تقرير – سلاميديا
منذ أكثر من عقدين لم يشهد الإقليم البالغ مساحته 493,180 كيلو متر مربع هدوء من حروب السلطة او النزاع الإثنو/ قبلي سوى أعوام قليلة، تلك التي عقبت الثورة السودانية في ديسمبر 2018م؛ والتي أفضت إلى توقيع إتفاق جوبا لسلام السودان. بعد إندلاع الحرب في 15 أبريل 2023م بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، عاد إقليم دارفور إلى حالةً من التوتر والصراع الدامي، حيث تسارعت الأحداث بشكل عمّق التعقيدات في السياق الاجتماعي والسياسي.
يهدف هذا التقرير إلى تحليل هذه الأحداث وتوزيعها، وتحديد أبرز الفاعلين والمشاركين فيها، بالإضافة إلى تقديم تحليل للتكلفة البشرية لهذه النزاعات القبلية، ومحاولة فهم عمليات الاستقطاب بواسطة الأطراف المختلفة التي ساهمت في قيام أو تأجيج تلك النزاعات. وكذلك يسلط التقرير الضوء على القوى الفاعلة التي تمد أطراف الصراع بالعتاد والسلاح الذي ساهم وزيادة حدة النزاعات ورقعتها.
يستند هذا التقرير على البيانات التي رصدتها مؤسسة إنسايتس (Insights) ومؤسسات صحفية أخرى بالإضافة إلى بيانات المصادر المفتوحة التي رصدها فريق سلاميديا.
ولأغراض مهنية مرتبطة بحساسية النزاعات، لن يعمل التقرير على إبراز أطراف تلك النزاعات بمسمياتها.
الصراع المسلح
تُعرف مؤسسة (إنسايتس) التي رصدت نشوب 29 نزاعاً قبلياً بولايات دارفور الخمس في الفترة بين أبريل 2023م ويوليو 2024م؛ عرفت الصراع المسلح بأنه “الاشتباك المسلح بين طرفين في وقت ومكان معينين. ويشترط أن تكون أطراف الاشتباك مسلحة، ويمكن أن تكون قوات حكومية أو جماعات مسلحة منظمة لها أجندة أو هوية أو أهداف سياسية تستخدم السلاح لتحقيقها”.
أسباب النزاع المسلح في دارفور
يقول الباحث في المركز الأفريقي للعدالة والسلام محمد بدوي “أن أسباب النزاع نابعة من خلل السياسات العامة التي تتبعها الدولة ولا سيما السياسات الاقتصادية، فالخلل في السياسات الحكومية المتوازنة نتج عنها حالة من الاستقطاب والصراعات بين مكونات علاقات الإنتاج الرئيسية مثل الزراعة والرعي”.
ويمكن حصر بعض أسباب النزاع القبلي المسلح بإقليم دارفور، في التهميش وغياب التنمية وعدم توزيع الموارد بصورة عادلة، صراع الأرض وحيازة الحواكير، تجذر النظام القبلي في الإقليم والأقتصاد السياسي للدولة و إهتمام الدولة بقطاعات إقتصادية محددة .
خلفية عن الصراع في دارفور
تعود جذور الصراع القبلي في دارفور للعام 2003م وتمدد ليشمل عدد من المجموعات القبلية؛ وتعمق اكثر مع الحرب بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع التي بداءت في الخرطوم وامتدت إلى أجزاء واسعة من إقليم دارفور؛ ما انتج أشكالا من الاستقطاب القبلي من قبل طرفي النزاع في جميع ولايات الإقليم الخمس.
الخريطة التالية توضح أماكن قيام النزاعات القبلية/ الإثنية المسلحة في دارفور
غرب دارفور
%u062F%u0627%u0631%u0641%u0648%u0631
يعتبر الوضع الاجتماعي والسياسي في ولاية غرب دارفور هو الأكثر تعقيداً في الإقليم، وبالنظر إلى تاريخ النزاعات التي نشبت في المنطقة نجد أن الصراع بالولاية متباين بين السياسية والقبيلة ـــ اي التوظيف السياسي للقبيلة ـــ وهو ما يؤكده تاريخ النزاع الإثنو/قبلي في الولاية. وصلت الحرب الحالية للولاية بعد تسعة أيام فقط من بدء الحرب في الخرطوم معلنة بداية المواجهات في الإقليم المطرب بفعل الحروب السابقة. فقد شهدت الجنينة نزاع يعد الأعنف في الإقليم، حيث تداخلت فيه أطراف متعددة. وبحسب سلسلة الحلقات التي نشرتها صحيفة دارفور24 فأنه خلال التسعة أيام ـــ وهي الفترة الزمنية الفاصلة ما بين الحرب في الخرطوم والجنينة ـــ شهدت المدينة ثلاث حوادث إطلاق نار متفرقة، كان واضحاً أنها محاولة لإشعال الحريق في المدينة التي ترقد فوق بارود الفتنة القبلية. أختلفت التقديرات حول تعريف ما حدث بالجنينة، إذا يعتبره البعض نزاع إثنو/قبلي قديم متجدد، بينما يرى آخرون أنه نزاع مركب تتحمل أطراف النزاع وحكومة الأمر الواقع مسؤليته. وقد اتهمت منظمات حقوقية قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها بارتكاب جرائم ترتقي لأن تكون جرائم حرب ضد بعض مكونات الولاية. وبإستثناء معركة الجنينة في 25 أبريل 2023م، فأن الولاية شهدت سبع حالات نزاع قبلي، راح ضحيتها (46) قتيلاً وثلاثة جرحى؛ بالرغم من توقيع عدداً من مبادرات الصلح بين مكونات الولاية.
الرسم التالي يوضح النزاع وعدد الضحايا في ولاية غرب دارفور
جنوب دارفور
شهدت ولاية جنوب دارفور16 حالة نزاع قبلي مسلح منذ أبريل 2023 وحتى لحظة كتابة هذا التقرير؛ خلفت تلك النزاعات ما لا يقل عن 558 قتيلاً و 175 جريحاً، لتكون بذلك أكثر ولاية شهدت نزاعات في الإقليم خلال فترة الحرب الجارية. وبحسب دارفور24، اندلعت المعارك بين مجموعتين في (كبم) بمنطقة (عد الفرسان) و (ابوجرادل) الحدودية مع دولة تشاد. كما شهدت كل من منطقتي (أم مرعي) و (وادي قرقش) اشتباكات خلفت النزاعات حوالي 120 قتيلا من جميع الأطراف. وفي 18 نوفمبر 2023م، أندلع قتال في مدينة برام راح ضحيته قرابة الــ 37 شخصاً وتم على أثره حرق سوق المدينة بحسب دارفور24 .
وفي محلية كبم بجنوب دارفور وقع نزاع بين مجموعتين راح ضحيته عدد من الأفراد، ومن الملاحظ أن هذا القتال اتخذ أشكالا أخرى اختلفت بشكل كبير عن سابقاته؛ لإرتباطه بالصراع الدائر بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، حيث أن غالبية أفراد المجموعتين ينتمون إلى قوات الدعم السريع. وذكر موقع دارفور 24 ، أن الأسلحة الفتاكة المستخدمة خرج بها عناصر المجموعتين من صفوف قوات الدعم السريع، في حين استولوا علي بعض آخر من القوات المسلحة أثناء المعارك في الخرطوم و بعض مدن دارفور.
يوضح الرسم تاريخ النزاعات ومناطقها وعدد الضحايا الناتجين عن ذلك
شرق دارفور:
تعتبر ولاية شرق دارفور الأكثر استقرارا في الإقليم منذ بدء الحرب، ولم تشهد الولاية نزاع قبلي خلال هذه الفترة.
وسط دارفور
بالمقابل شهدت ولاية وسط دارفور حالتي نزاع جُرح على إثرها ثلاثة أشخاص ولم يكن هناك ضحايا. وقد شهدت الولاية توقيع إتفاق صلح بين القبائل المتصارعة في محلية مكجر. ومن المعلوم أن الصلح الأهلي بين المجموعتين تم برعاية قوات الدعم السريع بعد أشهر من الحروب المستعرة؛ والآن تشهد المنطقة التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع و حركة وجيش تحرير السودان جناح عبدالواحد محمد أحمد نور استقرارا نسبياً مقارنة بولايات دارفور الأخرى.
الرسم التالي يوضح زمان النزاع والضحايا
شمال دارفور الفاشر
في الفترة من فبراير 2023م وحتى أبريل 2024م، شهدت ولاية شمال دارفور أربع صراعات قبلية مسلحة، راح ضحيتها 45 قتيلاً و49 جريحاً؛ على الرغم من توقيع الإدارة الأهلية وثيقة لضمان التعايش السلمي بمحلية مليط ــ شمال دارفور في يناير 2024م؛ بعد اشتباكات نشبت بين مواطنين وعناصر من القوة المشتركة التابعة للحركات المسلحة التي أعلنت إنحيازها لاحقاً للقتال بجانب القوات المسلحة.
تشهد ولاية شمال دارفور معارك إمتدت لأشهر بين القوات المسلحة والحركات من جانب وقوات الدعم السريع من الجانب الآخر. ونتيجة لذلك الصراع ازدات حدة الاستقطاب بمدينة الفاشر؛ حيث أعلنت مجموعات قبلية بالولاية مناصرتها لقوات الدعم السريع بينما أعلن زعماء قبال اخرى مناصرتهم للقوات المسلحة.
الرسم التالي يوضح عدد النزاعات والضحايا بالولاية
حشد واستقطاب
خلال بحث فريق سلاميديا عن الأسباب والفاعلين الذين أججوا الصراع، أو دعموه أو ساهموا في عملية الإستقطاب لصالح طرفي النزاع، وبحسب تحليل البيانات التي تم جمعها، لاحظنا، أنه منذ بدء القتال في 15 أبريل 2023م، لجأ طرفي الصراع إلى كسب تأييد القبائل لهما، سواء كان ذلك عبر إعلان ولائها ومناصرتها أو من أجل الحشد والاستنفار للقتال في صفه. وقد عملت القوات المسلحة السودانية منذ بواكير الصراع على حشد القبائل في صفها، حيث أعلنت مجموعة من القبائل في 4 مايو 2023م، دعمها للقوات المسلحة في الحرب، ما دفعها أرسال قوافل لدعم القوات المسلحة، أعقبتها في ذات الشهر دعوة وزير الدفاع السوداني لكل القادرين على حمل السلاح للقتال في صفوف الجيش، وتأكدت الدعوة لاحقاً عند إطلاق قائد الجيش نداء التعبئة العامة والاستنفار. وقد استغلت الحركات المسلحة التي أعلنت إنحيازها للقتال في صفوف الجيش، تلك الدعوة بتشكيل ما يعرف بـ (المقاومة الشعبية المسلحة) خاصة في ولاية شمال دارفور. خلص فريقنا في سلاميديا، أن تلك العملية استندت على الدعم القبلي حيث أعلن قائد مجلس الصحوة و الزعيم القبلي، موسى هلال دعمه وتأييده للجيش، وكذلك بعض الإدارات الأهلية من ولاية غرب دارفور.
وبالمقابل فأن قوات الدعم السريع ليست بالأفضل؛ عند اتباعها هي الأخرى ذات نهج القوات المسلحة بأعلان زعامات قبلية من إقليم دارفور في 18 مايو 2023م، تحيزهم ودعمهم لها في الحرب. وهو الأمر الذي أكدته لاحقًا المواقف والبيانات التي خرجت من عدد من القبائل معلنة مناصرتها ووقفها بجانب الدعم السريع.
توصلنا إلى أن عمليات الاستقطاب بواسطة العديد من الأطراف؛ كانت ضمن العوامل التي أدت إلى تفاقم حدة النزاع القبلي لاحقاً، إضافة إلى انتشار السلاح وسط المدنيين بصورة أكبر من أي وقت مضي.
وقد أورد موقع دارفور24 أن الأحداث القبلية التي وقعت في ولاية غرب دارفور، كان لاستخبارات القوات المسلحة ضلعاً كبيراً فيها. أشارت أيضاً في تحقيق، أن النزاع الذي وقع في جنوب دارفور بين مجموعات قبلية تم فيه إستخدام اسلحة وسيارات تتبع لقوات الدعم السريع؛ حيث أن بعض أفراد الدعم السريع عادوا للقتال في صفوف قبائلهم بالعتاد العسكري الذي وفره لهم الدعم السريع.
ضلوع الأطراف الخارجية في إنتشار السلاح
كشفت منظمة العفو الدولية في تحقيقها المنشور في 25 يوليو 2024م، المعنون بـــ (أسلحة جديدة تؤجج النزاع في السودان)، كيف تم نقل الأسلحة الأجنبية حديثة الصنع إلى السودان ومحيطه، في انتهاك صارخ لحظر الأسلحة المفروض حالياً على دارفور.
وأفادت “قد تبين لمنظمة العفو الدولية أن الأسلحة والذخائر المُصنّعة أو المنقولة حديثاً من دول تضم الصين، روسيا، صربيا، تركيا، الإمارات العربية المتحدة واليمن تُجلب بكميات كبيرة إلى السودان، ومن ثم تُحوَّل وجهتها في بعض الحالات إلى دارفور”.
وكانت المنظمة قد حلّلت أكثر من 1,900 سجل شحن من جهتين مختلفتين تقدمان بيانات تجارية، واستعرضت أدلة المصادر العلنية والأدلة الرقمية – ومن ضمنها ما يقارب من 2,000 صورة ومقطع فيديو – تُبين أسلحة حديثة الصنع أو مستوردة حديثًا في السودان، وقالت أن شركات روسية وتركية مثل شركة (سارسيلماز) مُصنّعة الأسلحة الخفيفة الرئيسية في تركيا؛ صدّرت مئات القطع إلى القوات المسلحة السودانية. كما كشف ذات التقرير أن قوات الدعم السريع أستخدمت أسلحة صينية وناقلات جند تعود إلى دولة الإمارات العربية المتحدة.
ويبدو من خلال تحليل البيانات، والنظر إلى حدة الاستقطاب القبلي والمناطقي المتبع بواسطة الأطراف المتقاتلة، أن ذلك السلاح ربما وصل إلى أيدي القبائل وتم إستخدامه في النزاعات القبلية التي وقعت في دارفور .
توصل هذا التقرير إلى أن الحرب القبلية في دارفورمنذ أبريل 2023م وحتى يونيو 2024م حصدت أكثر من 650 قتيلاً و369 جريحاً، وشردت الآف الأسر. بالإضافة إلى إن النزاع الجاري بين الأطراف المختلفة أدى إلى زيادة حدة الاستقطاب، وبالتالي زيادة رقعة واحدة النزاع بين المجموعات القبلية في دارفور. وكما ساهم النزاع في زيادة انتشار السلاح بصور أكبر من سابقتها، رغم حظر الاسلحة المفروض على دارفور إلا إن دول مثل تركيا وروسيا والصين والإمارات لا زالت تمد أطراف الحرب في السودان بالسلاح. ويبدو من خلال تحليل البيانات وتقارير المنظمات الدولية أن السلاح تم استخدامة في النزاعات القبلية التي وقعت إقليم دارفور.