء يوم القيامة ومعه شهود يشهدون له “انتهي الحديث”، ترك كابلي، واسرته تناديه هكذا دون تعريف، مكتبة عظيمة من المعرفة الموسيقية، والغناء الجميل، والاحاديث المفيدة، لم يكن مطربا عابرا، ولا مؤديا ساذجا، ولا شاعرا يبحث عن مكان وموضع تحت الشمس، كان “مدرسة” في ترفيع الذوق، ونثر الجمال، وتشكيل الوجدان، صارع المرض لاكثر من ثلاثة اشهرفي صمت وهدوء وبايمان حتي صرعه، بعيدا عن “ناسه” … هناك في الولايات المتحدة الأمريكية .. في غربه هي الأقسي كما قالت اغنيته، سكت صوت الكنار الصباحي، ولم تعد اغان الصباح هى هى.. كما كانت.

نعاه الصحفي، صلاح شعيب قبل وفاته وكانه كان يدرك ساعة رحيله،  قائلا ” كم أنت رائع يا كابلي، وكم أنت مُبْدِع.. طِبْتَ وطاب لك مقامك أيْنَما كنت، وطاب يومك وغدك وكل العُمْرِ فقد منحته لنا”

 

حزن الصباح:

والشمس هنا في السودان تفج بقايا سحب الشتاء وتزحف بضوءها، لتنير لنا الظلام، وهناك في اقصي الغرب، في امريكا، تدافر لتخرج من بين السحب، جاء نعي كابلي من ابنه سعد، ليفجر البكاء في الدياجير والوطن، قال من على منصته في “فيسبوك”، “بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره ننقل اليكم خبر وفاة الوالد عبد الكريم الكابلي.. ‏اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واجعل قبره روضة من رياض الجنة”.

لم يكمل سعد ما سطره، حتي عرف العالم، والسودان، ان احب بنيه اليه قد رحل، وتبارت وسائل الاعلام المحلية والعالمية، في التعريف بحزنها علي فقده، قال عنه، مجلس السياده “الكابلي من الفنانيين والموسيقيين الافذاذ والمتفردين في مضمار الغناء والفن السوداني الاصيل” أما رئيس الوزراء عبد الله حمدوك فقال “كابلي فقد للأمة السودانية وكل مُحب للفن والجمال والحياة وهو رمزٌ من رموز الفن والجمال السوداني الباذخ، وصرحٌ أدبيٌ ضخم نحت اسمه في وجدان شعبنا بأحرف من نور”، قالت عنه ” RT الكابلي شاعر وملحن ومطرب وباحث في التراث الشعبي السوداني إلى جانب كونه مثقفا ومترجما” اما البي بي سي فقد قالت ” ظل الكابلى لأكثر من خمسين عاما يمثل حالة فريدة من تنوع إبداعى أثرى المكتبة الغنائية والحياة الثقافية والأدبية فى السودان، ونبهت قناة العربية الي ان براعة الكابلي ومواهبه الفنية تواصلت لنحو 60 عاما من الإبداع، ترواحت ابداعاته بين كتابة الشعر وتأليف الألحان والتعمق فى بحث التراث السودانى فصار مرجعا لأجيال تلته.

 

من هو كابلي

تقول السيرة الذاتية لكابلي “حسب ما هو مدون في موقع ويكيبيديا” انه ولد في مدينة بورتسودان في العام 1932، ودرس بها حيث بدأ الدراسة بخلوة الشيخ الشريف الهادي، ثم المرحلة الأولية والوسطى بمدينة بورتسودان والمرحلة الثانوية بمدينة أم درمان بكلية التجارة الصغرى،  والده هو عبد العزيز محمد عبد العزيز بن يوسف بن عبد الرحمن وتزوج بمدينة القلابات من صفية ابنة الشريف أحمد محمد نور زروق من أشراف مكة اللذين هاجروا إلى المغرب ثم جاؤوا للسودان لنشر الدعوة الإسلامية،  نشأ كابلي وشبَّ في مرتع صباه ما بين مدن بورتسودان وسواكن وطوكر والقلابات والقضارف والجزيرة خصوصا منطقة أبوقوتة وكسلا.

محطة القضائية

بعد إكمالة المرحلة الثانوية، التحق بالمصلحة القضائيه بالخرطوم وتعيّن في وظيفة مفتش إداري بإدارة المحاكم وذلك في العام 1951م وعمل بها لمدة أربعة سنوات ثم تم نقله إلى مدينة مروي ومكث بها لمدة ثلاثة سنوات إلى أن تم نقله مرة أخرى إلى مدينة الخرطوم واستمر بها حتى وصل إلى درجة كبير مفتشي إدارة المحاكم في العام 1977 م و بعد ذلك هاجر إلى المملكة العربية السعودية ليتعاقد مع إحدى المؤسسات السعودية مترجما في مدينة الرياض في العام 1978 م ولم تستمر غربته طويلا حيث عاد إلى السودان في العام 1981 م ليواصل رحلته الإبداعية مرة أخرى.

بداياته الفنية

بدأ الغناء منذ الثامنة عشر من عمره، وظلَّ يغني في دائرة جلسات الأصدقاء والأهل لمدة عقد من الزمان، حين بدأ الكابلي حياته الفنية، كان مؤدياً لأغنيات حسن عطية والتاج مصطفى وعبد الدافع عثمان وأحمد المصطفى، ومع أنه أدرك هؤلاء الرواد وصار علماً في دنيا الغناء مثلهم، إلا أنه ظل يتعامل معهم مثلما يتعامل التلميذ مع أستاذه، إلى أن واتته الفرصة الحقيقية نوفمبر عام 1960 عندما تغني برائعة الشاعر تاج السر الحسن أنشودة آسيا وأفريقيا بحضور الرئيس عبد الناصر الذي أغرم به عبد الكريم الكابلي وكان من مناصريه.

 

أوبريتات كابلي

اوبريت مروي، فقد قام بتأليف عن مدينة مروي التاريخية أثناء عمله بها أواخر خمسينيات القرن الماضي، ولم يكن حينها يعرف شيئا عن الأوبريت.، اوبريت ليلة المولد، وهو من تأليف الشاعر محمد المهدي المجذوب وتلحين كابلي، اما الهجرة والإغتراب، فهو من تأليف، الشاعر والسياسي، الراحل، الشريف زين العابدين الهندي وتلحين كابلي والأداء الصوتي مع مجموعة من شباب الفنانيين.

رحلاته الخارجية

في العام 1974 سافر إلى أمريكا في جولة غنائية، وقام -آنذاك- بإلقاء محاضرات ودراسات في التراث السوداني في العديد من الدول العربية والأوربية كما تم تعيينه سفيرا للنوايا الحسنة.

كابلي سفيرا

 

تم اختيار الكابلي سفيراً بصندوق السكان التابع للأمم المتحدة (UNFPA) لمساعدة المنظمة على محاربة ختان الإناث، الزواج المبكر، والناسور البولي، حيث إن إحصاءات مكتب الأمم المتحدة لصندوق السكان أكدت أن نسبة عالية من الفتيات اللائي تزوجن في سن مبكره، أو تعرضن للختان يتوفين أثناء الولادة.

 

أغنيات كابلي

للكابلي الكثير من الأغنيات التي تربّعت على عرش الأغنيات في السودان منها: حبيبة عمري، أنشودة آسيا وأفريقيا، يا ضنين الوعد، أراك عصي الدمع، أكاد لا اصدق، زمان الناس، حبك للناس، شمعة، لماذا، معذوفة لدرويش متجول، للشاعر محمد مفتاح الفيتورى، يا أغلى من نفسي للشاعر عبد الوهاب هلاوي وألحان أسماء حمزة، في نوفمبر من العام 1960 قام عبد الكريم الكابلي بأداء أغنية آسيا وأفريقيا لأول صعود له على خشبة المسرح احتفالا بزيارة الرئيس جمال عبد الناصر، ومنذ ذلك الحين بدأت انطلاقته الحقيقة ،انشغل كابلي بالغناء من وقت مبكر من عمره وغنى الراحل باللغة العربية الفصحى والعامية السودانية بإجادة.

مؤلفات كابلي

أصدر الكابلي أخيرا مؤلفا سماه “أنغام لا ألغام”، يتناول هذا المؤلف رؤيته للحياة فى ظل عالم مضطرب، لكن المكتبة الصوتية تحتفظ له بمئات المؤلفات الموسيقية والغنائية.

قال عن نفسه

“نشأت من جذورٍ لعائلة تعود إلى مدينة كابل الأفغانية، ومن جذورٍ تعود إلى جبل مرة في دارفور من جهة امي، جينات والدتي تنحدر من فرع من قبيلة الفور وهم (الكنجارة)، وأنا وُلِدت في الشرق، وعشت ردحاً من الزمان في الشمال، ثم انتقلت للعاصمة، وهذا المزيج منحني الفرصة للاهتمام بالتراث السوداني، ومحاولة تمثله في مشروعي الفني، بدايتي كانت موهبة فِطْرِية، وعشقاً للفن في شتى صوره، وللغناء بوجه خاص، وظلَّت البداية تنمو وتتشكل حتى تأسست شخصيتي… صحيح أنني لم أكُنْ على وعي بمكنون هذه الشخصية، ولكن بكثير من الصبر، والمثابرة، استطعت التوصل إليها، وهي شخصية تستلهم القديم، ولا تقلده، وتستشرف الحديث دون أن تفقد هويتها وأصالته، شأني كمعظم المخضرمين، لم أجد طريقي مفروشاً بالياسمين إنَّما اصطدمت بعقبات جَمَّة، من أهمها أن المجتمع لم يكن ينظر إلى الفن باحترام، وكان الفنان يحتل مرتبة متدنية من السلم الاجتماعي، غير أن هذا الأمر قد تغير في ما بعد”.

قالوا عن كابلي

 

الصحفي صلاح شعيب :

عبد الكريم الكابلي .. مطر الإبداع في خريف البلاد، يمتلك واحداً من أجمل الأصوات الغنائية التي أنجبتها بلادنا. ولا يمكن التأريخ لمسار الأغنية السودانية دون إفراد حيز كبير للدور الذي لعبه الكابلي في تجديد أصول الغناء، والتفريع لأنواعه، ليس ذلك فحسب، فالمجهود الفني للكابلي يتوازى مع دوره الكبير كمبدع مثابر حمل بعض أحلام اجتماعية، وسياسية، لأجيال عديدة، وعبر عنها من خلال مشروعه الغنائي الذي قام على أعمدة من المعارف العامة، والموسيقية على وجه التحديد، كما يشير بعض الموسيقيين إلى أن الأسلوب السهل الممتنع الذي عرف به الكابلي في التلحين يتناسب مع طبيعة تعامله السهل مع واقعه الحياتي، وتواضعه الإنساني الجَم، ورهافة إحساسه، الواضح أن الكابلي لم يلجأ لحشو لَحْنه بالمقدمات الموسيقية الكثيفة حتى يعطي المتلقي انطباعاً بتصنيع مفرداته الموسيقية، كما كان هذا الأسلوب هو دأب كثير من الملحنين الجدد، والذين تغيب السلاسة في موازيرهم وجملهم الموسيقية بدعوى التحديث للميلودية السودانية الواضحة والسلسلة في تموجاتها النغمية، صعوداً، وهبوطاً.

 

الناقد عبد الهادي الصديق :

إن بداية الكابلي الغنائية “تفتحت أول مرة عبر مسالك الأناشيد المدرسية، وهو لا زال يعزف على آلة الصفارة، وأدى تشجيع أستاذه ضرار صالح ضرار إلى نيله جائزة في إلقاء الشعر وهو يلقي رائعة صفي الدين بن الحلي.. (سل الرماح العوالي عن معالينا).. وانتقل من المدرسة المتوسطة إلى الثانوية الصغرى بأم درمان. وهو يجيد العزف على آلة العود، وقد أكمل قراءة طه حسين والمنفلوطي وما إليهما، ولكنه لم يشبع فأخذ يدندن بأشعار المتنبئ. وفي أم درمان دخل ندوة عبد الله حامد الأمين فانتقى منها عقداً منضداً من عيون الشعر السوداني

إن الكابلي يحبه أهل السودان لأنه عاد بهم غائصاً في عمق التراث الشعبي والقومي.. تراث بنونة وشغبة وبت مسيمس، ولم يقدم ذلك مغنياً وكفى، بل قدم المحاضرة تلو المحاضرة، والندوة تلو الأخرى في دُور الثقافة والمنتديات محلياً وعربياً وأجنبياً”.

ويضيف الصديق: “إن مكان الكابلي في حركة الثقافة السودانية كبير ومتسع، كاتباً، ومؤلفاً موسيقياً، ومغنياً، ووطنياً محباً لبلاده كما أحبها خليل فرح وهو يصدح كما الكابلي من بعده”.

 

الشاعر السر أحمد قدور:

للكابلي دوراً كبيراً في إعادة القصيدة الفصحى إلى الغناء السوداني في فترة الستينيات الماضية وما بعدها. لو أراد أحد الدارسين لشعر الغناء السوداني وتطوره منذ نهاية الخمسينات الماضية وحتى الآن فإنه سيضع الشاعر عبد الكريم الكابلي مع شعراء المقدمة في هذه الفترة، لا لأن الكابلي كتب أغنيات تغنى بها هو وتغنى بها سواه، ولكن لأن الكابلي الشاعر صاحب أسلوب خاص في التناول. وإذا كان بعض المطربين قد سبقوه في كتابة أغنيات لأنفسهم مثل الكاشف عندما ألف لنفسه أغنية (الحبيب) والعاقب محمد حسن عندما كتب (العودة لمتين) وغيرهما، فكانت محاولاتهم مجرد حالات متفرقة ونادرة، فالأمر عند الكابلي يختلف تمام الاختلاف، فهو منذ البداية أراد أن يعبر عن نفسه بأسلوب آخر. وحتى عندما تغنى بشعر الآخرين فهو يبحث عن هذا الأسلوب الآخر. وهو صاحب تعبير متفرد وجديد”.

 

السفير نور الدين ساتي:

إن صيت الكابلي، وأثره، لم يكنا محدودين للسودان وحده، ففي جولاته الخارجية حول العالم حمل معه رسالة السلام، والمحبة لكل الإنسانية، وكان من التقدير الآجل أن عينته الأمم المتحدة سفيرا للنوايا الحسنة. وكنت قد عثرت على فرصة لأكون شاهداً على مساهمة الكابلي الكبيرة لتطوير ثقافة السلام على مستوى أفريقيا، والعالم على مستوى أشمل، إن روح الشاعرية التي تقمصت المبدع الكابلي منذ بدء علاقته بالإبداع، وتوازت مع جمالِ صوته ذي الإمكانات الهائلة ساعدته في تخيّر الأشعار الجيدة التي غناها للشعراء.

 

الموسيقاريوسف الموصلي

أنا أحب صوت الكابلي جداً، خصوصاً عندما يتجه إلى القرار المنطقة الغليظة في صوته، وتمنيت لو أن الله منحني هذه الإمكانية في صوته، وهو من أمْيَز مطربينا في منطقة القرار.

 

الصحفي طلحة جبريل:

إن الكابلي كان وما يزال نموذجاً للفنان المثقف، وأتذكر حديثاً بيني وبين الفنان المغربي عبد الوهاب الدكالي، قلت له إن لدينا فناناً مثقفاً لا مثيل له في العالم العربي، وحين سمع الدكالي ثلاثاً من أغاني كابلي، وهي “أراك عصي الدمع” التي لحنها قبل أم كلثوم، وقصيدة ليزيد بن معاوية “نالت على يدها ما لم تنله يدي” وأغنية “أجمل من لؤلؤة بَضَّة صيدت من شط البحرين”، قال الدكالي: بالفعل هذا فنان مثقف، واستثنائي”.

 

الصحفي معاوية يسن:

 الوفاء من خصال الأخ الأستاذ عبد الكريم عبد العزيز الكابلي التي لا يعرفها كثيرون. فهو وفِيٌّ للغاية لأصدقائه. وهي خصلة حميدة تضاف إلى شمائله التي جعلت منه فناناً، وشاعراً عبقرياً. ولئن كتب في صحائف تاريخه ما قام به في سبيل توثيق وإشاعة الغناء التراثي والشعر الشعبي، وتوفيره اللحمة اللازمة لربط أجيال من السودانيين بكلمتهم العامية التي كادت المدنية أن تطمرها، وأسقط من تلك الصحائف كسبه في صنع الغناء المعاصر، وشعره الغنائي الثر، وقصائده الفصيحة الحسنة، لكفاه”.

 

الكاتب والمفكر سمير الشرنوبي :

الفنان عبد الكريم الكابلي من مشاهير السودان وله مكانه خاصه في قلوب السودانين في أنحاء الوطن العربي وفي بعض الدول الاوربيه، وفي امريكا حيث اقام، شَنّف فيها آذان سودانيي الدياسبورا، وعَرّف بإنسانها، وتعدد ثقافاته، وحاضَر لمربعاتٍ مجتمعية في الولايات المتحدة عن فننا، وإذا جاز التأمل في النصوص التي غناها الكابلي فإنها تنوعت برغم أن خيطاً وجدانياً واحداً يربط بينها، فالكابلي كتب وغنى شعر: الأغنية التقليدية و”المسادير” والتراث، الشعر العربي القديم والحداثة، شعر سوداني فصيح وشعر المديح. ولعل كل هذه النماذج التي عمق بها الكابلي مشروعه الغنائي تولدت من بيئة شعر الغناء السوداني إجمالاً..