فضيلي جمّاع:

   مما أحمده لبعض الأصدقاء والصديقات ، أنهم يخرجون على النمط. فيرفدوني مع تحيات الصباح لحناً ينقلني من المكان البعيد إلى حضن الوطن – رد الله غربتنا وغربة الوطن. قد يعود بي اللحن إلى ذكريات توزّعت بين أمكنةٍ ومدن. فتلوح لي من نافذةِ الذاكرة وجوهٌ عشتُ وإيّاهم أحلى سويعاتِ العمر. نعم هي النوستالجيا ) الحنين إلى الماضي والأهل والمكان) ! ليس العيب في أن نجتر الذكريات، بل العيبُ أن نظلّ أسرَى الماضي. أما الحنينُ إلى لحنٍ طروب ، أو اجترار سيرةٍ عطرة لصحبة باعد بيننا وبينهم سفرُ المكانِ والزمان، فذاك بعضُ ما يعيدُ للعمر نسمة ترفعه من حفرة حاضرٍ مثل الحاضرِ  الكئيب الذي نعيشه ويعيشه وطننا الحبيب! 
   من مناحي الجمال أن عطّرت صباحي اليوم الأخت الصديقة إيمان حمزة بلدو بباقة أغنيات سودانية أحسبها سمو اللحن وقمة الكلمة. وإيمان بلدو لمن لا يعرفها باحثة بارعة في المجال الأكاديمي والسياسي. تجيد الإنجليزية – ماعون أبحاثها – بدرجة رفيعة. وهي فوق ذلك تحفظ أشعار الحقيبة ونسبةَ هذه الأغنياتِ لشعرائها ومطربيها. اليوم كما قلت بعثت لي مع الصباح الباكر باقة من تسجيلاتٍ ، لمطربين ملأوا زمانهم حتى فاض. ولأنها تعرف أنّ عثمان حسين يمثل نقطة ضعفي في التطريب، فقد زودت القائمة بأربعة من أغانيه. كذلك كان من بين باقة الصباح  أغنية “الأوصفوك” للرائع خضر بشير وهي من كلمات محمد بشير عتيق. وأغنية “يا ليل أبقالي شاهد” وهي من كلمات شاعر الحقيبة الكبير صالح عبد السيد (ابو صلاح). ولك أن تتخيل كيف يتحور المزاج في غربة الدار التي طالت. وكيف ينثال الحنين إلى الأهل والصحاب والوطن في صباح أوروبي غائم، واللحن الطروب يحملك من ذكرى إلى أخرى. ومن مناسبةٍ حلوة المذاق عشتها مع من حرمك التّسفارُ والغربةُ لقاءهم لسنين وسنين إلى أخرى أجمل وأحلى.  
    كانت خاتمة جلسة الإستماع الصباحية لأغنية “أجمل أيامي”، كلمات الشاعر حسين بازرعة وألحان وأداء اللحن الخالد عثمان حسين. أستمعت إليها أكثر من مرة. صباح غائم ، وهدوء على غير العادة في واحدة من كبريات مدن العالم – لندن. يبدو أن الهدوء صباح اليوم بسبب عطلة الأحد حيث تقل حركة الناس والمواصلات وضجيج المصانع فيها! حاولت ذاكرتي أن تستعيد بعض أجمل الأيام ، لكن حاضرنا التعيس قطع انسياب الذكريات. يقضي الواجب أن أتصل هاتفياً برفيقة الدرب والمنفى “أم شيراز “؛ التي طارت إلى القاهرة لتكون إلى جانب شقيقتها التي ستجري عملية جراحية – شفاها الله. وكم أحزنني حين وصفت لي كيف أن مراكز الفحص الطبي في القاهرة تعج بالمرضى السودانيين بصورة محزنة حقاً. أضف إليهم الأسر والشباب الذين تكتظ بهم شوارع ودور السكن في المدن المصرية. تفكرت في الحال لبرهة. هل كتب على شعبنا الطيب الصبور أن يعيش معاناة سببها فئة من أراذل بنيه، سرقوا لقمة عيشه دون خجل ؟ 
    وإما نظرت للوجه المضيء للقمر ، وتفكرت في الشارع الذي رأيته بأم عيني في آخر زيارة لي للوطن ، أدركت بأننا رغم الهوان الذي يعيشه شعبنا اليوم، ورغم توزع الملايين من السودانيين في أرجاء هذا الكوكب ، إلا إنّ من سرقوا البسمة من وجوه أطفالنا ، ومن حاولوا باستمرار سرقة واحدة من كبريات الثورات في مطلع هذا القرن – ثورة 19 ديسمبر ، ما حصدوا غير الخيبة والفشل. هذا الشعب صعب المراس. وقد أثبت تاريخه المكتظ بالأحداث الجسام أنه في  كل جولة من صولاته ضد الطغاة يحسم الجولة منتصراً مرفوع الرأس. هل أذكر من الرجال والنساء من علموا المستبد أنّ نهايته الحفرة التي يحفرها لشعبنا؟ عندي قائمة ببعض الأساطير التي ما تزال حية في تاريخنا – ونحن نذكرهم لأنّ شباب الشارع الثائر لفوق الثلاث سنوات في بلادنا هم حفدة أولئك الأبطال. إنّ هؤلاء الأشبال من أصلاب أولئك الأسود. قائمة قصيرة أرفعها في وجوه صغار  الآلهة الذين أوردوا شعبنا وبلادنا هذا الدرك. ذهب الخديوي وابنه اسماعيل وعميلهم الدفتردار وبقيت سيرة المك نمر عبر الأجيال. عاد المستعمر لبلاده وبقيت أسطورة الشاب محمد احمد المهدي الذي قاد ثورة هزمت الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. رحل المستعمر وبقيت قصص السلطان عجبنا وود حبوبة والسلطان تاج الدين رمزاً للشجاعة والإقدام وفداء الأوطان. صمتت الزغاريد إلى حين ، لكن كلما ارتفعت في حشود شارعنا الثائر زغاريد الكنداكات،  تذكرنا مهيرة بت عبود ورابحة الكنانية والبطلة مندي بنت السلطان عجبنا. 
  أقول لكل محبط: إنّ ما نعيشه من إذلال لشعبنا، ومن مسغبة وضعف حال، إنما هو سحابةُ صيفٍ سرعان ما تنقشع. لستُ من بائعي الوهم. بل أدّعي بأني أقرأ التاريخ جيداً. وأراهن على المستقبل. أقول إنّ مع قتلة أطفالنا الحاضر البائس ، لكن معنا المستقبل. لن تخيب أمة أنجبت في ماضيها القريب إسماعيل الأزهري والمحجوب وحسين الهندي وبوث ديو ووليام دينق نيال وجون قرنق دي مابيور، وتمخض وجدانها المبدع عن التجاني يوسف بشير وملكة الدار محمد ومحمد المهدي المجذوب وعبد الله الطيب والطيب صالح وآخرين كثر . إن أمة تنجب سرور وكرومة والكاشف ومحمد وردي ومصطفى سيد احمد .. إن أمة تنجب هؤلاء ليست بعاقر. إنها مسألة وقت. مسألة وقت فقط،  وستطلع شمس إستقلالِ سودانِنا الجديد. 
وأخيراً .. شكراً للماضي ، ومرحباً بالمستقبل.

فضيلي جمّاع
لندن
04-9-2022