بقلم بكري الجاك

النهر قد يغير مجراه مع التحولات الطبوغرافية والجيولوجية لكنه لا يغير اتجاه جريانه، مثل هذه الملاحظات هي هبة الطبيعة للإنسان لاستلهام الحكم و العبر، أما في شأن الأنهر السياسية فالأمور في تبدل دائم بما في ذلك اتجاه جريان النهر، و يكفي أن نراجع ما كتب عن أي حدث أو عملية سياسية في تاريخنا و تاريخ غيرنا القريب و البعيد حتي نستذكر أن التحول في المواقف ليس مسبّة أو ضعف اذا ما بٌني علي تقديرات سليمة و مقاربات منطقية لواقع الاشياء و مآلاتها. سأتناول في هذا المقال القصير ثلاث جوانب تتعلق بالعملية السياسية الجارية وما أفرزته من اتفاق اطاري:
أولاَ: بعض الفرضيات التي بُني عليها الاتفاق، والتي يتم الدفع بها لتبرير خيار العملية السياسية كخيار أوحد احيانا،
ثانياً: المنهجية التي اٌتبعت وتٌتبع في ادارة العملية السياسية،
ثالثاً: النتائج التي قد تترتب على هذا الاتفاق وتأثيراته علي القوي الثورية.
وللعلم أنا هنا لست في موقع الهجوم على الاتفاق أو رفضه فهو ما زال قيد البحث والتداول والتفاوض، وانما انا بصدد تحليل واستقراء بعض مآلاته المحتملة على الحراك الثوري وفرص الانتقال السياسي.

الفرضية الاولي: هي تصوير الواقع السياسي و كأنه Zero Sum Game أي أنه ليس بالإمكان الا خياران اما عملية سياسية و تعني تفاوض يعكس حالة توزان الضعف و قدرات الأطراف المتفاوضة، أو موقف جذري للتغيير علي ضبابيته ينتظر حدوث كل الاشياء بضربة قاضية قادمة لا أحد يعلم كيف و من أين و بأي وسيلة ستأتي. وبالضرورة أن تقدم اي موقف سيكون على حساب الموقف الآخر، هذه الفرضية غير انها غير سليمة منطقيا، من حيث انها تصور واقعا متحركا علي أنه في حالة ثبات Static، فهي ايضا تغذي نفسها بنفسها في حالة منطق دائري في أبدع ما تكون عليه المغالطة المنطقية Logical Fallacy ، أي أن سوء (أ) يعني ضمنيا جودة (ب) و العكس صحيح. فحين يكتب المدافعون عن أي تسوية سياسية بحجة أن هذا أفضل ما يمكن الحصول عليه فهم يستبطنون منطقا داخليا لدحض حجج الموقف الجذري ويتسربلون بالواقعية السياسية بقول: “أن هذا أفضل ما يمكن حدوثه”، وبالمثل يفعل دعاة الجذرية التي لا تقف علي شيء سوي حجج الخطاب الاخلاقي القائم علي الصوابية السياسية التي لا يمكن ان يختلف مع تطلعاتها و غاياتها اي من دعاة التغيير.

الفرضية الثانية: أن سبب فشل تجربة الانتقال الأول هي ال Spoilers ، اي المخربون كما يحلو للذين يلوكون لبانة نظريات فض النزاعات، خصوصا ممن يحبون اكمال جملهم العربية ببعض المفردات الانجليزية الرنانة، و أن توسيع قاعدة المشاركة باستيعاب قوي سياسية لم يعرف عنها في القريب أنها مؤمنة بعملية التحول الديمقراطي سيسهم في تقليل فرص استغلالها سياسيا بواسطة المخرّبون الحقيقيون (تحالفات المال و السلطة في المنظومات الامنية و العسكرية و تمدادتها المدنية) في افساد عملية الانتقال الديمقراطي. هذه الفرضة، في حقيقة الأمر، غير انها بُنيت علي ادعاءات الانقلابيين بتوسيع قاعدة المشاركة، الا أنها خطأ في حد ذاتها، فنجاح الانتقال رهين بتوسيع قاعدة القوي الديمقراطية التي لها مصالح مادية في توطين و استدامة الديمقراطية و ليس اي (هردبيس) سياسي و فاقد تربوي انتهازي.

الفرضية الثالثة: أن تمتين النصوص في الوثيقة الدستورية المقترحة بواسطة (سمكرجية) من بعض خبراء القانون الدستوري هو الضامن الأول والأوحد لانتقال ديمقراطي سلس. فما دار من جدل – و مازال يدور – حول الوثيقة الدستورية المقترحة. هو في اصله كما كتب بعض الخبراء ايضا، يعرف بالجدل حول ال Constitution اي الدستور و ال Constitutionalism الدستورية، فالدستور بخلاف أنه القانون الأعظم و الأعلي في الارض فهو ايضا معني بتحجيم سلطة الدولة، و الدستورية كمفهوم يُعني بتقليل فرص عسف الدولة و تحديد صلاحياتها عبر نظام للحكم قائم علي سيادة حكم القانون الذي يجب أن يكفله الدستور. هذه الوثيقة إذا اعتمدت واصبحت المرجعية الدستورية فهي سوف تكون الوثيقة التاسعة والخمسون إذا ما أخذنا في الاعتبار ميثاق تأسيس سلطة الشعب ومن ثم الاتفاق الاطاري وبدأنا بمؤتمر جوبا في عام 1947، وإذا غضننا الطرف عن التجربة السياسية السودانية التي هي في جوهرها لا تعير اهتماما للوثائق و المواثيق، فهل لاي عاقل أن يعتقد أن حماية الانتقال تكمن في نصوص دستورية؟ فحتي وأن توفرت الارادة السياسية الحقة هذه المرة فهذه الدولة ليس لها قدرات و كفاءة في اجهزتها لتنفيذ جل ما سيتم الاتفاق عليه، و كل من يعتقد غير ذلك فعليه أن يقوم بإجراء تقييم شامل لهذا الجهاز ليري حجم البؤس المفاهيمي و الفقر الفني و القيمي و الاخلاقي لهذا الجهاز و الفساد الذي اصبح هو القاعدة في كل شيء فيه.

الفرضية الرابعة: أن الوضع الاقتصادي و السياسي في اشد حالاته خطورة و أنه يجب أن نفعل شيء ما لتدارك هذا الوضع بما في ذلك الحرب الاهلية.
أولا: ليس هنالك عاقل في هذه البلاد يمكن أن يغالط في خطورة الاوضاع و تدهورها بما في ذلك ظاهرة تلاشي الدولة و استمرار الاحتقانات الاثنية و القبلية التي لم تتوقف اصلا، الا أن هذا المنعطف الخطير ظل هكذا في هذه البلاد و حقيقة لا ندري “متي ستنتهي هذه الموزة” فهذا المنعطف ولدنا فيه و فيه حيينا و ربما فيه نموت، القصد هنا أن خطورة الوضع و تعقيده ليست بمبرر موضوعي ل (الكلفتة) و التعجل، بل العكس فإن اطلاق عملية سياسية عمياء لا تستوعب هذا التعقيد و تستوفي شروط الاستجابة الموضوعية لمكوناته، لا يمكن أن تثمر حتي و ان كان شعارها صباح مساء “هلموا الي تدارك التدهور و الخروج من المنعطف الخطير”، و الدليل أننا ظللنا نفعل ذلك علي الدوام طوال تاريخنا و ها نحن هنا جالسون في سهلة المنعطف الخطير هذي.

ثانيا: هنالك بلا مواربة خلل منهجي في الطريقة التي اٌديرت وتدار بها هذه العملية منذ الفها الي ياءها، بداهة ليس هنالك فاعل سياسي عاقل يمكن أن يكون ضد التفاوض من حيث المبدأ، فالإضراب كما الموكب هو تفاوض، وحتى شعار لا تفاوض هو موقف تفاوضي في حد ذاته، انما السؤال هو: تفاوض علي ماذا؟ كما أن هنالك مشكلة اشراك ومشاورة في العملية برمتها، فالمسألة ليست مسألة شفافية شكلية باستصدار بيانات الهدف منها فقط سد ذرائع الاتهامات بعدم الشفافية كبديل لعملية حقيقة تهدف الي التقرير في المصير الوطني عبر السعي لبناء جبهة وطنية ثورية توحد القوي الداعمة للديمقراطية حول رؤية للانتقال اولا ثم التفاكر حول الوسائل والآليات لتحقيق تلك الرؤية ثانيا. علي خلفية ذلك ظلت قطاعات عريضة حتى من احزاب القوي التي تفاوض في حالة تغييب وغياب عن هذه العملية. أما محاولات التواصل مع لجان المقاومة والنقابات عبر المبادرات الكثيرة المزعجة والمربكة لم تقم علي فضاء حر للتفاكر، بل علي الوصايا و التوجيه و التوبيخ و ادعاء امتلاك الحقيقة و الحكمة من كل الاطراف. الكل يقدم حجج عن أن الطريق الأمثل هو كذا و كذا الا أنني موقن أنه كان و مازال بالإمكان ادارة حوار جاد بين القوي الثورية المدنية الداعمة للديمقراطية للتوافق حول رؤية تعطي شرعية كافية لإطلاق عملية سياسية تقود الانتقال و تعالج سؤال المشروعية الذي سيلازم اي فاعل سياسي في هذه البلاد لعقود قادمات.

ثالثا: النتائج التي بدأت تترتب علي الطريقة التي اديرت بها العملية السياسية و ما أفرزته من اتفاق اطاري هي في جوهرها تقود بشكل غير مباشر الي تصفية جيوب المقاومة السياسية الداعمة للانتقال الديمقراطي، فالفشل في التعاطي مع سؤال المشروعية، من شاكلة أن من يمثل من، قد دفع بجل الفاعلين الي السباق الي الحضيض، فبدلا من البحث عن وسيلة لتوافق واسع للاجابة علي سؤال المشروعية في ظل عدم توفر فرصة لقيام انتخابات تعبر عن المعسكر الثوري الداعم للتحول الديمقراطي يمكّن من اعطاء العملية السياسية مقبولية لوضع لبنات التأسيس، انخرط جل الفاعلون في معركة قوامها الزعم بتمثيل الثورة الحق و ادعاء التفوق الاخلاقي و الصوابية السياسية، هنا معسكر يدعي الحكمة و الواقعية السياسية و آخر يدعي الطهر الثوري و النقاء الاخلاقي و الحق في الدفاع عن دماء الشهداء و كأنما دماء الشهداء حكر علي أحد بعينه. هذا الواقع كان اصلا ماثلا بهذا التعقيد و اطلاق عملية سياسية فيه لم تفعل شيء سوي أن أخرجت هذه المبارزات العبثية الي العلن، و بدلا من أن يستند المفاوضون الي شارع قوي و منظم كأهم عامل للقوي الثورية مع العلم أن العامل الخارجي تحكمه تعقيدات جمّة و ان كان بعض فاعليه داعمون للانتقال الديمقراطي، ظنوا أنه مزعج و أنه قد يكون سببا في عدم قدرتهم علي التفاوض و اكمال العملية السياسية، و بشكل غير مباشر بدأت عملية تصفية القوي المنظمة (من كل الاطراف) للحراك و شرذمتها وفقا للتصورات الصفرية، و قد أكملت الاجهزة الامنية و الاستخباراتية باقي المهمة. من يقولون إن العملية السياسية يمكن لها أن تمضي وتفشل، فان فشلت فالشوارع موجودة، ربما لا يعلمون كثيرا عن سيكولوجية الجماهير، و أن الناس لا يتحركون بمثل هذه التبسيط الفوضوي، و أن هزيمة المخيال الاجتماعي بفرص التغيير الثوري لها مآلاتها من هجرة الطبقة الوسطي و الشباب و عزوف البعض و يأس البعض و انتحار البعض و تطرف البعض، و هذا في ظل واقع تتم فيه قبلنة السياسة و تسيس القبلية بشكل منظم و شبه يومي.

خلاصة القول أن الأرجح هو أن ينتهي الأمر بتوقيع اتفاق اطاري يعطي طعم آخر لاحتفالات الكريسماس لفولكر بيرتس و ثلاثيته و يعطي نصر صغير لسفراء الرباعية، شيء يرسلونه في كيبولات الحقائب الدبلوماسية، و تعطي تحالف الحرية و التغيير اسابيع من النصر الزائف بأن الاتفاق هو بداية النهاية للانقلاب و هذا النصر يمكن أن يتحقق اذا بال