بقلم : محمود الشين
أثبتت أيام إعتصام ساحة القيادة العامة واحدة من الحقائق المهمة ، هي أن شعبنا السوداني يتقدم بمبادراته وأفكاره سنوات ضوئية على قادته من السياسيين. والشاهد أن طموح الثوار وقتئذ كان يتجه نحو تأسيس دولة ديمقراطية تجسد عظمة تلاحمهم ووحدتهم في رحاب الثورة التي جعلت من السلمية نهجاً وسلوكا لها.
فقد كانوا يهتفون في مواكبهم الهادرة ليل نهار برغم القمع واستخدام البمبان والرصاص الحي :
(مرقنا مرقنا ضد الناس السرقو عرقنا) .. وتمتزج أصواتهم مع موكب آخر يصدح بأحد أهم أسلحة الثورة (سلمية.. سلمية ضد الحرامية) ، وهو سلاح فعال ، اثبت هو الآخر جدواه وابهر المراقبين لمسيرة الثورة السودانية الظافرة.
لقد قدم الثوار أنموذجهم للدولة المنشودة ، والتي تذوب فيها كل الفوارق المدعاة ، تتلاشى المناطقية المعلنة و تحجم العصبية القبلية التي كانت في أسوأ مراحل تمددها.. إنها جمهورية أعالي النفق ، وهي نتاج لعبقرية التلاقي الذي أثمر حالة من التعافي والتصالح العام بين جميع مكونات السودانيين.
كنت اتجول ذات مساء ماطر ما بين خيمة الصحافيين في طريقي إلى أعالي النفق قبالة شارع الجمهورية ، بدأت تصدر بعض الأصوات الهادرة تصاحبها معزوفة مميزة تصدر من عل ، عرفت لاحقاً إنه إستقبال لثوار قدموا من خارج العاصمة.. قابلت هناك بعد غيبة طويلة الزميلة الصحافية المتميزة درة قمبو ، وبادرتي بالكلام (بالله يا محمود ما شفت السودان ده سمح كيف) ؟ وهمهمت قائلة : (الله لا عادهم)!
هذا التعبير التلقائي لاحظته كثيراً عند معظم الناس حين يسترجعون في حسرة فترة الثلاثة عقود الماضية ، هي في الواقع مدة حكم الإنقاذ للبلاد وقد تقلبت كما الحية الرقطاء يمنة ويسري في صراعها مع خصومها السياسيين ومحيطها الإقليمي ومعاداة المجتمع الدولي على نحو تسبب في فرض عقوبات قاسية دفع ثمنها المواطن البسيط قبل قادة النظام ورموزه بالداخل والخارج.
أكن تقديراً خاصاً للعزيزة درة ، فهي صحافية معروفة ، شاطرة ومصادمة في ذات الوقت ، وقد دفعت ثمن مواجهتها لأجهزة نظام الإنقاذ. وهكذا فقد رأي هذا الجيل في مناخ ساحة الإعتصام المثال الرائع لشعب حر ومنتج للفعل الثوري وقادر على تقديم المزيد من التضحيات.
ولاني من فئة اللا منتمي ، فقد حرصت دوماً على تدوين تفاعلات الزملاء مع المشهد الثوري البديع ومدى التغيرات التي تطرا على مواقفهم من حين إلى آخر ، وهل هي نتاج توجيه حزبي أم مجرد تصرفات فردية ناتجة عن تطورات الأوضاع على الأرض. لا أعرف لدرة التي جمع بيننا من قبل العمل في شبكة قناة الجزيرة القطرية أي توجه حزبي ، لكن ما أعلمه أن قلبها على هذا البلد وهي صانعة أمل حين يستبد اليأس بمن حولها من الناس.
ما أحسست يومآ بأية سطوة حزبية مقيدة للزملاء الصحافيين ومعظم أحاديثهم تدور حول الحريات ، وهي هاجسهم الأول ، لأنهم حرموا منها لسنوات بإستثناء مناخ دستور العام 2005م والذي عدله نظام الإنقاذ سريعاً بمجرد إرهاصات إنفصال جنوب السودان ، وذلك للتضييق على حرية الرأي والتعبير وعادت يومئذ حتى الرقابة القبلية المفروضة على الصحف المحلية.
نعم أن شعبنا متقدم على قادته حتى الذين أنتجتهم الثورة نفسها عبر مراحل تخلقها المتداخلة والمعقدة ، فما أن وصلوا إلى دفة الحكم – اخفقوا في تنفيذ حلم دولة الثوار التي تسع أهلها بلا خوف أو تمييز – الفرق شاسع يا سادة ما بين التغيير وإدارة التغيير كما سنعرف لاحقاً عند مراجعة سجل الممارسة العملية مع الشركاء السياسيين.
صحيح هنالك تدخلات إقليمية ودولية ظاهرة للعيان وصراع داخلي بين مكونات الحكومة التي ولدت مشوهة وصارت مثل جبة الدرويش – وكل طرف يريد الإستحواذ على اكبر مساحة ممكنة من القطع المرقعة – وفوق هذا وذاك تبرز مصالح أصحاب الإمتيازات التاريخية وقوى النظام السابق الممسك بالإقتصاد والمعلومات وأسرار الدولة.