تعرض السودانيون لنماذج مختلفة من الانتهاكات نتيجة تدهور الأوضاع الأمنية، المواجهة العنصرية، القتل المباشر، وانكسار اهل ذوي الاحتياجات أمام جبروت البزة العسكرية، منذ تفجر النزاع المسلح بين الجيش والدعم السريع، في أبريل الماضي.

ويعتبر كثيرون ان تلك الاستفزازات ليست جديدة على أفراد المؤسسة العسكرية، انما متجذرة في عقيدتها وموروثاتها التدريبية، فيصفون المواطن “بالملكي” “الكهنة” “الدلقون” للتقليل من شأنه، ولا تزال القصص والحكايات تروى عن المواجهات بين المدنيين والعسكريين في المواكب واعتصام القيادة، وهي تجربة ستظل محفورة في ذاكرة الثوار الذين لا يغفرونها أبد الدهر.

الفارون رسموا على مواقع التواصل الاجتماعي عشرات الصور، بكلمات يعتصرها الألم منذ ان بدأت رحلة النزوح القسري، ووثق البعض صور للارتكازات العسكرية بتشكيلاتها المختلفة، يتواجدون بأعداد كبير عند نقاط التفتيش، يصعد أحدهم على الحافلة، يختار عشوائياً بعض الأشخاص، يسأل عن “اثبات الشخصية” في زمن تهاوت فيه سمات الشخصية السودانية، وضاعت ملامحها بين سحب الدخان المتصاعد بسبب المواجهات العبثية. “الشكل، اللون، مكان الميلاد” قد يتسبب في قتلك وقد يعطيك امتيازاً، هذا يعتمد على من يقف في نقطة التفتيش من طرفي الصراع.

 فمن يتواجد بنقطة التفتيش له الحق في نهبك، اذلالك وقتلك- أن دعى الأمر- انزال احد المواطنين من سيارته او الوسيلة التي يستخدمها، وتمتد سلطته إلى التعدي على ممتلكات ومقتنياتك الشخصية، هاتف، أموال، ساعة وكل ما خف وزنه، علاوة علي ذلك سيل الشتائم، الترهيب، الاتهام بالخيانة وعدم الوطنية.

وفي تفاصيل المضايقات روى الكاتب الصحفي والناشط المدني 

عضو نقابة الصحفيين السودانيين صلاح حسن جمعة “دامبا”

“استمرت معاناتي منذ انطلاق شرارة الحرب، اسكن بمنطقة الصالحة مسافة كيلو متر من معسكر الدعم السريع، بقينا بالمنزل لمدة (٤٥) يوما تحت القصف المتبادل بين طرفي النزاع، ازيز الطائرات، دوي المدافع وصرخات الأطفال، تمكنت من اخراج أسرتي النساء تحديدا، حاولت الخروج عدة مرات، لكن فشلت المحاولات، تقطعت بي السبل، فقررت أمد الزملاء الصحفيين بالأخبار والمعلومات عن منطقة الصالحة، وذلك في ظل التعتيم الإعلامي الكبير، اتسعت رقعة الحرب ودخلت الأحياء، احتل الجنود منازل المواطنين، دفعني ذلك الوضع للخروج من المنزل والذهاب إلى منزل أخي الذي لا يبعد مسافة بعيدة عن مسرح المواجهات العبثية.

خرجت مجبرا في الثاني من يونيو ٢٠٢٣، اعتصر الألم ويخفق قلبي بشدة على وطني، لم أتوقع ان أواجه صعوبة عند خروجي، عبرت المدن الثلاثة المكون للعاصمة الخرطوم، كان المخرج المتاح كبري الحلفايا، حتى هذه النقطة عبرت بأكثر من مائة نقطة تفتيش، بملابس عسكرية ومدنية. في إحدى نقاط التفتيش تم توقيفنا من مجموعة ترتدي الزي المدني وتحمل أسلحة متنوعة، تنتمي للدعم السريع، قامت هذه المجموعة بنهب التلفونات اموال الجميع، فقدت كل ما املك، ونجي تلفوني.

تم توقيفنا عند مدخل كبري الحلفايا، لم تكن القوات المسلحة أفضل من الدعم السريع في التعامل، ذات الأسئلة المبنية على الهوية الجغرافية والإثنية، والقبلية، ما هي طبيعة عملك؟ وحتى موقع إقامتك محل تساؤل! يا الله، أصعب المواقف التصنيف الافتراضي، الجيش يعتبرك دعم سريع والعكس، كانت أصعب أربعة ساعات في حياتي من السابعة الي الحادية عشر صباحا.

أضاف “صلاح” الصمت سيد الموقف، الخوف يرسم ملامح الركاب، كل منا يخاف من الشخص الذي يجلس بجواره، تحركت الحافلة من منطقة الفتيحاب، لم يتحدث أي شخص مع الآخر، بين كل مائتين إلى ثلاثمائة متر يوجد ارتكاز، وفي كل نقطة تفتيش يزداد الضغط النفسي، أسئلة مستفزة، كلمات نابية واتهامات مكررة.

أردف “صلاح” تكرر هذا المشهد طوال عمر الرحلة حتى مدينة ربك بولاية النيل الأبيض، عندها قررنا تمضية الليلة هنا، ونواصل الرحلة صوب جنوب السودان من خلال معبر جودة، لم يخطر ببالي ان نشهد ذات المعاملة، عند نقطة التفتيش بمدينة الجبلين، تعاملت معنا القوات المسلحة السودانية بقسوة شديد، كنت اعتقد قواتنا المسلحة سوف تمسح على حزننا، وتواسينا في موتانا بعد الخروج بعيدا عن الخرطوم، لكن تعرضنا لكل أشكال الذل، الاهانة، التفتيش، الإساءات النابية، ثم التهديد لن نسمح لكم بالعودة إلى السودان مرة اخري.

واصل ” صلاح” يروي ” دب الخوف على قلوبنا من جديد، وسألت نفسي متى اطمأن؟ بعد مشقة وصلنا معبر منطقة جودة الأول الذي يقع في حدود جمهورية السودان، انه اخر نقطة تفتيش لكن لم تكن نهاية الذل، تم أخذ جوازاتنا من قبل أفراد استخبارات الجيش السوداني، كان أحدهم يجلس بطريقة مستفزة، يضع رجل على الأخرى، يتحدث بصلف ولغةٍ تهديدية ووعيد بعدم السماح لنا بالعودة مرة اخرى، للمفارقة بصحبتي شخص مقيم بدولة فرنسا، لم يشفع له ذلك، عكس فرد الاستخبارات عدم الاحترام المنهجي.

أردف “صلاح” صمتنا خانعون، مذلولون، انهم يحجزون على جوازات سفرنا، مجبرون دفعنا لهم بعض المال للعبور، دب الخوف الي قلبي وسألت نفسي كيف يكون التعامل في دولة جنوب السودان؟

وقال “صلاح” للأمانة والتاريخ، كان التعامل مختلفا في جودة الجنوب سودانية، مررنا على عدد من المكاتب، يقولون لنا حمداً لله على السلامة، ترحاب، مواساة على المصيبة التي حلت بالسودان، لم نخلص أيضا من دفع بعض المبالغ المالية بغرض العبور، أخيرا اه بحمد الله دخلنا دولة جنوب السودان ولاية أعالي النيل منطقة الرنك، امتلأت المدينة بالنازحين واللاجئين من السودانيين، والإثيوبيين وغيرهم من الجنسيات، لم أحس بالتميز او الغربة، استقبلنا أهلنا بدولة جنوب السودان بصدر رحب، ونجد المواساة بينما نسير في شوارع مدينة الرنك”

يقول “صلاح” واجهنا تحدي جديد، صعوبة الطيران من الرنك إلى مدينة جوبا عاصمة دولة جنوب السودان، حتى الطيران المتوفر، طيران للشحن الجوي وأنه تحدي كبير ان تنتقل مع البضائع، بالرغم ان هناك وعود من اللجان التي تنظم ذلك، نذهب إلى المطار كل يوم وتتعدد أسباب التأجيل بين الازدحام والوزن الزائد، فمكثنا أربعة عشر يوما حتى تمكنا من الوصول إلى جوبا، وصلت جوبا معدم تماما بعد ان تعرضنا للنهب بنقاط الارتكاز (التفتيش) بجمهورية السودان، اشكر من ساعدنا وأطعمنا بمدينة الرنك، ولم يختلف الوضع بجوبا، استقبلونا بحفاوة وكل أفراد المطار طيبوا خاطرنا، لكن تجربة نقاط التفتيش تظل خالدة في ذاكرتي”

أجبرت المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع معظم السودانيين من مغادرة منازلهم، المئات من السودانيين وثقوا لطريقة سفرهم، كل شخص كتب وشارك تجربته في السفر والخروج من العاصمة السودانية الخرطوم، هذه المرة غادر السودان اعداد كبيرة من النازحين الذين اختاروا الولايات والبعض اختار دول أخرى، ولا تزال القصص والحكايات تمطر الاسافير، قوامها الحزن، الألم، الذل والهوان بنقاط التفتيش.