هوّيات وتحوّلات (1)
أحمد يعقوب
لعلّ التكلفة العالية؛ لمسألة النضال المسلح ضد الأنظمة الشمولية بالاضافة الى التّحولات الجّيوسياسيّة وتقلُّبات المناخ السّياسي الاقليمي والدولي،تطرح اسئلة مهمة للكيانات المسلحة حول ضروة التحوّل لاحزاب سياسية مدنية ؛ خاصة مع ضمور عملية الدعم من قبل الفاعليين الاقليميين والدوليين وهي عملية ترتبط بتحولات شتى في المسرح السياسي الاقليمي والدولي للبلدان التي تقدم الدعم(….) وهنالك عامل رئيسي مهم وهو التحوّلات السياسية الداخلية في الجغرافيا المعينة؛ على سبيل المثال التحولات التي حدثت في مسرحنا السياسي بقيام ثورة ديسمبر وسقوط نظام الحركة الاسلامية.
ومع ندرة الدراسات التي تناولت هذه المسألة ؛ فقد نظمت وحدة الدراسات الاستراتيجية بالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمرها الأول بعنوان: “من السلاح إلى السلام: التحولات من العمل السياسي المسلح إلى العمل السياسي السلمي “وقد قدمت عدة أوراق في هذا المؤتمر تناولت باستفاضة حول التحولات من السلاح الى العمل السياسي؛ وللمهتمين يمكنهم مراجعة موقع المركز على الشبكة لمزيد من الاطلاع.
هذه المقالة وعبر سلسلة ؛ تطرح اسئلة محددة على شاكلة؛لماذا تقرر الكيانات المسلحة انشاء احزاب سياسية او تريد التحول لاحزاب سياسية مدنية؟ ماهي الظروف التي تتطور فيها الاجنحة السياسية للحركات لتصبح الوسيلة الرئيسية للتعبير عن الكيان المسلح والذي يؤدي في النهاية الى التخلي عن السلاح؟ كيف تحدث مثل هذه التحولات؟ ولماذا تحدث؟ وما شروط بدء عمليات التحول نحو اللاعنف؟ وما شروط استمرارية النشاط السياسي السلمي؟ وما المسارات المختلفة لعمليات التحول والخروج من إطارات العمل المسلح؟ وهل يحدث التحول بعد انتصار عسكري، أم على العكس بعد هزيمة عسكرية؟.
ليس التحول من العمل السياسي المسلح إلى النشاط السياسي غير المسلح ظاهرة جديدة، فقد أظهرت دراسة إحصائية أنّ من أصل 268 مجموعة مسلحة تمت دراستها ونَشطت في الفترة 1968 – 2006 ، هناك 20 فقط )أي 7 في المئة( هزمت عسكريًا. في حين انضمت 114 منها )أي 43 في المئة( إلى التيار السياسي المؤسسي السائد، سواء أكان ذلك على شكل أحزاب سياسية أم حركات سياسية اجتماعية.
وفي الاصل فان مشاريع الحركات المسلحة هي مشاريع سياسية يُرى ذلك من خلال الاطروحات الفكرية في المنفستوهات والدساتير ؛ غير أن الالية المستخدمة هي الية العنف ؛والذي فرضته اجهزة الدولة بقمعها لكل الاصوات المناوئة لها، فتم مواجهة العنف بالعنف وفي وقت يبدو صوت البنادق مسموعاً اكثر من صوت العمل السياسي السلمي؛وهو ما يعني ان احتكار الدولة لاجهزة العنف،ولّد ما يمكن أن يطلق عليه بمشروعية احتكار القمع لدى مؤسسة وحيدة ويتم استخدام هذه الالية بسبب أو دون سبب وبالتالي نشأت كيانات تستخدم نفس الالية لاسماع صوتها.
ترتبط فكرة التحول من العمل المسلح الى العمل السياسي السلمي بعدة عناصر أهمها المصداقية في التسويات السياسية وتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه ؛ مع وجود بيئة سياسية خالية من القمع والعنف.ثمة إجماعًا بين الباحثين على أن عملية التحول هي في حد ذاتها شديدة الحساسية للبيئتين المحلية والدولية. بعبارة أخرى، أيّ بيئة سياسية يسود فيها القمع الاستبدادي والانقلابات العسكرية والحروب الأهلية وغيرها من أشكال العنف السياسي واللااستقرار الاجتماعي؛فإن العمل المسلح والنزاع العنيف المستدام سيكونان في الأغلب النتيجة الوحيدة .ومحاولات التّحول في اتجاه نشاطات سياسية غير مسلحة سيكون لها على الأغلب تأثيرات قصيرة الأمد أو تبدأ لتنهار سريعًا.
هنالك أهمية كبيرة لتحول الحركات من النضال المسلح الى النضال السياسي؛ حيث أنها ستكون مضطرة لمخاطبة جمهور واسع وعريض وجديد عبر خطاب سياسي فيما تسوّق هي ايضاً خطابها السياسي؛ ولخوض اي انتخابات لابد من وجودها في شكل احزاب سياسية إذ انها الالية الوحيدة المعترف بها لخوض انتخابات ؛ ثمة أهمية اخرى لقرار التحول لحزب سياسي وهو حشد جمهور نوعي من المثقفين وصنّاع الرأي والمؤثرين واستقطابهم لبرامجها السياسي ولكن هذا التحول مشروط باعادة بناء للايدلوجيا والهرم التنظيمي وكذا السلوك الممارس من قبل العضوية مع إحداث نوع من عمليات التحديث للتنظيم وفك الإرتباط بين الهرمية العسكرية كمرجع اساسي لاتخاذ القرار لصالح الهيئات المؤسسية داخل التنظيم سياسياً ولاستيعاب افكار الاجيال الجديدة ومحاولة مزج المرجعيات المتباينة.
يقتضي التحول الى العمل السياسي المدني واتخاذه كآلية بديلاً لآلية العنف، توفر عدة شروط داخلية؛ أعني رغبة الحركات المسلحة للانفتاح وممارسة العملية السياسية بشروط جديدة كلياً ؛ وكذا رغبتها في إنزال برامجها السياسية لفئات جديدة كانت تخاطبها عبر فضاء لايوجد به تواصل فيزيقي محسوس، وهو أمر يقتضي كلياً إعادة النظر في شكل خطابها السياسي الذي قدمته في فترة الصراع،وضرورة تغييره ليواكب المتغيرات والاجيال الجديدة والمناخ السياسي المُعايش. لايقف الامر عند هذا الحد بل يتخطاه الى احداث جراحات عميقة في شكل المؤسسات السياسية التنظيمية التي تروم بنائها ومدى مرونتها والاتفاق على خطوط اللعبة السياسية وما يقتضيه المشهد السياسي وشكل تحالفاتها مع القوى الاخرى. والاهم من ذلك ضرورة المراجعات الفكرية لمشاريعها السياسية؛ ويشكل غياب العمل الفكري السياسي أحد أهم العناصر الاساسية التي يفتقدها المشهد السياسي بكل احزابه؛ فالمراجعات الفكرية وان وجدت فهي بعيدة عن الفكر العلمي وتتلخص كلها في الشروحات والسرد التاريخي وهو ما يجعل الحركات والاحزاب على السواء تعيش في ( زمن ماضوي ).
تعاني الحركات المسلحة بلا استثناء من عدم الاستفادة من كادرها وذلك بسوء التوظيف تارة والخوف من احداث التغيير في شكل التنظيم تارة اخرى وهو ما يفسر الانقسامات المتواترة هنا وهناك؛ وهو امر تشترك فيه مع القوى السياسية المدنية؛ وهي من ضمن الأمراض التي تصيب البنى المؤسسية للتنظيمات الحزبية :المركزية البيروقراطية، التي تمنع التنظيمات من الإبداع والتفكير الحر، والانشقاقات التنظيمية التي تحيل على الظاهرة الانقسامية التي ناقشها “واتربوري” في حقل السياسة، وعدد من الباحثين في حقل الأنثروبولوجيا مثل غيلنر وغيرهم، ثم العفوية، أو الارتجال وأخذ مسافة عن الفكر العلمي. هذه الأمراض الثلاثة التي تفتك بمختلف التنظيمات الحزبية، هي التي تحوّل البنى الحزبية إلى كائنات استبدادية نرجسية تضخم الذات وتقصي الآخر، وتقتل الحقيقة حين تلغيها عن الآخرين وتنسبها فقط للذات.