بقلم: فيصل الباقر

مدار أوّل:

” لا تحسب الأرض عن اِنجابِها عقرت .. من كُلّ صخرٍ سيأتِي للفِدا جبلُ .. فالغُصنُ يُنبِتُ غُصناً حِينِ نقطعُهُ .. والليلُ يُنجِبُ صُبحاً حِين يكتمِلُ.. ستمطِر الأرضُ رغم شِحّتِها .. ومن بطُون المآسِي يُولدُ الأملُ…” ((عبدالله البردوني)

-1-

شكراً لإبن خلدون – عالم الاجتماع الموسوعي ، بعيد النظر، وثاقب البصر والبصيرة ، وهو القائل: “إذا كثُرت الجباية، أشرفت البلاد ، على النهاية” !. نعم ، شكراً له ، مرّةً ثانية ، وثالثة ، ورابعة ، بل ، وعاشرة ، على مقولته الخالدة ، والمُلهمة تلك ، وكذلك ، له الشكر والمِنّة عشرات المرّات ، على حكمته النابهة ، والراجحة ، والمُفحِمة: “الظلم مؤذن بخراب العمران”، فمن إبن خلدون ، ومن أمثاله من العلماء ، والمفكّرين ، والفلاسفة الأفذاذ – من مختلف المدارس الفكرية والاقتصادية والاجتماعية – يتعلّم الحُكّام العُقلاء ، ويتّعظ القادة الأذكياء وتأخذ الأُمم والشعوب الحُرّة ، العِبر والدروس!.

 

-2-

تعود إلى الواجهة – اليوم – مقولتا العالم الكبير ، صاحب ، ومؤسس (علم العُمران البشري) عبدالرحمن بن خلدون – المولود فى تونس عام 1332م ، والمتوفّي عن ستة وسبعين عاماً ، فى مصر فى العام 1406 – تعود – اليوم – المقولتان الموحيتان ، للمشهد السوداني ، المضطرب اجتماعيّاً ، والمرتبك سياسياً ، والمأساوي – جدّاً – اقتصادياً ، فى مطلع السنة الجديدة  2023م ، وفى اللحظة التاريخية الحرجة ، حيث تصلُح المقولتان الخلدونيتان ، لوصف حال البلاد والعباد ، كما تصلحان ، فى التنبؤ بمصير الوطن “المنكوب” ، والبلد “المنهوب” ، وهو يقبع تحت رحمة سياسات الدولة الانقلابية ، ويُهرول جارياً ، فى دروب وأزقّة مآلاتها الكارثية ، ومع ذلك ، نلحظ ، ونري ، ونلمس ، ونجد ، فى المقابل ، فى الضفة الأُخري ، وفى قلب لُجّة بحر الثورة الهادر ، بسالة وشجاعة الشعب السوداني العظيم ، صانع ومفجّر الثورات وقاهر المستحيلات !.

-3-

هاهي حكومة انقلاب 25 أكتوبر 2021م ، تواصل تجبّرها ، وتكبُّرها ، فتُظهِر بجلاء ، عدم اكتراثها بمصائر الناس ، فينكشف للعلن ، غياب اِهتمامها بأحوالهم ، وقد أصبحت – الدولة الانقلابية – غير آبهة، ولا مُكترثة – البتّة – بحال العباد والبلاد ، فتطاولت أجهزتها القمعية ، فى بنيان صناعة القمع والقهر ، والتعذيب ، والقتل خارج القانون ، بمثلما تمادت وزارة خزانتها الفارغة ، فى فرض الضرائب و”الجبايات” الجديدة التي أثقلت كاهل “كتائب” الأغنياء ، وفاقت قدرتهم فى حلب ضراع بقرة الشعب ، ناهيك عن استنزاف كل طاقات “جيوش” الفقراء ، الذين وصلت بهم سياسات الاِفقار الممنهج ، درجات متوحشة ، لا يمكن العيش فى لهيب نيرانها المُحرقة ، وأصبح من سابع المستحيلات التعايش معها ، ومع افرازاتها المجتمعية ، بما فرضته من واقع اقتصادي مدمّر ، طال الأخضر واليابس ، وفقرٍ مُزري ، جعل العيش الكريم ، والحياة الهانئة للناس – فى كل بقاع السودان ، وأطرافه التي نهشتها الحروب العبثية ، والنزاعات المسلحة المصنوعة – كأصعب ما يكون!.

-4-

اغلقت دولة الانقلاب ، وحكومتها المتجبّرة ، الطريق – تماماً -أمام أيّ بارقة أمل ، فى نمو وتطوُّر اقتصادي طبيعي ، يُمكن أن يحدُث ، ليصبح الحل الوحيد ، والخيار الأوحد – أمام الشعب السوداني “الفضل” – للخروج من قاع وبؤرة الانهيار والدمار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، هو مواصلة استكمال الثورة ، وتجذير خطواتها ، لاِنجاز مهامها المرحلية ، بالانقضاض الشعبي السلمي ، على النظام الانقلابي الاستبدادي ، بتحالفاته القديمة والجديدة ، وبمناهضة الحكومة الانقلابية، ومقاومة سياساتها الاقتصادية، بسلاح السلميّة المُجرّب ، فى اسقاط أعتي ، وأشرس الدكتاتوريات !.

-5-

نعم ، تطابقت المقولتان الخلدونيتان الخالدتان ، فى بداية سنة 2023م ، فى السودان ، وبصورة واضحة ، فى دولة انقلاب 25 أكتوبر 2021م ، ليبقي أمام الشعب خيارٌ واحدٌ – فقط – لا ثاني ، ولا ثالث له ، وهو استكمال مهام وواجبات ثورة ديسمبر 2018م ، المجيدة ، لينفتح الباب والأمل من جديد ، لبناء سودان خيّر ، وديمقراطي ، يسع الجميع ، تتجسّد فيه شعارات ثورة ديسمبر الخالدة ((حرية … سلام … وعدالة))، نحو بناء وطن مُحصّن ومُعافى من أمراض الدكتاتورية ، والفساد ، والظلم ، واستغلال الطبقات الطفيلية ، لإنسان السودان العظيم ، سودان جديد ، وسعيد ، ينعم كل أهله فيه ، بخيراته ، وهي وفيرة ، وكثيرة ، إن أحسن ادراتها حكّامه ، وتدبّرت نُخبه السياسية ، التفكير والتقدير ، ولكن ، هيهات!.

-6-

مع بدايات “سنة” 2023م ، جاءنا السيد جبريل إبراهيم ، وهو لمن لا يعلم ، وزير مالية انقلاب أكتوبر 2021م ، وزعيم حركة العدل والمساواة ، بموزازنة “مُهترئة” لسنة 2023م ، كشفت عن نفسها ، وعبّرت بوضوح تام ، وبصورةٍ فجّة ، عن خطل وضيق أُفق صانعيها ، وقد ظهرت نتائجها الكارثية – اليوم ، قبل الغد – فى كل مجالات الاقتصاد، والتجارة ، والخدمات ، فى الوقت الذي يدّعي فيه السيّد جبريل – زوراً وبهتاناً – أنّ “موازنته” ذات الـ(5) تريليونات جنيه سوداني ، وبعجزها الملحوظ ، والمفضوح والذي لا يفوت على فطنة أصغر طالب/ة علم إقتصاد ، ستحقق الاستقرار الإقتصادي ، بعد أن أسهب فى وصفها بـ”الواقعية”، وزعم أنّه سيستمر فى العمل بها، لأجل الاستقرار الاقتصادي ، وخفض معدلات التضخم ، وزيادة المنافسة ، المفضية إلى خفض الأسعار ، فى مناخ يتّسم بسوء التخطيط ، وضعف التنفيذ ، وغياب الرؤية الكلية ، وعمى النظرة المستقبلية ، لمآلات التضخُّم الاقتصادي المُخيف ، ونهايات الكساد البضائعي المُجحف ، الذي تغرق فيه البلاد!.

-7-

جاء السيّد جبريل ، مُدجّجاً ببرنامج حركته المسلّحة ، وفى غياب تام للمحاسبية ، والشفافية ، وتغييب مقصود ، لدولة المؤسسات ، وفصل السلطات ، بموازنة تقليدية ، مُهترئة ، ستُثقل – حتماً ، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى – كاهل المزارعين فى كل بقاع السودان ، بارتفاع جديد فى تكلفة التجهيزات الزراعية ، وسط جنون اسعار الوقود ، واِكمال سيطرة رؤوس الأموال الأجنبية ، فى دولة يجأر أهلها البسطاء ، فى كل المناطق الزراعية ، وغير الزراعية ، ومعهم أهل الرعي ، والمراعي غير الآمنة ، ومجمل الناس العاديين ، فى الوظائف الحكومية ، وغير الحكومية ، بالشكوي المُرّة من مواجهة الغلاء ، ولن نقول أهل الصناعة وما أدراكما الصناعة ، لأنّها اندثرت تماماً ، أو كادت ، بينما يواصل وزير المالية حلمه – بل ، كوابيسه النهارية – واصراره الرغائبي ، فى تحقيق موازنته الكارثية ، ولو على أشلاء كل الناس ، مُعبّراً بها عن حالة هذيان “دون كوشوتية”، كاملة الدسم ، تجعل صاحبها ، يظن أنّه فى مهمّةٍ “مقدّسة” ، وقد اختارته وارسلته العناية الإلهية ، وبعثت به، لإقالة عثرة التنمية ، وفك عُزلة الاقتصاد السوداني ، من الانهيار الوشيك والمحتوم !.

-8-

الواقع المُعاش ، يؤكّد أنّ دولة الجباية “الجبريلية”، رفعت يدها – تماماً – من كل وأهم واجباتها الأساسية ، وتنكّرت لمسئولياتها المجتمعية ، فى الوفاء بالتزامها فى تقديم الخدمات الضرورية للناس ، بدءاً بالتعليم ، فى كل مراحله ، مروراً بالصحة ، فى كل مستوياتها ، وصولاً للخدمات الضرورية ، المرتبطة بحركة الناس وتنقّلهم ، لترتفع تكلفة التعليم ، والقبول فى المؤسسات التعليمية الحكومية وتزيد بين عشيّةٍ وضُحاها ، رسوم ترخيص وتجديد ترخيص العربات والمركبات العامة والخاصّة ، وتزداد رسوم كل الخدمات الضرورية ، التي من المفترض ، أن تقدمها مؤسسات الدولة ، للمواطنين برسوم رمزية ، مُضافاً إلى الارتفاع الجنوني – وغير المُبرّر – فى الأسعار ، لضروريات الحياة ، من مأكل ومشرب وملبس وعلاج وتعليم وقد اعترف عرّاب هذه الموازنة الكارثية – وبصريح العبارة –  بأنّ التحدّي الأكبر الذي يواجه موازنته يتمثّل فى الحصول على الإيرادات الكافية ، لتغطية المصروفات المُتوقّعة ، بعد أن أقرّ – السيد الوزير – بوجود عجز فى موازنته ، وكشف عن نيّة ورغبة وشهوة جامحة ، فى اشهار سيف الجبايات ، وهذا طريق مجرّب ، وفيه حديث يطول !.

-9-

فى هذا الوقت الحرج ، وبدلاً من الاستماع لأصوات الناس ، فى الريف والحضر ، والمركز و”الهامش”، والاستجابة لشكواهم المُرّة من غلاء الأسعار ، وانعدام الخدمات ، ينشغل وزير مالية الانقلاب ، السيد جبريل إبراهيم بمواصلة المناورات السياسية حول انضمامه ، وحركته ، وبعض رفاقه فى الكفاح “المصلّح”، للعملية السياسية “الانتحارية” الجارية بسرعة البرق، هذه الأيّام ، لفرض التسوية المجانية ، مع مُنتهكي حقوق الإنسان ، بتأجيل ، وتعطيل حسم ملفّات العدالة ، فى كل صورها (الجنائية ، والإنتقالية ، والدولية) ، لـ”تمكين” تحالف دولة الانقلاب الجديدة، ليضمن بقائه – ورفاقه – فى السلطة ، بأيّ ثمن ، ولو على أشلاء الفئات المجتمعية الهشّة والضعيفة ، ومجتمعات النزاعات المسلحة ، التي يدّعون تمثيلها ، وفيهم – بلا أدني شك – الضحايا ، والناجين والناجيات ، فى إقليم دارفور ، الذي يُعاني سكّانه الأمرّين من جراء سياسات الدولة الانقلابية ، حيث غياب الأمن ، واتساع دائرة النزاعات المسلحة ، واندثار علامات المُساءلة ، وضياع ملامح تحقيق العدل والانصاف ، و”انبشاق” السلام ، وأعني بالتحديد اتفاق “سلام جوبا”، الذي لم يعد فيه ، ما ينفع الناس !.

-10-

لقد أصبح الناس أجمعين – الداني والقاصي – شهود حق ، على استكمال حلقات نهاية الدولة الانقلابية ، وبانت علامات انهيارها الوشيك ، فى دارفور ، كما فى النيل الازرق ، وجنوب كردفان ، وشرق السودان ، بسبب سياسات دولة الجبايات ، وتغييب العدل ، واستشراء الظلم ، وأصبح الناس – كل الناس – يرون بالعين المجرّدة ، زوال دولة الطغيان ، بعد أن كثُرت الجباية وأشرف دولة الانقلاب ، على النهاية !.

-11-

فى مقاومة موازنة سنة 2023م ، جاء الرد الشعبي المتوقّع والعاجل ، مفاجئاً للانقلابيين ، وحلفائهم القُدامي والجُدد ، تحت مسمّي “ضاقت خلاص” ، فى الموكب الذي دعت له لجان المقاومة الباسلة، فى 17 يناير 2023م ، ونظّمته بتكتيكات جديدة ، لتؤكّد الطبقات والفئات الاجتماعية المتضررة من سياسات الانقلاب ، وفى مقدّمتها فئة الشباب ، والنساء، أنّ معركة انتزاع الحريات السياسية ، وثورة الحقوق والعدالة ، والسلام العادل ، لا تنفصل عن خوض وترتيب معارك الاقتصاد ، وأنّ ارادة اسقاط الانقلاب، وهزيمة سياساته الاقتصادية والاجتماعية مستمرة ، وأنّ رياح الثورة “الديمسمبرية” العاتية ، ستظل تضرب قلاع البطش والقهر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، وكل معاقل وجيوب ورموز انتهاكات حقوق الإنسان ، حتّي اسقاط الانقلاب ، والدولة الانقلابية بأكملها !.

-12-

من كل هذا وذاك ، يتأكّد من جديد ، أن لا طريق آخر ، ولا سبيل – أمام شعبنا – غير مواصلة النضال الجسور والصبور ، حتّي آخر الشوط ، وسيتحقق النصر العزيز بتمتين حبل مقاومة الانقلاب ، ومناهضة سياساته البغيضة ، بالمزيد من التنظيم والتثوير والتنوير ، وانتزاع مساحات أكبر – يوماً بعد يوم – فى الحق فى التعبير ، بعد أن وصل الجدب والخراب السياسي ، والظلم الاقتصادي ، والقهر الاجتماعي ، مداه ، وبلغ سيله ، زباه ، ليتأكّد ويتحقّق – مرّةً أُخري ، وليست أخيرة – قول العالم الاجتماعي الفذ – صاحب المساهمات الفكرية العظيمة ، والمتميّزة ، فى علوم الاقتصاد والتاريخ والفلسفة – عبدالرحمن بن خلدون : “الظلم مؤذن بخراب العمران”!.

-13-

نعم ، أمام هذا الواقع الماساوي وسيناريوهاته العدمية المرعبة، وللخروج من ظلام ليل الانقلابيين الدامس والمُخيف، لآفاق رحابة صبح الثورة المُشرق ، وسماحة وجمال فجره الجديد ، ليس أمام شعبنا ، وقواه الحيّة ، ولجان مقاومته الصامدة ، ونقاباته الحُرّة ، التي بدأت حركتها تحقق الانتصار تلو الانتصار ، سوى مواصلة مشوار النضال الجذري السلمي ، لاستكمال مهام ثورة ديسمبر 2019م ، المجيدة ، لتحقيق شعاراتها فى الحرية والسلام والعدالة ، وما ذلك ، على شعبنا ببعيد !.

جرس أخير:

“إذا كثُرت الجباية ، أشرفت البلاد على النهاية” ((( إبن خلدون)