بقلم : محمود الشين.

     مثل الحزب المايوي (الإتحاد الإشتراكي) حاضنة مثلي للإسلاميين الذين إنخرطوا في العمل الجماهيري وفي بالهم بناء تنظيمهم السياسي الجبهة القومية الإسلامية وذلك بإستغلال مناخ المصالحة الوطنية وتسخير قدرات ووسائل مايو لإستقطاب المزيد من الكوادر في الأقاليم النائية. وكان من الواضح أنهم يخططون لشئ ما ، ولو أن أجهزة مايو كانت ترصد ناشطهم الذي يأتي تحت مظلة النشاط الدعوى.

    إن الرئيس جعفر نميري لا يأمن مكر خصومه السياسيين ، وهو الذي إنقلب ذات يوم على اليسار وأعدم قياداته العسكرية والمدنية ، مع أنه حمله إلى السلطة.. أب عاج كما يحلو لأتباعه ، رجل متقلب الفكر والمزاج ، ولا يمكن التكهن بمواقفه أو ردود أفعاله ، لكن ما هو مؤكد سعيه الدؤوب إلى ترسيخ سلطة الرجل الواحد.

    يحكي الرائد زين العابدين محمد أحمد في مذكراته (مايو – سنوات الخصب والجفاف) واقعة صاحبت حل مجلس قيادة الثورة : ( بعد إعلان فوز جعفر نميري في الإستفتاء على رئاسة الجمهورية ، جرت مراسم أداء القسم لأول رئيس جمهورية في تأريخ السودان بمباني مجلس الشعب القديم بالخرطوم.

  وبعد أداء القسم – والحديث مازال للرائد زين العابدين _ ذهبنا جميعاً لمكتب رئيس المجلس السيد الرشيد الطاهر بكر ‘رحمه الله’ وكنا بلبس ‘الأسبلايت’ الحمراء مع العلامات العسكرية التي كانت تميز أعضاء مجلس قيادة الثورة عمن سواهم من الضباط العاملين بالقوات المسلحة ، قبل أن يدور علينا الساعي بأكواب المرطبات ، نادي الرئيس جعفر نميري مدير مكتبه الرائد عمر محمد علي محكر وخاطبه قائلاً : ‘ يا أخوان.. أخلعوا الأسبلايت الحمراء وسلموها للرائد عمر محكر ، فالمسئولية أصبحت مسئوليتي ، وهذه جمهورية وأنا رئيسها’).

ويقول الرائد زين العابدين عن نميري : (كان يتحدث دون خجل ودون تردد ، ومن شدة التأثر سالت الدموع من مآقينا ، إذ أيقنا إننا أمام شخصية جديدة ، ليس جعفر نميري الذي عرفناه ووثقنا فيه وقدمناه رئيساً. وخاطب نميري مدير مكتبه الرائد عمر محكر موجهاً إياه بأن يودع الأسبلايت الحمراء لأعضاء مجلس قيادة الثورة ‘السابق’ في المتحف القومي أو دار الوثائق المركزية ، هكذا أصبحنا ‘توابيتاً’ في المتحف القومي ونحن في العقد الثالث من العمر ، كان ذلك في الثاني عشر من أكتوبر ١٩٧١م).

  الرائد زين العابدين تقول سيرته الذاتية إنه أحد مخططي ومنفذي إنقلاب ثورة ٢٥مايو ١٩٦٩م ، شغل فيها عدة وزارات منها الشباب والرياضة ، الشئون الإجتماعية ، النقل والمواصلات ، الثروة الحيوانية وغيرها من المواقع التنفيذية والتنظيمية.

   إن الدكتور حسن الترابي الذي أصبح مستشاراً للرئيس نميري ثم النائب العام ، كان يتابع كوادر الجبهة الإسلامية وهي تتكاثر وتنمو علي جسد الإتحاد الإشتراكي ، فغايته تبرر الوسيلة. وهي بلا شك تجربة مجانية لأن أخطاء الممارسة يتحملها الحزب الحاكم وليست الأجسام الملحقة بعد المصالحة الوطنية ، بغض النظر عن المسؤولية الأخلاقية لشركاء الفعل السياسي.

    حتى إذا ما خرج الصادق المهدي من السلطة مغاضباً ، إنداحت كوادر الجبهة الإسلامية في مفاصل التنظيم وبدأت تخطط لأسلمة الممارسة في أروقة ‘الإشتراكيين’ لأن شخصيات مثل النيل أبو قرون ، عوض الجيد محمد أحمد وحتى القيادية المايوية المحامية بدرية سليمان – كانوا من صناع قوانين سبتمبر ١٩٨٣م المثيرة للجدل ، وهي نتاج لتوجه الرئيس نميري إلى أقصى اليمين وإعلانه للشريعة الإسلامية في البلاد.

   يفهم من إصرار الإسلاميين في رحاب مايو على تولي حقائب  كالتربية والتعليم والتي آلت لمولانا دفع الله الحاج يوسف ، مدى حرصهم للتواصل مع الطلاب وقطاعات الشباب كطلائع للتغيير وتحقيق الكسب السياسي على المستوى التقاعدي.

    هذه التجربة العملية في مؤسسات مايو – هي في الواقع المسؤولة بشكل مباشر عن تنفيذ الإسلاميين لإنقلاب ٣٠ يونيو 1989م.. هذا بالإضافة إلى حادثة سقوط الدكتور الترابي نفسه في دائرة (الصحافة – جبرة) في إنتخابات الديمقراطية الثالثة.. لكن نظام الإنقاذ حتى ما بعد مفاصلة العام ١٩٩٩م فإنه لم يتعظ من تجربة مايو الثورة، فسقطت حكومة عمر البشير في أبريل٢٠١٩م.