بقلم : بكري الجاك
في تسعينيات القرن الماضي و بعد تخرجي (في) جامعة الخرطوم (كما كان يحلو القول للراحل البروفسير عبد الله الطيب في و ليس من) كنت من الرافضين لفكرة ان يبقي الخريجين في حرم الجامعة خصوصا الناشطين منهم في العمل السياسي حيث كان هذا تقليدا شائعا أن يتسكع الخريجين في حرم الجامعة (و ربما الجامعات الاخري) و السكن الطلابي لانهم عادة لا يجدون فرص عمل تغير من نمط حياتهم و ايضا لاسباب نفسية و وجدانية. حجتي كانت أنه من الضروري أن تمنح الاجيال القادمة فرصة في صقل تجاربها و ان ذلك لا يمكن أن يتأتي الا بابتعاد القيادات الطلابية المؤثرة ذات الكاريزما من محيط النشاط الطلابي، و عملا بقراري هذا فقد عدت الي مدينة ود مدني حيث الاسرة، و حينها قد لاحت فرصة أن يقوم الخريجين بالتدريس لعام دراسي واحد في المدارس الثانوية بولاية الجزيرة كبديل لاداء الخدمة الالزامية العسكرية، و قد انخرطت في ذلك البرنامج مع حولي ما يزيد عن الالفين من الخريجين في الولاية و قد عملت استاذا لمادة اللغة الانجليزية بمدرسة المؤثمر الثانوية العليا بنين بمدني، كان كل معلمي المدرسة من المؤدين للخدمة الالزامية (اذكر منهم الطيب و أمير من ابناء المدينة) باستثناء المدير و استاذ قديم لمادة التربية الاسلامية. و بما أنني مثل غيري كنت الاستاذ الوحيد لمادة اللغة الانجليزية فقد كتب علي أن ادرس ستة حصص في اليوم لأن بالمدرسة فرعين من اولي الي ثالثة. و بالنسبة لرفاقي في الخدمة فقد اكتشفنا في مطلع العام الدراسي أن حكومة الولاية لا تقدم لنا أي اعانة كما تم الوعد بذلك مقدما و قد قيل لنا أن منسق الخدمة الالزامية في حينها قد قام بنهب ما يعادل مبلغ 198 مليون (لا ادري ان كانت العملة حينها دينار او جنيه فقد تكاثرت علينا الأحن و الأصفار في عهد الانقاذ) و اختفي و أن الدولة لا قدرة لها علي فعل شيء، الخلاصة حينها أنه لا يوجد اي سند مالي لنا و علينا أن ندبر أمرنا من مواصلات و فطور و أن نقوم بالتدريس في هذه المدارس المليئة بالطلاب الفارغة من المعلمين المنخرطين في المهنة بشكل دائم.
بالنسبة لي كنت احتاج الي أن اركب مواصلات اربعة مرات في اليوم ذهاب و اياب (للعارفين بمواصلات مدني الداخلية من بركات الي السوق الكبير و من السوق الكبير الي سنكات جبرونا آخر محطة و بالعكس) ولم يكن لي مصدر دخل وقتها، و بعد مجابدات مع الوالد الموظف البسيط حينها بمشروع الجزيرة (الذي كان يلفظ انفاسه الاخيرة) تبين لي أنني في حاجة الي أن اتدبر أمري لأان ليس للوالد قدرة علي مساعدتي أكثر من ما استطاع في الحياة. في هذه اللحظة و بتدابير متعددة لاحت فرصة أن اعمل كفريشة بعد نهاية اليوم الدراسي أمام مبني الجوازت القديم بالسوق الكبير بمدني حيث كنت اقوم ببيع صابون الغسيل و صابون الحمام و الجلسرين و الفازلين و الظهر و بعض الاشياء الحفيفة، و قد برعت في توظيف بعض مهارات الاقتصاد الادراي و محاسبة التكاليف و التسويق حيث أنني في فترة وجيزة اصبحت من الفريشة الذين يقف الناس في صفوف لشرا ء بضاعتهم ليس لأنني ابيع شيئا اكثر جودة من غيري، بل فقط لأنني تعلمت مبكرا أن ابيع كل بضاعتي بسعر اقل ما أن اتحصل علي رأس المال الكلي لبضاعة اليوم، ببساطة كنت ابيع سعر كل سلعة من صابون و ظهر و جلسرين و فازلين بهماش ربح محدد لكل سلعة و ما أن احصل علي رأس المال لكل البضاعة ابدأ في بيع كل شيء بسعر شراءه، كان هذا الامر محيرا لكل رفاقي من الباعة المتجولين و للناس التي تصطف يوميا لشراء صابونة غسيل سعر شراءها جملة 2 جنية و سعر بيعها 2 جنيه قطاعي بعد بيع خمس كراتين من ذات الصابون بثلاثة جنيه، لم يفهم الناس متي و لماذا اقوم بتغيير السعر. عادة ما كنت اقوم باكمال تدريس اليوم الدراسي بحصصه الست و اعود للسوق حوالي الساعة الثانية ظهرا عز الحر و الشمس مازالت في كبد السماء و ابدأ في البيع و عادة ما اقوم بعملية تخفيض السعر عند حوالي الرابعة و النصف عصرا علي أمل أن اخلص كل البضاعة قبل مغيب الشمس. و للامانة الظَهر ( بفتح الظاء و المقصود المادة الزرقاء التي تستخدم للالوان البيضاء) اكثر هذه السلع ربحا بمعدل الف في المية حيث كنت اشتري كيلو الظهر بحوالي الف جنيه و ابيعه بحوالي عشرة الف جنيه. هذه حياة كاملة بها تدريس و أمل في الغد و معاناة لكن أهم محطاتها هي الرفقة، الرفاق المعلمين و رفاق الحر من الفريشة و لسعات شمس الظهيرة و معانقة الحياة حيث لا تفكير في هترشات تطوير الذات التي تملأ الآفاق هذه الايام، فقط معانقة الحياة بفعل الحياة.
الهدف من هذه المقدمة التي استطالت ليس محض تدوين لفعل الذاكرة من زمن غابر مضي بل ايضا هو التذكير بأنه ليس هنالك فرصة، حسب تصوري، لمشروع النهوض الاقتصادي و الاجتماعي بمعناه الواسع في بلادنا ما مالم يحدث أمرين اضافة الي اشياء أخري: أولوهما ادماج القطاع الاقتصادي الغير رسمي و ادخاله في دورة الحياة الاقتصادية الكلية و جعله قطاعا فعالا به فرص للتوظيف و دافعا للضرائب للدولة، ثانيهما تنظيم هذا القطاع الغير رسمي بشكل قاعدي يخلق منه واحدة من اركان المجتمع المدني الحديث المتجاوز للانتماءآت الأولية من علاقات دم و عقيدة من قبيلة و طائفة و غيرها من ولاءآت تقليدية.
من ناحية نظرية و مدخل فلسفي و مفاهيمي لكي تصبح فكرة المجتمع المدني هي اساس لتنظيم المجتمع الحديث و تحدث عملية الانتقال من الانتماءآت الأولية الي علاقات مصلحة حداثية تؤسس لعلاقات حداثية في مجتمع ما قبل رأسمالي لاحداث النقلة الضرورية من مجتمع تقليدي الي مجتمع حديث قائم علي علاقات المصلحة لا الانتماء الاولي لابد من تنظيم للقطاع الاقتصادي الغير رسمي من فريشة و سواقين شاحنات و درداقات و بائعات اطعمة و شاي علي اساس المصلحة. هذا لا يعني أن هذه القطاعات ليس بها اشكال تنظيم حالية قائمة علي اساس الانتماء و الجغرافيا التي هي اساس أي عملية تكوين بنيوي في مراحله التطورية.
من ناحية عملية، من الأجدي للدولة البدء في تنظيم هذه القطاع و ادماجه في منظومة الاقتصاد الرسمي بدلا من التعامل مع اشكالاته المؤقتة من سوء تنظيم و فوضي و تعدي علي المساحات العاملة بمنظور اداري يقتضي ارسال موظفي البلدية أما لجمع الجبايات و التضييق او لمحاربة وجود الفريشة. منذ فترة وجيزة بدأت الدولة حملات للكشة لتكسير الاكشاك التي تم انشاءها من غير تصديقات و مضايقة لستات الشاي و الفريشة و الباعة المتجولين. تفعل الدولة المختطفة هذا الأمر بدافعين: أحدهما الجبايات و المضايقة و الآخر هو ابعاد و اخراج هذه المجموعات من السوق بحجة حماية مصالح التجار من دافعي الضرائب من اصحاب المحلات، و ما بين هذين السببين وضعية كارتيلات الدولة المختطفة و فكرة الرهينة التي تحكم طريقة عمل الدولة السودانية في السنوات الاخيرة كبنية أجتماعية و حالة ذهنية. قبل ايام طالعنا خبر قيام احد الفريشة بطعن موظف بلدية و قتله، بغض النظر عن فهم الحيثيات لذلك الحادث التحليل البنيوي يخبرنا أن القاتل و المقتول كليهما ضحايا لحالة تشوه شاملة للاقتصاد الكلي و التنظيم الاداري للدولة. هنالك عوامل موضوعية تتعلق بتراجع اقتصاد الريف كعامل جوهري دفع بالعديد من سكان الريف للعمل في المدن و تحديدا في القطاع الغير رسمي و هذا أمر يتطلب تحليل شامل لوحده، لكن جوهر التشوه في الاقتصاد الكلي هو الذي جعل من النشاط الزراعي أمر غير مجدي لمجتمعات زراعية و اقتصاد زراعي تاريخيا.
خلاصةالقول، انني مثل غيري كان يمكن أن اكون ذلك الفريشة الذي تم استهدافه بواسطة جهاز الدولة الذي خلق كل الشروط الموضوعية التي جعلت من استاذ بمدارس الدولة الثانوية من غير مرتب او بائعة شاي او بائعة اطعمة بتأهيل جامعي او ان لم يكن ذلك خيار اي منا لامتهان تلكم المهن، و ايضا هذه الشروط الموضوعية كان يمكن أن تخلق مني او من غيري شخص موظف البلدية الذي حول جهاز الدولة الي مجرد كارتيل خاص به و جعله يعتقد أن مصدر رزقه هو استخدام السلطة لمحاصرة الفريشة و الباعة المتجولين و بائعات الشاي و الاطعمة و تحويلهم الي رهائن. ما لم يتم التفكير في أمر الاقتصاد الغير رسمي بشكل معرفي و اسع و بشكل موضوعي فالتعاطي معه سيكون اما حقوقي قاصر اذ يعتقد أن الأ مجرد حقوق و ان الدولة هي العدو أو اداري متعجل يعتقد أن الحل هو في تطبيق مرسوم ادراي و أن هذا القطاع هو مصدر الضرر، و ما بين هذين التصورين الدولة التي تتلاشي و جهازها الذي يتهالك.
فبراير 13 2023