قراءة في كتاب «قصتى مع أسوأ كارثة في العالم»
السر السيد
الكتابة والقراءة فعلان خلاقان، لكل منهما أسسه وتقاليدة.. ثمة متعة ما تتسرب وأنت تكتب أو تقرأ.. إنها لحظة سحر غامضة ومنعشة تغمر الروح والجسد.. أنا أؤمن بأن للحرف اسرارا وللمداد فيوضات ورجْع وللقرطاس سطوة وصدْع.
وأنا أبحر بين موجة وأخرى، صعودا وهبوطا في كتاب، (قصتي مع اسوأ كارثة في العالم) للصحافي الأستاذ محمود الشين، غمرني ذلك السحر، فلمست الحياة ولمست الموت ولمست الحلم والأمل العريض، وتذوقت الطعم الحنظلي للموت المجاني وللفرص المهدرة.
الكتاب الذى تزيّن غلافه لوحة من أعمال التشكيلية السودانية نجلاء زكريا سيف الدين. لوحة لامرأة تعلو ثغرها ابتسامة عريضة ويشع وجهها صمودا في دلالة – ربما – على أنه وبرغم الحرب والدمار والكراهية قادرون على إبداع الحياة..
صدر الكتاب في كمبالا في أغسطس 2024، ويقع في عدد (253) صفحة من القطع المتوسط .كتب مقدمة الكتاب الأديب والأستاذ الجامعي الدكتور اسحق على محمد.
إلى الكتاب: ثمة فرق ما بين أن يكون العنوان: (قصتي مع اسوأ كارثة في العالم)، وأن يكون: (قصة أسوأ كارثة في العالم)، فالأول يعني أن المؤلف طرفا في قصة الكارثة ليس فقط بحسبانه راويا لها وإنما بحسبانه متدخلا فيها وصانعا روايته المغايرة لروايات الفاعلين فيها أفراد كانوا أم مؤسسات أم دولا.
عناوين وترقيم
فالكتاب الذي يقوم في ترتيب موضوعاته على العناوين والترقيم،(من رقم 1 إلى رقم 76)،تحس وكأن الكاتب ينحت العنوان نحتا وذلك لما تحمله هذه العناوين من جمال وتشويق ودلالات،واليك بعضا منها:(الخرطوم حمالة الحطب/غرام المدينة السلطانية/العيون الدافئة/الشراكة النضالية/الورقة الملغومة/البناء للمجهول/مواجهات عبدالواحد ومناوى/الأدب المجند).
يتخذ الكتاب من (ملتقيات طرابلس “1و2″ الخاصة بتقريب وجهات النظر بين حركات الكفاح المسلح في اقليم دارفور والحكومة السودانية والذى أمّه حكوميون وممثلون للحركات وشخصيات عامة وصحافيون)، يقوم أى الكتاب على أربعة روافع إذا جاز التعبير،الأولى : ما يقع ضمن دائرة ما يعرف بأدب الرحلات والثانية الثقافة و”الفنون” والثالثة السياسة والرابعة الإحالات المرجعية بمعنى تعددية المصادر.
في الرافعة الأولى “أدب الرحلات”،نقف في الكثير من الأحيان على وصف للطقس وعلى ذكر لبعض أنواع الأطعمة وأسماء الشوارع وبعض المعالم في البلد المضيف “ليبيا”، أو في إمتداد اقليم دارفور الرحب المجال الحيوى للكتاب،فعلى سبيل المثال جاء في الكتاب ص120 : (قولو التى ترقد كعروس متعبة على سهل منبسط-تنحدر قليلا باتجاه الشمال والغرب ويسند ظهرها من الناحية الشرقية أعلى مرتفعات جبل مرة – 3 ألف قدم فوق سطح البحر-اسمه “اوه فوقو” وتعنى جد الجبال بلغة الفور – وباتت تلك المنطقة تنافس لبنان في انتاج أجود أنواع التفاح في العالم.
وفى الرافعة الثانية (الثقافة والفنون)،نقف على سبيل المثال على قول المؤلف : (أن العامل الحاسم في تغذية الروح القتالية لتلك المجموعة التى عرفت بالشراسة هو طبيعة “الأدب المجند” من إنتاج بنات الزغاوة فقد كان له تأثير السحر في رفع معنويات المقاتلين والشاهد إن قوة المنتج الفنى تعدت مسألة القتال نفسه الى حشد المزيد من الشباب للإلتحاق بصفوف الحركة الوليدة .. إذا كانت المنتج الفنى لبنات الزغاوة قاسيا بحكم نشأتهن في بيئة صحراوية صعبة وجافة فإن الفوراويات قدّمن منتجا هو من روح الطبيعة ومن رحيق جبل مرة حيث مناخ البحر الابيض المتوسط ويمكن مطالعة ذلك في انتاج الفنانة الكبيرة الراحلة (مريم أمو)،فالصوت الحنين المسافر بدهشة الفرنقبية ألهب مشاعر الشباب وحولهم الى ما يشبه الوحوش الكاسرة).ص114.
وفي الرافعة الثالثة (السياسة) والتى نقصد بها،الكيفية أو الموقع الذى نظر من خلاله المؤلف للوضع في دارفور بكل تشابكاته وتداخلاته،بهدف تقديم قراءة لحدث ما أو واقعة ما من وجهة نظر تتوسل السياسية بمستوياتها المختلفة.. سنقف هنا على سبيل المثال على : (إن رفض حكومة الخرطوم للتسوية السلمية التى أنجزها الفريق إبراهيم سليمان مع تلك الخلية “خلية جبل مرة” ينبئ عن رغبة في عمل آخر هو العنف وأى عنف…انه عنف الدولة التى ألغت الواجب المقدس لقواتها النظامية وإستعانت بالمليشيات التى كانت هى الأخرى بارعة في تنفيذ الحملات الإنتقامية مع أن ما يجمع المكونات الإجتماعية هو أكبر مما يفرقها،لكنهم الأشقياء كعادتهم دوما يفرقون بين شركاء المصير الواحد بإتفاق جنائي مكتمل الأركان) .ص159-160.
رجال المخابرات
وقد حفل الكتاب في هذه الرافعة بأسماء الكثير من السياسيين السودانيين وغير السودانيين وبأسماء رجال المخابرات من الدول ذات الصلة بملف دارفور وحضرت فيه أريتريا وإحتلت فيه ليبيا موقعا مركزيا عزاه الكاتب لأهدافها الإستراتيجية في الإقليم ولبحثها عن دور إستثنائي في القارة يرفع من مقامها دوليا.
أما الرافعة الرابعة : (الإحالات المرجعية فسنقف فيها على الكثير من الكتب السودانية والعربية والأجنبية وعلى الكثير من الوثائق المكتوبة،كمسودة كتاب “قصور الشوك مع انتنوف” للمفكر محمدين سليمان جار النبى رجل اللجان الثورية وعضو حركة تحرير السودان،وعلى الكثير من المصادر الشفاهية والإفادات الشخصية وهذا إن دل على شئ انما يدل على مثابرة المؤلف وصبره على جمع مادة الكتاب ولعل ما يشير لهذا هو غزارة المعلومات وتنوعها التى نضح بها الكتاب.
جاء في الكتاب : (حكى لى الأستاذ أحمد قرشى آدم وهو أمير للحركة الإسلامية بجنوب دارفور خلال العشرية الأولى للإنقاذ وتقلد بعد ذلك عدة مناصب تنفيذية : ”إن اكثر ما أضر بتجربة حكم الإسلاميين للبلاد هى التقارير الملفقة والكاذبة لأنها أفسدت الممارسة وأخلّت بالتقييم”)ص158-159.
وعلى مستوى الكتب على سبيل المثال لا الحصر أحال الى كتاب ذوالنون التجانى : ”دارفور حقيقة الثورة والإبادة 2009″ : (لا يتفق ذوالنون التجانى مع ما أورده الدكتور خليل رئيس حركة العدل والمساواة : إن وجود الحركة على الإرض كان فاعلا ومؤثرا ..اذ يقول : حركة العدل والمساواة لم يكن لها وجود عسكرى يذكر حيث لم يتجاوز عدد عناصرها أصابع اليد الواحدة حتى دخول الفاشر . لكن بسبب إتفاق أبّشى والرفض الذى قوبل به خرج عدد من مقاتلى حركة تحرير السودان وانضموا إلى حركة العدل والمساواة وبذلك تكونت أول قوة مقاتلة لحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل عبدالكريم ومحمد موسي ومحمدصالح حربة).ص71.
أشير أولا الى أن هذه الروافع الإربعة التى اقترحناها كمداخل لقراءة الكتاب حافلة بالأمثلة الكثيرة والمبهرة ولكننا هنا نقدم قراءة لا تلخيصا للكتاب،وأشير ثانية الى أن هذه الروافع الأربعة تتناسل في الكتاب ويدعم بعضها بعضا عبر أسلوب إستخدمه الكاتب هو (أسلوب السرد)،فقد وقفنا كثيرا في هذا الكتاب على توظيف الأسلوب القصصى في سرد الوقائع أو في الكتابة عن بعض الشخصيات كما في كتابته عن (مبروك) رجل المخابرات الليبية كما في صفحة 24.
ما أود قوله هنا: هو أننى لا أرى غضاضة في إستخدام أسلوب أو طريقة السرد في مقاربة موضوع سياسي بالأساس لا تقوم الكتابة فيه بالضرورة إلا بالإستناد على المعلومة الصحيحة الموثقة،ولكن من قال إن السرد بالضرورة يقوم على الخيال المحض ولا ينهض على المعلومات الصحيحة أو على الأحداث الماثلة في الواقع؟؟؟
وها هو السرد قد صار الآن قابعا حتى في نسيج كتابة المؤلفات ذات الصلة بما يعرف بالعلوم الطبيعية كالفيزياء مثلا. لكبر الكتاب وتنوع موضوعاته وتداخلها وهو يقارب موضوعا معقّدا هو (حرب دارفور)،يقاربها على مستويات التاريخ والثقافة والسياسة والموارد مشيرا لما خلفته من كوارث في الحرث والنسل ومتعرضا للفاعلين فيها من حكومة وحركات واستخبارات وأدوار اقليمية ودولية ونساء.
أفكار ورؤى
سأقدم في ختام هذه القراءة العامة،بعض الأفكار والرؤى التى إشتمل عليها الكتاب،إذ يمكن الخروج بالمقولات أو الفرضيات الاتية :
1/سعى نظام الإنقاذ إلى (صناعة دارفور) خاصة به وفق متخيله ورؤية مشروعه لذلك فشل في إدارة هذا الملف.
2/عمل نظام الإنقاذ وبهمة عالية على تسييس النظام الإهلى في دارفور،بل وفى السودان كله.
3/هناك غياب لفضيلة التواصل بين القيادات الدارفورية مما أفرز آثارا سالبة على القضية.
4/هناك (فاقد سياسي) يصر على أن يكون له دورا ولو على حساب القضية فكانت أضراره بليغة.
5/لعبت الثقافة ومنها الفنون بالطبع دورا سالبا وذلك بتجييش الشباب ليس فقط في سياق المقاومة وإنما إيضا في الحروب التى خاضتها الحركات في ما بينها.
6/دعا المؤلف إلى ضرورة تمكين ما أسماه بالسلطة الثقافية فهو يرى أنها الأقدر على بناء التعايش.
7/إفترض إنه هناك غيابا لما أسماه ب(المشروع الشبابى)،وذلك عند إشارته للأجيال الجديدة في دارفور التى تربت في المعسكرات وأصبحت منقطعة كما يرى عن الوطن الام،بل وحتى عن محيطهم الدارفورى.
8/أشار الى ضرورة إستيعاب الخصوصية الإجتماعية والثقافية لدارفور في السياسات الكلية للبلاد.
9/دعا إلى ضرورة تصميم خطاب إعلامى تصالحى وموضوعى وحر فهو يرى أن من ضمن الأسباب الأساسية لتفاقم أزمة دارفور الطريقة التى إتبعها إعلام الانقاذ في تغطية الازمة. 10/يرى ان تركيبة الذين شاركوا في مؤتمر طرابلس شابتها الكثير من النواقص. 11/حمّل الدور الليبى بعضا من إخفاقات عمليات سلام دارفور.
12/دعا إلى تمكين ما أسماه بالمشتركات الوطنية والقيم السودانية المتفق عليها.
13/إفترض أن ثورة ديسمبر كانت لحظة حاسمة كان يمكن البناء عليها،مشيرا إلى الشعار الذى هتفت به جماهير الثورة : (يا عنصرى مغرور..كل البلد دارفور).
أخيرا وليس آخرا،هذا سفر غزير المعلومات وبإستطاعته أن يضع القارئ/القارئة وبرفق على ملابسات وجذور الأزمة (الكارثة)،من الألف إلى الياء مع ربطها بالسياق الوطنى العام،ولكن قبل هذا كله فهو سفر ممتع يتبدّى فيه الجهد فصيحا وتتفجر منه العواطف جيّاشة .. إنه كتاب يدخلك في طقس القراءة من (أضيق ابوابها)،إلى أوسع نشوتها وشجنها.
#دارفور #محمود_الشين #الكتابة_السودانية