الخرطوم: حسين سعد

تتجلى جماليات الحياة عند بساطتها، واستثمار لحظاتها قطرة قطرة في ما يريح القلب.. وفي السودان كانت كذلك، بعيدا عن صخب السياسة ومعاركها التي لا تنتهي.. ولكنها ـ نعني السياسة ـ أبت إلا تقلق مضاجع تلك البساطة، وتؤرق سكينتها، فدخلت في لقمة العيش، وجعلت الجميع سياسيين في غير معترك سياسي، في عالم محفوف بالتيه والضياع. وفي هذه المساحة كانت جولتنا بعيدا عن ذلك ونحن نتلمس بساطة الحياة عند أقوام شقوا طريقهم بعرق الجبين، وأسسوا مشاريعهم الخاصة، بين بأس الحديد ولينه، في منطقة الصافولا الصناعية، حيث يعمل الناس هنالك في هدوء رغم صخب الآليات والورش والزيوت التي تزيد من وطأة درجات الحرارة المرتفعة، غير أن حب العمل جعلهم يألفون حالتهم تلك، وكأنها تبادلهم المحبة بأمثالها أو أكثر منها، والكل هنالك عندما تسألهم عن الحال على سوأته يحمدون الله.

استنطقنا في جولتنا شخصين أتعبتهم الحياة وأتعبوها حتى فاستلمت لهم على مضض، ولكنهم يواصلون ترويضها.

أول الشخصين كان الهادي حسن المعروف في تلك المنطقة بـ(ود القضارف) وهو صاحب كرين بالمنطقة الصناعية بالصافولا، بعد أن قدم إلى الخرطوم منذ سبعينات القرن الماضي، ثم اغترب خارج البلاد لسنوات عدة، عاد بعدها ليؤسس أسطولا لشاحنات النقل، لكنه المشروع الذي واجه تحديات البلاد بظروفها الاقتصادية والسياسية، مما اضطره إلى التحول إلى مشروع الكرين الذي يستخدم لرفع الحاويات وغيرها، يقول ود القضارف:

لقد أتعبتنا الدنيا بصراعات طويلة، أو ربما أتعبناها نحن، لا أدري، لكن سبب تحولي من مشروع النقل الذي كان ذا دخل مجزٍ، وقد طوفنا من خلاله جميع أنحاء السودان شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، هو أن الآونة الأخيرة جعلتنا نواجه مشكلات عديدة الجميع على إلمام بها، وقد دخلت الهرجلة السياسية في لقمة عيشنا بسبب ارتفاع المحروقات، وبالتالي ارتفاع الأسعار في جميع أساسيات الحياة، حتى أصبحنا عاجزين في مسألة على من نلقي باللوم، وأنا مسؤول من تربية أولادي وتعليمهم وصحتهم، فكان ذلك سببا في التوجه نحو الكرين ليكون سندا لي في الحياة والحمد لله الحالي يمضي.

ويضيف ود القضارف أن المشكلة الجديدة التي يواجهونها تتمثل في ركود السوق وتدني عمليات الصادر والوارد، وهو ما جعل العمل يأتي من أسبوع لأسبوعين، مصحوبا بشكوى من الزبون وشكوى منا نحن، فالكل يشكو، خاصة وأن أقل الأشياء المتمثلة في تغيير الزيت وحده تضاعفت لأكثر من خمسين ضعفا، والسبب هو تلك الهرجلة السياسية التي أقحمتنا في مسائل السياسة إقحاما، ونحن نعيش في بلد لا توجد في الدنيا بلادا حباها الله من الخير والطبيعة ما حبا به بلادنا من أنهار وبحار وثروات لا حصر لها.

أما ثاني ضيفينا، فكان جرجرة، وهو إبراهيم إسماعيل علي، صاحب ورشة لتنظيف وصيانة الشاحنات الكبيرة، فهو القادم من ولاية وسط دارفور وله من الأبناء أربعا جميعهم بالمدارس، وله في هذا المجال عشر سنوات.

أما عن سبب تسميته بـ (جرجرة) فعلمنا أن اللقب ارتبط به خلال عمله بالشرطة السودانية، وحتى نضع القارئ في الصورة في مسألة ارتباط المفردة بالشرطة، هي تمثل السمة المعروفة لدى القوات الشرطية، وصارت جملة متداولة بين الناس (بوليس يحب الجرجرة) وهي المراوغة والمماطلة في الإجراءات.

يقول جرجرة إن العمل في منطقة الصافولا كويس جدا، والدخل يمكنه من إعانة أبنائه، ويتمنى لجميع الشعب السوداني إن ينعم بالخير الكثير.

أبو عركي/ علي المك/ أبو داود، مروا من هنا..!

وكما ذكرنا في المقدمة أن الحياة وسط أولئك القوم تنعم بالبساطة والجمال، كانت ملاذا لنفرٍ صنعوا جزءا كبيرا من تاريخنا الفني والأدبي، ومن بين هؤلاء كان الأديب علي المك والفنان عبد العزيز محمد داؤود، حيث كان الرفيقان يقضيان معظم أوقاتهما بالمنطقة الصناعية بالخرطوم، وسط الميكانيكية وبائعات الشاي، يستمعان إلى أحاديثهم ويراقبان محبتهم للحياة، كما روي من سيرة الرجلين العظيمين.

وكانت المناطق الصناعية في السودان بوتقة ينصهر فيها الناس بشتى مشاربهم، فتجد كل أصناف البشر، وصفات القلوب، وتعدد العقول، وتنوع الأعراق والمناطق التي جاء منها الناس من أنحاء متعددة.. فتسمع المهذب منهم حتى يخجلك، وتسمع من فاحش القول ما يجعلك تنفجر ضحكا، لأنّ الناس هنالك على حقيقتهم، لا يغلفونها، ولا ينافقون، والكلمة العليا عادة ما تكون للعمل الشاق وسط أزيز المحركات، وهدير الماكينات، وضرب المطارق، وأصوات اللحام ورائحته، ولون الزيوت الذي أخذته الأرض بعد إن صبغها به، فهي حياة ضاجة بالفن، لمن أراد أن يبدع فنا حقيقيا.

ومن هنا مر أيضا الفنان أبو عركي البخيت، الذي بدأ حياته من المنطقة الصناعية، حيث كان مشغولا بإصلاح الأعطال التي والعطب الذي يطرأ على خزانات المياه، وبطاريات العربات، وهو التخصص الذي تلقاه من لدن (الأسطوات) الذين يساهمون مساهمة لا تخفى في تسيير عجلة الحياة اليومية، دون أن ينالوا ما يستحقون من التمجيد والإطراء الذي يجده الساسة “نيام العسل”.

ولكن الفنان العظيم أبو عركي كما أورد الصحفي الألمعي معاوية حسن ياسين في سفره العظيم (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان) ص ٥٥٨ ، أن صاحبنا كان يرتدي ملابس العمل في الصباح الباكر متجها نحو المنطقة الصناعية، بينما أقرانه يرتدون ملابس المدرسة، فحز ذلك في نفسه، فقصد مدارس محو الأمية بالمساء حتى صار ما صار، بعد أن صقلته تلك الأصوات، وتلك الحياة البسيطة بجمالياتها ليتشكل بتلك الروح المرهفة المحبة للخير والجمال والوطن.

فالحديث عن القوم طويل وشيق، وهو ما نخطط لتسليط الضوء عليه في مقبل الأيام بالصورة التي يستحقها.. حتى ينالوا المكانة التي يستحقونها، وتعلم البلاد أن لا سبيل لها من غير نهضة صناعية تبدأ بالمدارس الصناعية، ومعاهد التدريب المهني التي جعلت بلادنا ذات يوم في منافسة مع دول عظيمة. وما أجمل ما أبدعه حميد وهو يتحدث عن عمال الموانئ
الغبش التعاني

حيث الحقيقة البهية:
إيد العامل هي العاد تنتج
مو المكنات الأمريكية
وزيت العامل ياهو البطلع
مو المكنات الأمريكية
درن الأيدي العمالية
أنضف من لسنات الفجرة
ومن الدقن الشيطانية
ومن كرفتة البنك الدولي
وكل وجوه الراسمالية

نلتقي وتوصل..!