منذ بدء الحرب المستمرة في السودان لـ 16 شهراً بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، خاضت أطراف النزاع جلسات تفاوض متعددة بدأت بمدينة جدة السعودية في 11 مايو 2023م، وقع خلالها الطرفان على إعلان المبادئ الإنسانية، وهو أعلان حمل في جوهره بنود القانون الدولي الإنساني. تبع ذلك توقيع الطرفان على وقف إطلاق نار قصير الأمد في 21 مايو من ذات العام؛ تمت بموجبه تشكيل لجان مشتركة لمراقبته. وفي 7 نوفمبر 2023م صدرت التزامات من الطرفين من بينها اتخاذهم خطوات لتسهيل زيادة المساعدات الإنسانية وتنفيذ إجراءات بناء الثقة؛ بذلت فيها أطراف دولية وإقليمية ومحلية جهوداً لضمان تنفيذ تلك الالتزامات بغية التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار في السودان وانسياب المساعدات الانسانية.
وفي ذلك، دخل طرفا النزاع في محادثات سرية بمدينة المنامة البحرينية وقعا على إثرها وثيقة إعلان مبادئ الحل الشامل. ثم جاءت الدعوة المباشرة من الأمم المتحدة لجولة جديدة من المفاوضات تتعلق بالوضع الإنساني، ثم دعوة الولايات المتحدة للطرفين في جنيف لتوقيع وقف دائم لإطلاق النار. بيد أن جميع تلك الدعوات لم تحقق وقف إطلاق نار في السودان ولا سيما سلاماً ولا استقراراً في البلاد.
في ذات السياق يأتي هذا التقرير لتسليط الضوء على الاتفاقيات والإعلانات التي تم توقيعها بين الطرفين، والمواقف الرافضة والمؤيدة الصادرة عن أطراف الصراع وداعميهم من الجهات السياسية الداخلية، المؤسسات والمبادرات الدولية والإقليمية. وعلى ضوء ذلك يحلل فريق سلاميديا الخطاب الذي يعزز الجهود المبذولة لتحقيق السلام في السودان، وذلك الذي يعرقل تلك الجهود.
دعوات متكررة و واقع مأزوم
منذ بدء الحرب دعت الوساطة السعودية الأمريكية والأمم المتحدة، القوات المسلحة والدعم السريع إلى سبعة جولة من المحادثات، لم تسفر جميعها عن نتائج تؤدي إلى وقف إطلاق نار؛ بل بالمقابل زادت حدة المعارك وتوسعت رقعتها. وكذلك لم تفلح جهود بعض القوى السياسية والمدنية الداعية الى وقف إطلاق النار وايقاف الحرب، رغم التوقيع على وقف إطلاق نار في مدينة جدة 21 مايو 2023م ، بيد أن الطرفان لم يلتزما به، ما أدى إلى تجدد المعارك.
التزامات جدة
حوت التزامات طرفي الحرب التي وردت في إعلان جدة الموقع في السابع من نوفمبر 2023 م، عدداً من البنود؛ ومن خلال قراءة نصوص تلك البنود والبيانات الصادرة عن الطرفين بشأنها وبيانات الوساطة ومقاربته بما يحدث في الأرض، نجد أن البند الأول الذي وقع عليه الطرفان يؤكد على “الانخراط في آلية إنسانية مشتركة بقيادة مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة لمعالجة معوقات إيصال المساعدات الإغاثية”. وهو ما بُنيت عليه مفاوضات جنيف برعاية الأمم المتحدة والتي ناقشت كيفية إيصال المساعدات الإنسانية للمحتاجين.
بينما شمل البند الثاني: تحديد جهات الاتصال لتسهيل مرور وعبور العاملين في المجال الإنساني والمساعدات. وقد حدد الطرفان تلك الجهات، وعلى أثر ذلك شاركت مفوضية العون الإنساني عن الجيش بينما عقد الدعم السريع اتفاقاً مع الأمم المتحدة لإيصال المساعدات الإنسانية عبر الوكالة الدولية للإغاثة والأعمال الانسانية التابعة له.
شمل البند الثالث؛ تنفيذ إجراءات بناء الثقة فيما يخص ” إنشاء آلية تواصل بين قادة القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع”. وقد تمظهر ذلك في اجتماع العاصمة البحرينية المنامة الموقع في 20 يناير 2024 م، الذي جرت أحداثه بصورة سرية، وكان هو الاتفاق الأكثر شمولية من الاتفاقات السابقة. وقد شمل ما توصل إليه وفدي الطرفين في المنامة على بنود سياسية واخرى تتعلق بالإصلاح الأمني والعسكري ونظام الحكم وغيرها؛ كما أمن الاتفاق على إعلان المبادئ الموقع في جدة مايو 2023 م؛ ورغم حظو الاتفاق بتمثيل رفيع المستوى من الطرفين (نائب قائد القائد العام للقوات المسلحة وقائد ثاني قوات الدعم السريع، إلا أنه لم يتم الالتزام به. ونصت الفقرات (أ، ب، ج) من البند الثالث على ” اعادة القاء القبض على الهاربين من السجون”، تحسين المحتوى الإعلامي لكلا الطرفين، تخفيف حدة اللغة الإعلامية، واتخاذ إجراءات حيال الأطراف المثيرة للتصعيد وتأجيج الصراع.
وبالرجوع للبيانات والمعلومات الصادرة عن الأطراف الفاعلة في الحرب السودانية ـــ القوات المسلحة، الدعم السريع والقوى السياسية السودانية اضافة للوساطة الدولية؛ نجد أن تلك البنود لم يتم تنفيذها كغيرها من البنود، وانعكس ذلك على الدعوة الأخيرة لجولة التفاوض التي دعت لها أمريكا في جنيف 14 أغسطس 2023. مثلت هذه الدعوة جدلاً واسعا حول رغبة الأطراف في تحقيق السلام، وقد تباينت فيها الروايات.
جنيف محطة أخرى
كانت جنيف هي أخر الدعوات للتفاوض بين أطراف الصراع الجاري، حيث رحب الدعم السريع بقبول الدعوة وفق بيان على حساب قائدها في منصة إكس، بينما غرد قائد القوات المسلحة أنه تحدث مع وزير الخارجية الأمريكي وأبلغه بضرورة معالجة شواغل الحكومة السودانية قبل بدء أي مفاوضات. والتقي في العاشر من أغسطس الجاري، وفد من الحكومة السودانية بالمبعوث الأمريكي في جدة، الذى حرض القوات المسلحة لاتخاذ قرار مقاطعة المفاوضات توافقاً مع توصية الوفد الحكومي. وبحسب اللقاء الأخير لقائد القوات المسلحة فإنهم مستمرون في المعركة وأن لا سلام في القريب.
القوى السياسية
تباينت آراء بعض القوى السياسية السودانية حول المشاركة في المفاوضات وضرورة تحقيق السلام؛ بينما دعمت القوى السياسية الاخرى والحركات المسلحة المؤيدة للقوات المسلحة الموقف الرافض للتفاوض والداعي إلى الحسم العسكري، متبنيةً دعم توصيات وفد الحكومة الداعي إلى رفض التفاوض. وبالمقابل رحبت تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) بالدعوة إلى المفاوضات وقالت في بيان لها: “ندعو القوات المسلحة وقوات الدعم السريع للبناء على ما تم خلال جولة مباحثات جنيف وتعزيز الثقة باتخاذ خطوة شجاعة بوقف كامل لإطلاق النار والالتزام بوقف العدائيات غير شروط لإعطاء المجال لإغاثة المنكوبين ومجابهة خطر المجاعة وشبح توسع الحرب”.
اتهامات متبادلة
مع تعثر مفاوضات جنيف في إحداث اي اختراق في الوضع السوداني، تبادل أطراف الصراع الاتهامات بشأن مسؤولية فشل المفاوضات؛ حيث اتهم الدعم السريع ما اسمتهم بـ(فلول النظام البائد) في قيادة القوات المسلحة بعرقلة جهود الحل وإفشال كل اتفاق يتم التوصل إليه. وفي ذات السياق اتهم قائد القوات المسلحة وفق حديث في مؤتمر صحفي ببورتسودان، الدعم السريع بعدم جديته في تحقيق السلام وقال بأنه لم ينفذ ما تم الاتفاق عليه في جدة؛ بينما اتهمت الوساطة وفق لقاء للمبعوث الأمريكي الخاص بالسودان (توم بيرلو) الطرف الثالث بعرقلة جهود الحل، وقال في لقائه على قناة الجزيرة أن “عناصر من النظام السابق، واشخاص نافذون لهم مصلحة في استمرار الصراع وظلوا يعرقلون الجهود المبذولة لحل الأزمة في السودان” وفي مؤتمر صحفي عقده سابقاً وضح أنهم لن يتوقفوا عن محاولة تحقيق السلام في السودان، وانهم سيقومون بتطبيق حظر التسليح على أطراف الصراع السوداني، وأن النزاع سيبقى مستمرا ما لم تكن هناك رغبة من الأطراف بإيقافه، متهما طرفي النزاع بعدم الالتزام الكافي بتطبيق اتفاق جدة.
بناء على كل ما سبق؛ لاحظ فريق سلاميديا أن جهات سياسية وكيانات داخلية، تنشط في بث خطاب يهدم أي فرص لتحقيق السلام في السودان، وأن طرفي الصراع ليسو بمعزل عن ذلك الخطاب؛ حيث أنهما وخلال 16 شهرا خاضا سبعة جلسات من المفاوضات جميعها لم تحقق السلام. كما أن الالتزامات التي وقعوها حول احترام القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لم يلتزموا بها، وهو ما أكدته تقارير صحفية وحقوقية أممية، حول ارتكاب طرفي النزاع جرائم بحق المدنيين. وعبر متابعة بيانات الأطراف السياسية السودانية الفاعلة في الصراع، فإن القوى السياسية والحركات المسلحة المؤيدة للقوات المسلحة تتبنى خطاب رافض للسلام ، بينما تذل قوى سياسية اخرى جهود رامية الى تحقيق السلام بدعوة الأطراف إلى الجلوس للتفاوض. جميع هذه المؤشرات تدل على أن تحقيق السلام في السودان يحتاج إلى توافق واسع وعريض يعزز من الخطاب الداعي إلى وقف الحرب، وعبره يتم عزل خطاب الكراهية الذي يحث على العنف وتصعيد القتال.