بقلم : محمود الشين
كان لثورة ديسمبر المجيدة صدىً واسعاً
في المناطق المتأثرة بالحروب والنزاعات. وهي مناطق دفعت مبكراً بممثلين لها للتعبير عن قضاياها وتطلعاتها عبر منصات ساحة إعتصام القيادة العامة للجيش وسط الخرطوم.. المكان الذي غُدر فيه بالثوار السلميين. فمن دارفور ، النيل الأزرق ، جنوب كردفان ، الشرق ومروراً بقطار عطبرة – كلها تفاعلات إيجابية مع الثورة التي أحدثت معجزة التغيير في أبريل.
الملاحظ أن مشاركة أهل الهامش العريض أكملت اللوحة الوطنية وأعطت الإعتصام بعداً قومياً ، وهو زخم كانت تحتاجه الثورة يومئذ لحسم معركة كسر العظم مع نظام البشير. وكما سنرى عن الحديث عن أيام ساحة القيادة ، فإن المشاركة النوعية للأطراف المترنحة – أرسلت رسالة للنظام في أيامه الأخيرة مفادها : (تسقط بس) وهو أحد الشعارات القوية للثورة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد ، فزميلنا الصحافي عبدالرحمن العاجب قاد موكباً كبيراً إلى ساحة الإعتصام بإسم تجمع (المناطق المتأثرة بالحروب والنزاعات). وقال بوضوح في كلمته للجموع الهادرة إن الثورات السابقة – أكتوبر ١٩٦٤م ورجب أبريل ١٩٨٥م – لم تخاطب جذور القضايا في تلك المناطق مما جعلها مرحلة على الدوم ، وأنه لا بد لثورة ديسمبر من حسمها تحت شعار (حرية ، سلام وعدالة) قبل بلوغ الإنتخابات العامة في البلاد.
عبدالرحمن العاجب هو بمثابة أخي الأصغر ، دخلت معه ذات يوم في مفاوضات شاقة لإقناعه بالإنضمام إلى فريق عملنا بصحيفة الأخبار في العام ٢٠١٧م ليشغل ذات موقعه بصحيفة اليوم التالي (رئاسة القسم السياسي) ، وهي صحيفة محترمة ، صاحبها إمتيازها وقتذاك ورئيس تحريرها هو الدكتور مزمل أبوالقاسم المريخابي القح.
ولعبد الرحمن العاجب وهو من منطقة عديلة بشرق دارفور – علاقة صداقة قوية مع مزمل مما إستدعي إقناع الأخير بالعرض المالي الجيد الذي قدمته صحيفة الأحبار بعض الوقت ، وهو الأفضل بين رواتب الزملاء بالصحف السيارة. لقد ساعدنا (البروف) كما يحلو لأصحابه بعد إنضمامه للفريق في إنتاج وتقديم مادة سياسية غاية في الجودة ، لأنه صاحب رؤية وقلم رصين.
لقد عبر ممثلو مناطق النزاعات جميعهم في ساحة إعتصام القيادة عن مآسيهم التي نتجت جراء الحروب العبثية التي إفتعلها نظام الإنقاذ ليبقى على سدة الحكم لأطول فترة ممكنة ، فكان مقتل الآلاف من المواطنين ، موجات النزوح ، اللجوء ، تدمير الموارد والثروات والتهجير القسري للسكان الأصليين .. إنه بحق الإقتلاع من الجذور في أسوأ تمظهراته
إن الحرب أفرزت في تلك المناطق واقعاً كارثياً هو تحول أبناء المهجرين بين عشية وضحاها من منتجين إلى متلقيين للغذاء
وإنفصال وجدانهم المكاني ، فلا هم أبناء
قراهم الأصلية التي نزحوا منها ولاصاروا في الواقع جزءً من حواضنهم الجديدة – إنها غربة المكان التي أنتجت فيهم الإحساس بالعزلة ، ثقافة العنف وروح الإنتقام – بالنظر إلى ما قوبل به بعضهم من إزدراء في أطراف المدن والخرطوم العاصمة.
أحمل في وجداني هم هذه الفئة من أبناء السودان من مناطق الحروب والنزاعات لسبب بسيط هو القيام بواجبنا المهني لإثارة هذه القضية في كل المحافل وهي (إمكانية إسترداد ولاءهم للوطن الكبير).. وطننا الذي ضن عليهم حتى بنعمة الأمن ، ناهيك عن توفير الخدمات الأساسية في دولة الرعاية ..أشعر أن عقلية المفاوضين في إتفاقيات السلام المدعاة ، لا تخاطب وبعمق قضايا هذه الشريحة ، لأن لعنة الوظائف والتوظيف ظلت تلاحق الذين يبحثون عن مكتسبات النضال الزائف. وما إنقلاب الخامس والعشرين من إكتوبر ٢٠٢١م ، إلا دليل واقعي في حالة حركات دارفور والنيل الأزرق.
لقد أدارت الحركات المطلبية ظهرها لأهالي المناطق المضطربة ونسيت أو تناست ما أحدثته من دمار وقتل جراء معاركها مع القوات الحكومية ، وقد جعلت لحظتئذ من المواطنين دروعاً بشرية لتفادي قصف سلاح الجو لقوات المتمردين التي دأبت على الإحتماء بالقرى الآمنة. وذلك فيما يشبه بالإتفاق الجنائي بين الأطراف المتحاربة. هذا الإنحياز الفاضح ، أفقد الحركات ما كانت تدعيه من شرعية وتمثيل لمناطق مازال مصير أهلها في مخيمات النزوح واللجوء مجهولاً .
تشير تفاعلات شباب المناطق المأزومة عبر فضاء جمهورية أعالي النفق إلى أن المشهد ربما يكون عندهم أكثر تعقيداً بعد عقد من الزمان – كيف سيكون شكل الزي ، نوع الغذاء ، السكن ، واقع المعاقين ، حال الجرحى ، الآثار البيئية ، مخلفات الأسلحة والذخائر ، بل وحتى تصور الشباب هناك إلى وطن أضحى عندهم مجرد مفردة بحاجة إلى ضبط ولم يقدم لهم حتى شهادات الميلاد؟
نعم لقد إنهارت مؤسسة الحبوبة نتيجة لعمليات التهجير القسري ، إذ مات المئات من كبار السن وهم بعد رواة التاريخ الثقاة وليس بالإمكان ربط الماضي بالحاضر لتحقيق حلم العودة ، وخلت الساحة كلياً للسوشيال ميديا ولم يعد هناك رابط للشباب أو إرتباط بالأرض ، الإرث والتاريخ في زمن الإنقسام الرقمي والمجتمعي.