بقلم : محمود الشين
إن إستدعاء ثوار ديسمبر لإرث ثورة إكتوبر ١٩٦٤م ، كان لفتة بارعة من هؤلاء الشباب الذين برهنوا على إمكانية تحقيق تواصل الأجيال حول أساليب وأدوات النضال السلمي. هذا الفعل اليومي المتواصل – والمسنود بالتضحيات الكبيرة – ما هو إلا تعبير عن عزيمة هذا الجيل الديسمبري الراكز من أجل إقامة حكومة مدنية ديمقراطية تعبر عن إرادة الشعب ، ولو أن خوازيق البلد قد زادت ووضعت المزيد من العقبات على طريق الإنتقال السلس.
الشاعر الجميل هاشم صديق وقد كان يومها شاباً صغيراً – كتب في العام ١٩٦٨م ملحمة إكتوبر (قصة ثورة) والتي وثقت لذكرى اكتوبر الثورة الباذخة :
يا اكتوبر
انحنا العشنا ليالي زمان
في قيود ومظالم وويل وهوان
كان في صدورنا غضب بركان
وكنا بنقسم بالأوطان
نسطر إسمك يا سودان.
هذا الرهان (السلمي) على مر التاريخ ليس خاسراً لطالما هناك دم وعرق وإيمان لا يتزعزع بقضية مركزية هي الوصول إلى سودان جديد – ديمقراطى آمن ، منتج ولا تمييز فيه للناس على أساس اللون ، العرق ، الدين أو حتي الجهة..
وتقول الملحمة :
كسرنا حواجز
أزلنا موانع
صفنا واحد
عامل وطالب
زارع وصانع
وهزمنا الليل
هزمنا الليل
والنور في الآخر طل الدار
والعزة إتهادت للأحرار.
نعم إن التحديات توحد الشعوب.. سيكون جميلاً هذا الوطن إذا ما إستلهم تنوعه الخلاق في بناء عقده الإجتماعي الجديد الذي يؤسس حتماً للتراضي المنشود والتبادل السلمي للسلطة.
وتمضي الملحمة :
يا ساحة القصر
يا حقل النار
ويا واحة بتحصن روح(نضار)
روينا ورودك دم ثوار
وشتلنا فضاك هتاف أحرار
خطينا ترابك أحرف نايرة
بتحكي سطور أيامنا الثايرة
وشلنا الشهداء مشينا ونهتف
وجرح النار في قلوبنا ينزف
سجينا الشهداء وجينا نقاوم
ما بنتراجع ما بنساوم
بينا وبينك تار يا ظالم.
وهل يملك الثوار سلاحاً أقوى من سلميتهم؟ إنها سلمية راقية ، هزمت البطش وأعمال البلطجة وسخرت بهدوء من دعاة العنف والإحتراب لأنهم لا يملكون أدوات أخرى غير التنكيل.. هذا التحول المفاهيمي إن كانت التسمية صحيحة – أفضى إلى معايير ومواصفات جديدة لمن يريد الصعود إلى سلك الإدارة والحكم في بلادنا – إذ لا بد من الإنتصار لإرادة الشعب ، فهو صاحب القرار دون سواه.
لقد ألهمت ثورة السودانيين الديسمبرية العديد من الشعوب حول العالم ولا سيما الباحثة عن التغيير والإصلاح وإزالة الطغاة.. إنها السلمية التي تغذت على منتج فني وثقافي أصيل وعلى إرث سياسي عريق ، يجعل من الماضي مرجعية أساسية لبناء المستقبل والتعاطي مع الحاضر المأزوم بحكمة وعقلانية.
إذ يضيف هاشم صديق:
وطني انحنا سيوف أمجادك
ونحنا مواكب تفدي ترابك
لسه الشارع يشهد لينا
في يوم الغضبة حصاد ماضينا
مشينا نعطر حقل الثورة
بدم نفديبو بلادنا الحرة.
إن جيل ثورة ديسمبر الظافرة يمضي على ذات الطريق المعبد بالتضحيات مع إختلاف الزمان وتحدياته. لكن ما يطمئن أكثر هو مدى إدراك هذا الجيل الواعي لمخطط دفعه بكل السبل للعنف والتخريب لإفساح المجال لآلة القمع العطشي للدماء ، وهو مخطط ماكر ، كان ومازال خياراً مطروحاً عند الذين ينشدون وبلهفة تنفيذ سيناريو الفوضى الخلاقة.