بقلم : محمود الشين

   ما شهدت في حياتي ملحمة للسودانيين ولا سيما الشباب منهم كتلك التي حدثت في ساحة إعتصام القيادة العامة وسط الخرطوم. كان يومها كل شيء جميل – الناس والأشياء وحتى الفضاء الجمالي للوطن الكبير.

  سنحكي تباعاً بمشيئة الله عن أيام القيادة ولياليها الرائعات والتي أظهرت تنوع أهل هذا البلد بشكل محفز للتلاقي والتعايش بأمان. وهو مطلب أخفقت في إنجازه معظم وزارات الثقافة والإعلام في كل الحكومات المتعاقبة منذ فجر الإستقلال.

  مع هذا الإخفاق المتوارث أصبح التنوع الذي هو مصدر قوة وثراء – أحد عوامل النزاع في كثير من المناطق خاصة الطرفية منها ، مما عرض أمننا الإجتماعي والثقافي للخطر. لكن الثوار فعلوها وعن طيب خاطر ، حين احالوا وسط دهشة الجميع ساحة الإعتصام إلى وطن كبير للإلفة والتسامح.

وبرغم دقة وتنظيم حركة تلك الجموع الهادرة بكل تكافلها المشهود – فقد أظهرت الأيام مدي إخفاق الإداريين في مسألة التوثيق الإحترافي لتلك الملحمة التي قد لا تتكرر في المستقبل المنظور – والواقع أن معظم ما ينشر ويبث الآن عن لحظات الإعتصام ، لا يعدو كونه تصوير هواة تماهوا مع مشاعرهم المسافرة كما الطيف في مقرن النيلين.

    لا أدري لماذا تؤول كل (ملاحمنا) إلى هذا المصير المظلم؟ من لدن ملحمة أكتوبر 1964م  والتي وثق لها بموضوعية الشاعر الكبير هاشم صديق أو غيرها من منجزات ضاعت وإندثرت ، فالتلفزيون السوداني مثلاً كشأن معظم أعلامنا الرسمي ، لا يملك في إرشيفه مادة توثيقية (ليلة أكتوبر) على سجيتها .. أكتوبر الثورة الباذخة بكل زخمها السياسي وتفاعلاتها الإجتماعية والثقافية.

  وكما هي العادة – والحديث هنا عن (الإخفاق وإخفاء المنتج أو ضياعه) ، فإن الفاعل ضمير مستتر – تقديره نحن كأمة وشعب يتموضع أقيم تاريخه في غياهب (الشفاهية). وقلة من الناس يملكون شجاعة الثوثيق وإبراز الحقائق بلا رتوش لمصلحة الأجيال القادمة.. لماذا نقرأ تاريخنا المكتوب ومعظمه مزيف أو غير مجمع حوله؟

  من فينا يا سادة يملك جرأة الشيخ بابكر بدري في الإعتراف والتوثيق أو فلسفة ابن خلدون في دراسة الواقع الإجتماعي حيثما حل؟ حين لا يترك الأمر لأهل الشأن في كل مكان ، فإننا لا نتوقع النتائج الباهرة للمشروعات القيمة – قد لا تغفر الشعوب الأخرى التي نقلت أنموذج هذه الثورة – للسودانيين أنهم لم يوثقوا أروع ملاحم تلاقيهم ، إن كان لدواعي الهواجس ، الغفلة أو حتى قصر النظر للمنجز الوطني العام.

      اعلم يومئذ مدي نشوة الناس بالإنتصار على نظام حكم البلاد لثلاثة عقود كاملة بقبضة من حديد والتعقيدات المصاحبة لبناء فريق عمل مهني للتفكير في إنجاز هكذا مشروع قد يحتاجه ملف المستقبل – لكن لا عذر لمن يريد التخطيط بعقلية رجال الدولة ، حيث لا تترك الأشياء للصدفة.

    إن الأمس على قول جبران حلم لن يعود ، قد نلجأ ذات يوم إلى آخرين ربما اجانب وثقوا لتلك الفترة من تأريخ نضالنا السلمي ، وندفع مقابل ذلك ملايين الدولارات ، مثلما هو حال جامعاتنا التي بدأت تسترد ما كتب عنا خلال فترة الإستعمار الإنجليزي للبلاد ، مع أن بعض السودانيين الذين عملوا في السلك الإداري بأعلى درجات السلم الوظيفي ، لم يكتبوا تجاربهم وإنطباعاتهم عن تلك الحقبة على طريقة الخواجات.

قد لا تختلف القوى السياسية من يمينها إلى يسارها حول ملحمة السودانيين في ساحة إعتصام القيادة العامة للجيش وسط الخرطوم لكن العبرة بخواتيم المنجزات. فهل من سبيل لإعادة تجميع ما وثق من مواد في حزمة واحدة؟ دعونا نفكر في ذلك.