بقلم : محمود الشين
تعلمت الأحزاب والتنظيمات السياسية التي عارضت نظام الإنقاذ منذ 30 يونيو 1989م من دروس الماضي القاسية ، حيث تعرضت لحالة من العنف المفرط والتنكيل وتشريد الرموز والقيادات في المنافي البعيدة. ومثلت فترة التسعينيات أسوأ سجل لحقوق الإنسان عرفته البلاد.
هذه الحقبة السوداء وثق لها الثوار عبر برنامج تلفزيوني بثته الفضائية السودانية بعد سقوط النظام أسموه (بيوت الأشباح) ، وهي معتقلات سيئة الذكر – تحدث عنها الضحايا بشكل مروع وصادم – إن ما ذكروه من فظائع يحتم على أجهزة الأمن في العهد الثوري الجديد أن تلتزم أولاً بتنفيذ القانون ، وأن تعمل على إسترداد سمعتها المهنية التي إهتزت كثيراً.
إن المعارضة بمختلف مسمياتها من لدن التجمع الوطني الديمقراطي ، الحركة الشعبية ، حركات دارفور وبقية التنظيمات السرية والعلنية – تختزن مشاهد أليمة نتجت جراء معارضتها لنظام الأخوان الباطش. فالعنف ، التهميش ، التخويف والتخوين – وسائل استخدمت لترويض واحتواء نشطاء المعارضة.
التاريخ يقول إن النظام البائد كما يحلو للثوار – أقصى في أيامه الأولى آلاف الكفاءات الوطنية من الخدمة المدنية بذريعة (الصالح العام) – وهو إجراء افقد الأحزاب خيرة كوادرها الممسكة بالملفات المهنية ذات التأثير المباشر على المواطنين ودفع بكوادره الملتزمة لسد الفراغ..
كان للمهنيين عبر تجمعهم الذي نظم تظاهرات ومواكب الثوار كما سنعرف لاحقاً – ثأر مؤجل مع الإسلاميين ، مهدت له ثورة ديسمبر ، فكان الجزاء من جنس العمل. هذه السوابق تبدو خطيرة جداً على مستقبل العام في بلد سمته التنوع الإجتماعي ، الحزبي والمناطقي إذا ما إستمرت طاحونة الإقصاء المتبادل.
صحيح ان النضال حلقات متصلة ، كان هدفها واحد هو إسقاط النظام. وهذا ما عملت لأجله التنظيمات المعارضة سوا كان عبر نضالها السياسي السلمي أو عن طريق العمل العسكري المسلح. وعشية إندلاع الثورة كانت المعارضة بشقيها المدني والمسلح في أضعف حالاتها ، فعلى صعيد حركات دارفور – تمترست حركة تحرير السودان جناح عبدالواحد نور ميدانياً في تخوم جبل مرة مع نشاط داخلي على مستوى الروابط الطلابية ومخيمات النزوح واللجوء.
أما حركة التحرير جناح مناوي فقد توزعت ما بين جنوب السودان وليبيا حفتر وهو ذات مصير حركة العدل والمساواة التي تمركزت قواتها في الجنوب وعلى الحدود التشادية والأراضي الليبية. وإكتفي القائد عبدالعزيز الحلو بقلعة كاودا في عمق جبال النوبة قبل أن تنقسم الحركة على نفسها بخروج مجموعة (عقار. عرمان).
لا احد ينكر نضال حركات الكفاح المسلح لولا إنحاز بعضها بشكل مفاجئ للمكون العسكري صبيحة إنقلاب الخامس والعشرين من شهر أكتوبر 2021 م وهو ما افقدها تعاطف الشارع العريض الذي ينادي بدولة مدنية ترفل في رحاب الديمقراطية المنشودة على فضاء أرض النيلين.
مع الضعف الواضح لقوي المعارضة وتوقف العمليات العسكرية في معظم جبهات القتال ، إتجهت إستراتيجية نظام الإنقاذ إلى كسب الوقت والعمل على تفكيك المعارضين وشق صفوفهم ، و المناورة بحوار الطرشان ، وبين يديه حفنة من الأحزاب المتوالية تشاركه سلطة صورية لا تكسبه الشرعية المفقودة.
في هذا التوقيت برز وبقوة (الجيل الراكب رأس) وهو جيل للأمانة ، معظمه بلا انتماء ، لكنه دخل المشهد السياسي بإندفاع كبير وإستعداد للتضحية. إذ ليس له ما يخسره. مما جعل قوي المعارضة تلهث من خلفه لركوب موجة الثورة وتطوير أساليبها وأدواتها القديمة للتعامل مع الإنقلابيين.
هذا المعطي الجديد تزامن مع تطور آخر هو ثورة تكنولوجيا المعلومات والإتصالات التي أسهمت في رفع الوعي ، إحداث التغيير وكشف أساليب وممارسات النظام الذي توهط على كرسي السلطة على مدي ثلاثة عقود كاملة ووظف عائدات البلاد لتمكين عضويته وتنظيماته المتتاسلة وأجهزته القمعية للبقاء لأطول فترة ممكنة ومع ذلك فقد سقط. ولكن كيف؟