الفاشر: نيرتتي: نيالا: عادل كلر
صورة قاتمة باتت ترسمها الأوضاع في السودان إجمالاً، وفي دارفور على وجهٍ أخص؛ في وجه اليافعين واليافعين، اليُفَّع والأطفال. أوضاع سياسية بالغة التعقيد في مشهد مقاومة شعبية منقسمة على نفسها حد التشظي، ضد سلطة إنقلاب عسكري كامل الدسم، وإتفاق سلام بات يتأرجح بين مطالب الإلغاء ودعوات التعديل، مع نهوض استقطاب مجتمعي غير مسبوق ما بين النعرات القبلية والإثنية وتنامي الخطابات الجهوية، حد الإقتتال الدامي وإثارة الكراهية بين مكونات النسيج السوداني؛ وكل ذلك تحت سياق وضع إقتصادي ومعيشي آيلٌ الى الإنهيار. وهي المعطيات التي باتت تضع مسألة التعليم في السودان ومصير مئات الملايين من أطفاله ومستقبله، رهن المجهول.
تقارير مخيفة وأجراس إنذار:
أعداد مخيفة تعكسها نسب الشباب الذين أدينوا في جرائم ويقبعون في سجن “الهدى” بغرب أم درمان، والذين تعود خلفياتهم الى ولايات دارفور وتم ترحليهم منها الى السجن القومي، أعداد أخرى كثيفة من العاطلين بذات المرحلة العمرية من الذين صارت لا تخطئهم العين وهم يتجولون أسواق معسكرات النازحين وحواضر ولايات الإقليم، بلا هدىً أو هدف، بعد أن صار أمر إنتظامهم في العملية التعليمية حلماً بعيد المنال، فإذا بهم في وحشة الشارع ومهب الجريمة ومآلات الضياع، كإنخراط أعداد منهم في زراعة “البنقو” بجنوب كردفان، أو الحياة ضمن تشكيلات “عصابية” تهدد صفو وسلم معسكر “كلمة”، فيما تقضى أعداد أخر من فتيات الرحل، خارج منظومة التعليم حياتهن في أشغال المرعي وتقضية سنى الطفولة النضيرة في الفلوات والبواد.
ودقَّت وكالة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) ومنظمة (إنقاذ الطفل الدولية) جرس الإنذار مع بداية العام الدراسي الحالي (2022/2023) في سبتمبر الماضي، محذرةً وبشدة من أن السودان يواجه “كارثة جيلية” حيث يتغيب ملايين الأطفال عن التعليم، ونبهت المنظمتان في بيان مشترك، أن كل الأطفال في سن المدرسة تقريبا في السودان، إما أنهم لا يذهبون للمدارس أساساً، أو يواجهون اضطراباً خطيراً في تلقي التعليم.
وبيَّنتا أن هناك حوالي (6.9) مليون فتاة وفتى، بما يعادل واحد من كل ثلاثة أطفال في سن الدراسة، لا يذهبون إلى المدرسة في السودان، كما أنَّ دراسة (12) مليون طفل آخر، ستواجه الإنقطاع بسبب نقص المعلمين، وتدهور البنية التحتية لمؤسسات التعليم، وأشار البيان الى أن الولاية الأكثر تضرراً ولاية وسط دارفور، حيث إنقطع (63%) من أطفال الولاية عن المدارس؛ تليها في المرتبة الثانية من التضرر ولاية غرب دارفور التي إنقطع (58%) من طلابها عن المدارس. وهو ما يضع الموقف التعليمي في إقليم دارفور في وضع شديد الخطورة على مستقبل الأجيال القادمة، وينذر بعواقب شديد الخطورة على المدنيين، المتوسط والبعيد، فيما يلي الأوضاع التنموية والأمنية والإجتماعية.
وأكد بيان المنظمتان على أن المدرسة تتعدى كونها مجرد مساحة تعليمية للأطفال، فإضافة إلى التعلم المباشرة بالصف الدراسي، يكتسب الأطفال المهارات الاجتماعية والعاطفية، من خلال نشاطهم وحياتهم اللاصفية في بيئة آمنة، كما تحمي المدارس الأطفال من المخاطر الجسدية المحيطة بهم – ومن ضمنها سوء المعاملة والاستغلال وإلحاقهم في الجنديّة التابعة إلى الجماعات المسلحة. وتوفّر المدارس الدعم النفسي والاجتماعي، مما يمنح الأطفال الاستقرار والنظام في بيئة متقلّبة. وبالنسبة للعديد من الأطفال في السودان، يُعتبر التعليم منقذًا للحياة.
تحديات تعليم الرحل والنازحين:
يكشف الأستاذ كشيب جمعة، المعلم بمدارس مدينة الضعين حاضرة ولاية شرق دارفور ، عن أزمة التعليم التي باتت تضرب ولايات دارفور الخمس، دون استثناء، بالإشارة إلى تأثيراتها الخطيرة على عملية التماسك الإجتماعي والتعايش، حيث يعزو نصف المشاكل القبلية الى إنتشار الجهل وعدم التعليم الذي يوفر بيئة خصبة للنعرات القبلية بين مكونات الولاية، وأضاف بأن مجتمع الرحل على سبيل المثال يشكل ما يقارب الـ(70%) من إجمالي سكان الولاية، وهو قطاع معطاء وغني بالثروات لكنه مهمل من قبل الدولة، وقال أن كوارث الصراعات والنزوح التي أصابت المجتمعات، خلفت واقعاً مأساوياً على مستوى التعليم منذ أمد ليس بالقريب، حيث أشار الى العام (2012) الذي شهد نجاح فتاة واحدة فقط بمحلية كاملة في امتحانات الشهادة السودانية، فيما تعيش مئات الفتيات من بنات الرحل حياة البادية في انقطاع تام على أي مستوى من مستويات التعليم النظامي سواء كان تعليماً حكومياً أو عبر العون والمجهود الذاتي لأبناء ومجتمع الولاية، بجانب ذلك، أشار إلى قضية مهمة على المدى الإصلاحي القرب تكمن في أهمية ربط مناهج التعليم بالقضايا المجتمعية.
وإذا عدد المعلم كشيب جمعة زوايا من مآس التعليم على مستوى الرحل، فلا يختلف الحال بالنسبة للنازحين، حيث تقول يعاني معسكر “النيم” للنازحين بالولاية، من شح الكادر التعليمي رغم وجود بعض المدارس التي ساهمت في إنشاءها المنظمات، ويشكو المواطنون هناك من معاناتهم كأولياء أمر تلاميذ من الرسوم التي باتت تثقل على كاهلهم كـ”نازحين” في الأصل بالمعسكر، رغم إلتزام الدولة أو إدعاءها (مجانية التعليم) حيث باتت المدارس على قلتها تفرض رسوماً على التلاميذ لتأمين إعاشة وترحيل المعلمين إن وجدوا، وتزداد المعاناة أطناناً مضاعفة في حال تم قبول أحد الطلاب أو الطالبات في الجامعة، حيث تنفي المقدرة المالية اللازمة للأسر للصرف على سفر وتعليم طالب خارج حدود المعسكر الأمر الذي حرم عشرات النابغين والنابغات من أبناء النازحين من مسيرتهم التعليمية، بحسب إفادة لعضو من لجنة التعليم بالمعسكر- فضَّلت عدم إيراد إسمها.
واقع المعاناة والعقبات:
وتمضي خيوط المأساة لتكمل عقد نسيجها الفاجع بولاية شمال دارفور، بتوضيح من عضو التنسيقية العليا لأبناء الرحل الأستاذ أبو بكر على الناير نوَّه خلاله إلى ضعف الإقبال على التعليم داخل مجتمع الرحل، مع ملاحظة تدني جودة التعليم في السودان ككل. مشيراً إلى أن ذات الظاهرة باتت تعانيها مجتمعات المستقرين بالولاية وإن كانت بدرجة أقل. وقال بأن لديه تجربة عقب تخرجه في الجامعة للتطوع لسد النقص في عدد المعلمين بالولاية غير أن البيروقراطية والاجراءات الادارية من قبل مكتب التعليم صارت تعيق دون دخول المتطوعين لمجال التعليم من خريجي الولاية لا سيما أبناء الرحل، وقال أن أبلغ دليل على معاناة ولاية شمال دارفور من مسألة التعليم أن مدارس محلية الجنينة –عاصمة الولاية- صارت تعاني من شح أعداد المعلمين المؤهلين. وأشار أبو بكر الناير الى مسألة مهمة تخص تسرب أبناء الرحَّل من التعليم وتمكن في الرغبة الذاتية لدى العديد من الشباب في العمل بقوات الدعم السريع. وأضاف أن الأعوام السابقة شهدت تناقص حاد ومخيف في أعداد الطلاب الذين يجلسون لإمتحان الشهادة السودانية، وعدد الطلاب الذين يدخلون الى الجامعات سنوياً، وقال: “في العام الحالي 2022 لم يدخل الجامعة أي طالب”. وأضاف أن قلة التعليم تفتح الباب لظواهر لم تكن معروفة بالسابق عن مجتمعات الرحل، كالعطالى والمشردين بالأسواق ومشكلات المخدرات والجريمة.
ونحو الجنوب، تكتمل فصول المعاناة بولاية جنوب دارفور، حيث يبين الناشط عماد عيسى تدهور الأوضاع التعليمية بمحلية (برام) قائلاً أن السياق التاريخي لأزمة التعليم لا تبدأ مع تقرير اليونسيف الأخير عن التعليم في السودان، بل ترجع الى العام (2013) الذي يؤرخ لبداية انهيار التعليم في دارفور، وهو العام الذي شهد ظهور النتائج الاقتصادية لانفصال الجنوب وفقدان موارد البترول، ومرور عشرة سنوات على الحرب ونتائج طرد المنظمات من الإقليم. وأكد عيسى وجود مجموعات كبيرة من أبناء النازحين بمناطق غرب “برام” خارج منظومة التعليم منذ العام 2006، حيث تقل أعداد المدارس هناك، مشيراً الى وجود إحصائيات أهلية للمجتمع المدني بالمحلية تتحدث عن وجود (13) ألف تلميذ في المناطق شرق “برام”. ولفت الى أن معدلات الجرائم وسط الشباب بدأت تتنامى منذ العام 2018، بصورة ملحوظة، وعدم التعليم واحدة من أهم المسببات. وقال أن المنطقة في أحداث مختلفة تتعلق بالنزاعات المتكررة في دارفور، شهدت دخول الحركات الى مناطق مختلفة وتمت خلالها حرق وإتلاف ممتلكات عامة من بينها مدارس، الأمر الذي أدى إلى هجرة رأس المال المستثمر في المدارس الخاصة وخدمات التعليم، وقال: “إستتباب الأمن عامل مهم في توفير التعليم”، ومع ذلك لجأ الناس للعون الذاتي والتطوع لسد النقص في الكادر التعليمي في محاولة لتلافي آثار هذه المشكلة الخطيرة.
تعليم النازحين إطلالة على المجهول:
ويرسم الأستاذ ابراهيم أبكر وهو أحد نشطاء التعايش السلمي بمعسكر (كرينق) بولاية غرب دارفور صورة كالحة للوضع التعليمي بالنسبة لأطفال وأبناء النازحين بالولاية، حيث يشير إلى أن العام (2015) يمثل بداية تدهور وضع التعليم بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية، وقال: “الآن نحن أكثر ولاية بها أطفال مشردين وهو ما يمثل قنبلة موقوتة على المجتمع”. ولفت إلى تأثير الصراعات الدامية الأخيرة التي شهدتها منطقة “كرينق” على البنية التحتية للتعليم من خلال تحويل عدد من المدارس الى مراكز إيواء للنازحين الجدد من بطش الصراعات والمواجهات الدامية، وقال أن مدرسة كرينق الثانوية امتحن فيها 13 طالب فقط بالعام الماضي، وهو المؤشر الذي يوضح بجلاء وضعية التعليم التي يعانونها.
وبدورها أضافت الخالة زهرة هارون، إحدى قيادات المجتمع بمعسكر (مكجر) بولاية وسط دارفور إشارة بالغة الأهمية تتمثل في عدم وجود مبانٍ للمرحلة المتوسطة التي تمت اعادتها مؤخراً كإشكالية إضافية تضاف إلى المشاكل التي يواجهونها على المستوى الشعبي والعون الذاتي للتعليم، من توفير للغذاء داخل المعسكر للطلاب، ومعاناتهم من مشكلة وجود البنات والبنين داخل مدرسة واحدة.
ويكمل الناشط السياسي والإجتماعي جيفارا أحد أبرز الفاعلين بمعسكر (كلمة) بولاية جنوب دارفور، قوس المعاناة غير الرحيم، بقوله بأنهم في في معسكر “كلمة” بدؤوا يدفعون أثمان باهظة لعملية غياب التعليم، وقال: “عندما غاب الأمان غاب المعلمون”، لافتاً إلى حادثة طرد القوات الأمنية بواسطة سكان المعسكر، مضيفاً بأن معظم الأطفال الآن خارج السلم التعليمي ويحرضون إخوانهم وأصدقائهم الأصغر سناً على عدم التعليم أو الذهاب الى المدرسة، وقال بأن المعسكر كلة بات يعلم وجود خمسة قروبات على الواتس مثل “أساطير الضوضاء”، “نجوم”، و”نجوم2000” وتقودها شخصيات معروفة بالإسم والصفة، عبارة عن تشكيلات مراهقين متفلتة ومثيرة للمشكلات الأمر الذي بات يعكر صفو مجتمع المعسكر، وفي غضون الخمس سنوات القادمة سيتحول معسكر كلمة لكارثة حقيقية ما لم يتم تدارك وضعية التعليم ونتائج غيابه الماثلة الآن.
وهكذا تكتمل فصول مآسي دارفور، من بعد الإقتلاع من الأرض والنزوح ومعاناة الموت والشتات، ليظل واقع البقاء على أرضها مخاطرة محفوفة العواقب، للصغار القادمين بلا ملامح لمستقبل مؤكد، ولا تعليم كاف يضمن لهم الحياة اللائقة والحق الأصيل في الكرامة والخدمات وصيانة حقوقهم المكفولة في الطفولة الآمنة والتعليم الجيد، فهل تجد مناشدة اليونيسف ومنظمة رعاية الطفولة العالمية لحكومة السودان إلى إبقاء المدارس مفتوحة طوال العام الدراسي بأكمله، وضمان عدم احتلال المدارس من قِبل جهات مسلحة، وتيسير فرص التعليم البديل الإضافية، وضمان توفير التمويل الكافي للتعليم، بما في ذلك رواتب المعلمين وبرامج التغذية المدرسية. أذناً صاغية؟ أم يترك مستقبل دارفور الجريحة: أطفالها، في مواجهة الخطر والمجهول.