بقلم : محمود الشين

    إن ثورة ديسمبر مشروع للإصلاح والتغيير في السودان..تغيير يتعدى جزئية إسقاط نظام الإنقاذ عن سدة الحكم إلى أفق الوصول إلى توافق سياسي حول مشروع وطني متكامل ومتوازن أو هكذا يبدو فهمي المتواضع لمجريات الأحداث في بلادنا. هذا المشروع يستند على قاعدة تأييد واسعة من شباب كان هو الوقود الحيوي لإستمرار دفع الثورة الظافرة

   نقول ذلك لأن تحديات ما بعد سقوط النظام البائد كانت أكبر وأكثر تعقيداً من بدايات تخلق الثورة نفسها حتى إكتمل بدرها في الحادي عشر من أبريل٢٠١٩م. سقط نظام الإنقاذ ولم تتضح بعد الصورة الذهنية للمشروع الوطني المنشود.

  إن أشواق التغيير حجبت وقتئذ الرؤية الكلية في فضاء التحول المأمول ليس لحداثة تجربة الشباب الثائر ، لكن لسبب آخر هو حرص القوى السياسية القديمة التي لحقت بقطار الثورة على أن تبقى البلاد مربوطة على أوتاد الماضي حيث الممارسة التقليدية لوطن عاني كثيراً من الفساد المالي والإداري.

  الواقع يقول إن ما حدث تجاه الثورة والثوار هو عمل يمكن تسميته بالإتفاق السياسي أو إن شئت فقل إتفاق جنائي لتشويه مشروع الخلاص الذي يقوده الشباب وإختزاله في سقوط نظام وعودة آخر لا يختلف كلياً عن سابقه ، إلا بتغيير وجوه بعض اللاعبين الأساسيين وتدور الساقية مجدداً في ليل السياسة الطويل.

  لنكن أكثر وضوحاً أن معظم الأحزاب غير جادة وليست سعيدة بمنجزات الجيل الراكب رأس وإن تماهت معها على خجل ، لأن مؤشر الأحداث هنا يتجه نحو تغيير عقلية التنظيمات والأحزاب التي لم تمارس هي نفسها الديمقراطية المطلوبة في أروقتها الداخلية بالنظر للأبوية المتبعة في منهج ومعايير الإختيار وكيفية تجيير القرار السياسي لصالح القيادات التقليدية.

   تستند الأحزاب على حائط الخبرة كورقة رابحة لتحجيم طموح الشباب لتبقى هي المرجعية وإن طال الزمن. لكن لا قيمة للخبرة في غياب الضمير
والأنانية التي تمارسها القيادات القديمة وهي لا تلقى بالاً لفضيلة تواصل الأجيال بالحسنى. 

   لا بد من فك هذا الإشتباك لزوم فتح الباب أمام تطور القوى السياسية من يمينها إلى يسارها وإلا فإن تفكير الشباب في تنظيم يستوعب تطلعاتهم لوطن طالما حلموا به يزهو تحت سقف الحرية ، السلام والعدالة هو الحل. هذا الإحتمال وارد جداً لأن الشباب الثائر ليست له الثقة في أي تنظيم سياسي ليتبنى وبشكل كامل كل أطروحات ثورة ديسمبر.

  إنه كفاح البقاء لقدامي الساسة في بلادنا مقابل مساعي الجيل الجديد للإنعتاق والتحرر من قيود الأحزاب ولو أنها أرقى كيانات إهتدت لها البشرية لتنظيم وإدارة شؤونها العامة. هذا الرقي تهزمه غايات ووسائل بعض التنظيمات للتشبث بالسلطة دون تفويض شعبي لأطول فترة ممكنة.

   يدعو الجيل الثائر إلي مشروع وطني يفضي إلى عقد إجتماعي جديد ، بمرجعية أهداف وشعارات ثورة ديسمبر ، في حين أن الأحزاب تتحدث عن مشروع سياسي – كل حزب يريد أن يحكم هذا البلد ببرنامجه المعلن، ولا يأبه لدعوات الإصلاحيين الشباب ، لأنها تحنطهم وتقصيهم عن دائرة الفعل السياسي.

   ما بين الطموح المشروع للشباب والتحجيم المبرر من قبل القيادات القديمة – تبرز مفارقات المعادلة الصفرية.. معادلة المستفيد الأكبر من ناتجها هم (العسكر) ، فكلما طال أمد خلافات المدنيين أو (الملكية) تتمدد طلائع العسكريين لسد فراغ السلطة بصك القوانين التي تتيح لهم التدخل في هذه الحالة بذريعة حماية الأمن القومي ومنع الإنزلاق في مزالق الفوضى.