بقلم – محمد فتحي أورفلي
ماحدث في بورتسودان فيما يتعلق بالتلفزيون القومي وحادثة المدير العام والمذيعة التي تطورت إلي اعتصام واقتحام لمباني التلفزيون في الايام الماضية في راي ليس لها اي علاقة باي صراع سياسي او تصفية حسابات شخصية اذا نظرنا الي الامر من منظور اوسع واعمق , يكمن في انه صراع ثقافي ولو تمت معالجته بالطرق الصحيحة ما كان له ان يتطور ويصل الي هذا المستوي,لا نغفل بان الامر له ابعادا تتعلق بإسقاطات فشل خلق مشروع وطني حقيقي وصراعات لم تتوقف منذ ما بعد الاستقلال الي يومنا هذا ,وفعلا قد يبدو الحدث في حد ذاته بسيطا وصغيرا ولكنه فجر مكبوتا تعيشه قبائل البجا في المنطقة منذ بداية الدولة السودانية فكان التعبير بهذه الصورة أكبر واعنف من مستوي الحدث نفسه ويعود ذلك الي اسباب منطقيه سنتناولها بصورة مختصر غير مخلة كما اتمني ان اوفق في معرض مقالي هذا ..
ماجري هو موقف بسيط يحدث في اطار مؤسسة من المفترض انها تمثل الجميع لو تم ذلك في دولة اخري وفي عالم وبيئة مختلفة ولكنه كشف عن عمق الهوة الثقافية بين مكونات شعوب السودان , اعادنا هذا الموقف الي سبب هذه الهوة الثقافية بين مكونات شعوب الدولة السودانيه , فمنذ استقلال الدولة السودانية لم تنتبه الحكومات الوطنية الي هذه المعضلة وحاولت أن تردم هذه الهوة لانها في الحقيقة لم تكن تتعامل مع الملف الثقافي بالجدية المطلوبة , ففي خاطرها ان هذا الملف شبه محسوم لصالح ثقافة معينة وهو ما ادي الي تأزم الموقف بين تلك الشعوب وزاد في شقة البعد ثقافيا بينهم وهو ما ترتب عليه تواجد حالة غربة ثقافية فيما بيننا كشعوب مكونه للدولة السودانية , وهذا بالتاكيد يقودنا الي حقيقة اخري وبعد اخر لا نستطيع ان نفصله عن سياق النقاش لانه يتعلق بواحدةج من اهم الاعمدة التي تقوم عليها الدولة التي كان يجب ان نكون عليها منذ الاستقلال والسبب الذي افضي الي عدم تحقق ذلك هو فشل نخبنا السياسية في التواثق علي مشروع وطني جامع وشامل المواطنة فيه هي الاساس قبل كل شئ …
في محاولة سابقه لمعالجة ازمة التمييز والهوة الثقافيه هذه كانت هنالك محاولات تمت في بخت الرضا ولكنها لم تكن كافية بالرغم من انها كانت خطوه في الاتجاه الصحيح , فترة تواجد الاسلاميين في السلطة عمقت حالة الاغتراب الثقافي لانها كانت تتبني بصورة عقدية ما يمكن ان نطلق عليها الثقافة (الاسلامعروبيه) ولم تكن تعترف بأي ثقافة اخري في اطار مشروعها الثقافي الاجتماعي السياسي ( المشروع الحضاري ) , ادت حالة التوجه الاحادي هذه الي انفجار الازمة بصورة واضحة وصريحة في كل اركان خريطة مكونات الشعوب السودانية, صحيح كانت هناك احتجاجات عنيفة منذ ما قبل استقلال الدولة السودانية ولكنها كانت ترتكز علي مشاريع سياسية تنموية وغالب الظن بأن الصراع الثقافي الذي كان محتدما بين المثقفين السودانيين في الخرطوم سلميا بين اروقة المجال الثقافي لم تكن اقل عنفا من تلك ولكنها كانت علي مستوي الفكر وهو ماكان يجب دعمه والحرص علي استمراره لحين الوصول الي صيغة تتبلور فيها كل الرؤي التي تقود الي وحدة ثقافية تتمثل فيها كل ثقافات المكونات الاجتماعية السودانية بكل عدالة ومساواة فيما بينها .
نعود الي حقيقة انفراد ثقافة بعينها من بين كل تلك الثقافات بتمثيلها لواجهة الدولة السودانيه الحديثه عبر تاريخها وهي ما اتفق علي تسميتها اصطلاحا بالثقافة الامدرمانيه , للحقيقه يعود سبب علو هذه الثقافة لعدة اسباب منطقيه ولها حجتها القويه التي لا جدال حوالها اذا نظرنا اليها بموضوعية بعيدا عن العصبيه الثقافية او الاجتماعية الي سبب رئيسي وذو جذر قوي ومكين يعود في الاساس انتشار الديانه الإسلامية في السودان واصبحت العربية هي لغة التواصل الاولي بين كل المكونات الاجتماعية في السودان وفي غير السودان ايضا بل في كل المناطق من حول العالم التي وصلتها الديانه الاسلامية , ولان الاسلام ظهر في وسط القبائل العربية وكانوا هم من قاموا بنشر الديانة الاسلامية اضافة إلى اللغة العربية هي لغة القران الكريم, اضحت ونالت اللغة العربيه تلك المكانة وتحولت لغة تواصل عالميه بين الكثير من المكونات الاجتماعيه من حول العالم الناطقين بغير اللغة العربية, مرت اللغة العربيه بالسودان الي الكثير من التحورات حتي استقرت الي الدراجة السودانية التي يتواصل بها السودانيين الان بمختلف مكوناتهم الاجتماعية من ذوي اللغات الام المختلفة , كانت ام درمان هي المدينه التي انتجت اخر النسخ الدراجيه للعربي في السودان ويعود ذلك لاحتضانها الكثير من المكونات الاجتماعية السودانية الذين انصهروا في تلك البوتقه وساعد في ترسيخها وبقوة وجود اول اذاعة قوميه ثم بعد ذلك بكثير وجود اول تلفزيون قومي حولتها من مجرد لغة دارجه محلية الي لغة دارجة قوميه يتحدث بها الجميع مع اختلافات في اللهجات بين منطقة واخري , ساعد ذلك في ان تصبح ايضا ام درمان هي العاصمه الثقافيه الاولي في السودان ودمجت الكثير من الثقافات وتحولت الي رمز قومي بلغة تواصل اتفق حولها الجميع بدون اتفاق .
ذلك الانفراد بالرغم من انه كانت له ايجابيات منها وحدة لغة التواصل بين الشعوب السودانية , الا انها كانت لها سلبيات ملموسة ومؤثرة ادت الي حدوث بعد وتنافر وتغيب وتهميش لكثير من الثقافات الاخري الموجودة خارج اطار ام درمان كذهنية لغوية ثقافية حاكمة ومسيطرة , كان من نتاج ذلك احساس تلك المكونات بعدم الانتماء المكتمل لما هو مكتمل في ام درمان العاصمه القوميه الجامعة لكل اهل الشعوب السودانية , تحول ذلك الاحساس مع التراكم الي غبن ثقافي ساعد في ازمة وجود تهميش سياسي تنموي قاد الي ضعف الاحساس بانتماء وطني حقيقي ومتماسك قادنا الي صراع سياسي ثقافي اجتماعي تبلور في صيغة مشروع المركز والهامش الذي لازالت الوطنية السودانية تعاني الهشاشة والضعف في بنيتها بسببه ومن بعض نتائجه المباشرة ما تعيشه بلادنا الان من ويلات حرب مدمرة عجزنا ان نتوحد كسودانيين معا لمنعها من خراب بلادنا ودمارها .
كان الحل السهل والمعالجة الاسهل لهذه المعضلة هو تبني الدولة الوطنيه لمشروع سياسات ثقافيه واضح المعالم يمنح كل ثقافة حقها في الوجود في بنية الدولة الوطنيه الجامعه لكل الشعوب السوانية يقود الي عدم احساس اخر بنقص غياب واغتراب لوجوده الانساني القائم علي وجوده الثقافي في وطنه , لو تبنت الحكومات الوطنيه المتعاقبه منذ الاستقلال لهذه السياسات الثقافية ومنحتها وجودا في مناطقها اولا ثم في المركز الذي يجسد ويمثل الجميع لقادتنا الي اذابة الكثير من مشاعر الغربة فيما بيننا ولصرنا اكثر تماسكا عبر تعارفنا لكل ارث ثقافي مختلف يساعد في سهولة التعاطي والتواصل واذابة التعقيدات فيما بين اخر واخر , ذلك ايضا يقودنا مباشرة الي فشل اخر عجزنا كسودانيين عبر تاريخنا الحديث ان نتوافق عليه وهو ضلعا هام ايضا قبل كل شئ في بنية الدولة السودانية والذي لو تم لكان لنا الان شأن اخر , ذلك هو مشروع الدستور القومي الذي يحفظ حقوق الجميع ويتعامل بعدالة مع الجميع والجميع مواطنيين امامه , هذا الدستور لو كنا قد انجزناه لكان ذلك لينتج لحمة وطنية حقه ذو بنية متماسكة قويه لا شرخ فيها فيها تجد فيها كل الثقافات المختلفه الاحترام والتقدير المطلوب الذي يعزز من الاخر واحترامه وتقديره لنفسه وللاخر ايضا المختلف عنه ولسد ثغرة يستغلها الاعداء دائما للتفريق فيما بيننا ويستخدمها كذريعة لتمرير اجندته التي من المؤكد انها ستكون ضد مصالح الدولة السودانيه .
ختاما اتمني ان نخرج من ازمتنا الحاليه ونحن نملك الارادة والوعي والشجاعة المطلوبة لتصحيح كل اخطاء الماضي ومعالجة كل جذور الازمة السودانية لكي نخلص الي دولة وطنية يجد الجميع فيها نفسه ويشعر فيها بالانتماء الصادق والحق لهذا الوطن و لخلق البنيه واللحمة الوطنية التي ستنهض ببلادنا من كبوتها الي مصاف الدول العظمي كدولة امة تتعايش فيها الشعوب السودانية وهم يملكون احساس وطني موحد ليس فيه احدا يشعر بأنه اقل حظا في الوجود والاحترام والتقدير من الاخر .