تقرير: سلاميديا: فريق التحرير
بعد مرور أكثر من ثمانية عشر شهرا على الحرب المدمرة في السودان، لايزال الكثير من السودانيين صامدين في مناطق النزاع المتلهبة، يستقبلون يومهم بدوي القذائف المتفجرة واحتمالات الاقتحامات المسلحة والاشتباكات العنيفة.
“حياة الحرب” هكذا يقول الشاب أمجد تاج السر، ويضيف: “نعم، أحيانا تكاد تجن، ولكن لابد من المقاومة ما دامت لا تزال حياً”.
ويتابع أمجد في حديثه لـ”سلاميديا”: في الأشهر الأولى للحرب لم نكن نفعل شيئا سوى الالتقاء في الشارع عند الأركان وزوايا المحلاب التجارية، نتناقش ونتحاور مؤملين أن الحرب قريبا ستنتهي، إلى أن فهمنا أن الأمر قد يطول أمده، وحينها كانت المعارك أخذت شكلا آخر وأصبح حتى خروجنا للشارع مخاطرة قد تعرضك للموت.
يقطن أمجد في حي أمبدة في أمدرمان غرب العاصمة السودانية وهي منطقة تماس بين الجيش وقوات الدعم السريع، إذ نادرا ما تشاهد الحافلات وهي تنقل المواطنين لخطورة الوضع الأمني ولا يمكنك الحصول على خدمة الإنترنت بانتظام إلا باللجوء إلى محلات تقدم الإنترنت الفضائي “ستارلينك”.
عندما اندلعت الحرب كان أمجد على أعتاب الذهاب إلى كلية القانون جامعة الخرطوم التي تقع مبانيها وسط العاصمة السودانية الخرطوم التي تشتعل فيها المعارك وأغلقت الجامعة ونقلت بعض الأنشطة الأكاديمية إلى الولايات الآمنة نسبيا.
حلول للمقاومة
يقول أمجد: مع الحصار وكآبة الحرب المتمددة في كل يوم أكثر كان لابد من اجتراح سبل للمقاومة وخلق حياة بديلة أو مناقضة لما يجري، تحصننا ولو وعيًا”.
في الشهر السابع بالضبط للحرب لجأ أمجد إلى صديقه تاج الدين، وهو طالب جامعي أيضا يدرس الآداب في جامعة أمدرمان الإسلامية المغلقة بدورها جراء الحرب.
ويقول تاج الدين لـ”ـسلاميديا”: حين طرح علي أمجد فكرة “المقاومة الثقافية” بدا لي الأمر ساخرا ويتناقض مع وضع الرعب الذي نعيش فيه، لكني بعد تفكير وجدت أن فكرته مفيدة جدا وقد تساعدنا كشباب في تجاوز حالة التبلد والتعطل والخوف التي نحياها.
مكتبة جماعية
قال أمجد لأصدقائه من أبناء الحي، بعد أن كسب تاج الدين إلى صفه “لماذا لا ننشئ مكتبة جماعية على غرار المطابخ الجماعية؟ هناك يتوفر غذاء الجسم وهنا نوفر غذاء للعقل والروح ونبني وعيا مقاوما لما يحدث”.
ضحك أمجد وهو يسرد لـ”سلاميديا” تفاصيل ما سماها بالمفاوضات الطويلة مع أبناء الحي والأصدقاء حول فكرته ويقول: استمر الأمر لأيام طويلة، البعض سخر منا وقال لنا بالواضح “الناس في شنو وانتو في شنو؟” أما البعض الآخر فبدا ذاهلا غير مدرك لما يفعل حقا. ويستدرك بالقول: لكن في النهاية استطعنا كسب مجموعة صغيرة كانت النواة الأولى للمكتبة الجماعية.
حارات أمبدة
منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل العام الماضي، هيمنت قوات الدعم السريع على مناطق واسعة من مدينة أمدرمان شمال الخرطوم، من ضمنها محليات أمبدة بحاراتها المتعددة، وخلال الفترة الممتدة من بداية الحرب وإلى الآن واجه سكان هذه الحارات أهوالا كبيرة، أقلاها المعارك المتجددة بين الجيش والدعم السريع في محاولة كل منهما السيطرة على المنطقة، إضافة إلى حالة السيولة الأمنية التي ضربت المكان وجعلت الجميع عرضة للقتل والنهب، وأخيرا واجه سكان حارات أمبدة قلة الغذاء وانعدام الكهرباء وبالطبع الحرمان من الحركة والعمل، فالمخاطر تحوط الجميع من كل مكان.
قراءة ونقاش
بدأ مشروع المكتبة بجمع الكتب من أبناء الحارة، على كل شخص أن يتبرع بالكتاب الذي يراه. يقول تاج الدين: لم نتوقع بالطبع أن نجمع كتبا كثيرة، لكن فوجئنا بعدد المتبرعين، ليس من الشباب فقط ممن كسبناهم، بل من الآباء والأمهات، الذين ربما رأوا أن الفكرة تشكل حماية ما لأبنائهم قد تبعدهم من إغراءات الانخراط في القتال لصالح أي من الطرفين أو من الوقوع في فخ الحبوب المخدرة وتعاطي الخمور.
حوّل أمجد غرفته الخاصة في منزلهم إلى مقر للمكتبة، بالتعاون مع الأصدقاء جلبوا بعض الكراسي، وصنعوا قوائم خشبية لحمل الكتب. الباب مفتوح يقول أمجد، ويضيف: في أي وقت يمكنك الدخول واستلاف الكتاب الذي تريد، أو بإمكانك البقاء في المكان وقراءة ما تود، لن يمنعك أحد فالمكتبة جماعية وليست حكرا على أحد.
يستلم تاج الدين دفة الحديث ويتابع: إلى جانب ذلك نظمنا جلسة أسبوعية، لمن أراد، لقراءة ومناقشة كتاب نحدده بالإجماع. في هذه الجلسات وعلى مدى الأشهر الماضية ناقشنا عشرات الكتب في مختلف ضروب المعرفة، ولا زلنا في الدرب سائرين رغم المخاطر وأصوات الرصاص واقتراب المعارك من المكان.
تلك هي أمبدة، منطقة صغيرة وغير مرئية في خضم الحرب المنسية الدائرة في السودان، وهنا بشكل ما قاوم شباب في مقتل العمر القبح والدمار بمحاولة صغيرة لبذر الوعي والاستنارة.
#أمبدة #مكتبة_جماعية #حرب_السودان