ثبت عبر تاريخ التجربة الإنسانية الطويل، إن الانتهاكات التي تقع وسط المدنيين هي السمة الأبرز للكثير من الحروب؛ وتتنوع الانتهاكات متخذة أشكالاً مأساوية، تتجلى في أقصى صورها بأن تسلب الإنسان حقه في الحياة. إن الحرب الحالية في السودان تظل شاهداً قوياً على مدى فظاعة هذه الإنتهاكات خاصة في دارفور. فقد شكلت ممارسات طرفي الحرب كالإعتقال  دون سند القانوني، التعذيب الذي يحط من كرامة الإنسان إلى القتل، واحدة من أكبر الكوارث التي شهدتها الإنسانية مؤخراً. مما لا شك فيه، أنه كلما طال أمد الحرب، زادت معدلات الانتهاكات، وتنوّعت أشكالها، وتعقّدت سبل حلها. كان للمدنيين في دارفور النصيب الأكبر من الإنتهاكات مقارنة ببقية أقاليم السودان، بحكم تطاول أمد الحرب فيها منذ 2003م. إن الاعتقالات التعسفية، الاحتجاز بغير سند قانوني، الاختطاف والاختفاء القسري؛ باتت وكأنها جزء من الحياة اليومية في دارفور. وصاحبت تلك الجرائم التي يرتكبها أطراف الحرب عمليات تعذيب وتجويع أدت إلى وفاة أعداداً مقدرة من الضحايا داخل السجون والمعتقلات.

في تقارير سابقة رصد فريق سلاميديا أكثر من 271 جريمة اعتقال قامت بها أطراف الحرب ضد المدنيين في ولايتي شمال وجنوب دارفور، ولاحقاً ارتفعت حصيلة المحتجزين في جنوب دارفور الى 353 شخصاً نتيجة لتطبيق قانون الطوارئ الذي فرضته الإدارة المدنية بالولاية. هذا التقرير يسلط الضوء بشكل خاص على التعذيب والموت المصاحب لعمليات الإعتقال بواسطة أطراف الحرب.

التعذيب حتى الموت

لم تكن عمليات تعذيب وقتل المعتقلين، محصورة على ولايات دارفور فحسب، بل شملت نطاقاً واسعاً من المناطق التي انتقل إليها الصراع؛ إبتداءً من العاصمة الخرطوم، الجزيرة، سنار، كردفان الكبرى وأجزاء من ولايتي القضارف والنيل الأزرق، بناءً على ما أوردته هيومن رايتس ووتش بذكرها، إن “القوات المسلحة السودانية، قوات الدعم السريع، والمقاتلين التابعين لهم، أعدموا بإجراءات موجزة أشخاصاً أثناء احتجازهم دون محاكمة، وعذبوهم، وأساءوا معاملتهم، ومثلوا بالجثث”. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تمثلت تلك الانتهاكات في تصفية أكثر من 462 مواطناً على أيدي القوات المسلحة بعد اعادة سيطرتها على مدينة الدندر بولاية سنار، علاوة على وفاة مهندس البترول/ مساعد محمد أحمد، داخل معتقلات استخبارات القوات المسلحة بولاية غرب كردفان جراء تعذيبه بمعية زميله حبيب آدم دبة، الذي تم الإفراج عنه بحالة حرجة نتيجة للتعذيب.

وجراء الاعتقال بمكاتب جهاز المخابرات العامة بمدينة كسلا في مارس الماضي، قتل الشاب الأمين محمد نور، بسبب التعذيب، بعد أن جرى اعتقاله في إحدى قرى الولاية أثناء قدومه من ولاية الجزيرة التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع. وكما أن هناك دعاوى مفادها أن قوات الدعم السريع  احتجزت 20 فتاة بجانب أطفال وكبار سن لمدة خمسة أشهر في مساحة محدودة بمنطقة أمبدة بأم درمان. وبحسب وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل الحكومية، فإن المحتجزين حرموا من أبسط الاحتياجات ومنعوا من التواصل الخارجي وعاشوا أوضاعاً إنسانية وصفتها الوحدة بالصعبة. أما ولايات دارفور فكان لها نصيب وافر من الموت والتعذيب في معتقلات أطراف الحرب.

غرب دارفور

إبان اشتداد المعارك في ولاية غرب دارفور بين القوات المسلحة ضد قوات الدعم السريع والمجموعات المساندة لكليهما، شهدت الولاية انتهاكات واسعة النطاق. ويروي حمادة عبدالله هارون أحد الذين تم اعتقالهم في ذات اليوم الذي سيطرت فيه قوات الدعم السريع على قيادة القوات المسلحة بمدينة الجنينة، أنه تمكن من الفرار بعد اعتقاله برفقة سبعة آخرين. كاشفاً عن وجود نحو 100 معتقل في المكان الذي احتجز فيه بينهم 64 طفلاً. وأشار هارون، الى أن بعض المعتقلين ماتوا داخل المعتقل نتيجة للتعذيب، بينما أُطلق سراح بعضهم عن طريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بينما تمكن بعضهم من الهرب إلى الحدود التشادية.

وقال حمادي أحمد آدم (36) عاماً، إنه تم اعتقاله ضمن 20 آخرين في نوفمبر 2023م، بواسطة قوات الدعم السريع، منوها إلى أنه تمت تصفية 17 منهم وتبقى هو وثلاثة آخرين من بينهم طبيب. وأضاف “لقد تعرضنا لاعتداء جسدي لدرجة أن بعض المعتقلين فقدوا القدرة على النطق من شدة الألم”. يقول حمادي أنه رأى جنوداً من هذه القوات يقومون بفقء عيني أحد المعتقلين بآلة حادة. ووفقًا لتقرير صادر عن الأرشيف السوداني تحقق منه موقع بيم ريبورت فقد احتجزت قوات الدعم السريع مواطنين في منطقة اردمتا بمدينة الجنينة في يوم 4 نوفمبر 2023م، وتعرض بعضهم للتعذيب بالضرب والركل والإهانات اللفظية والتهديد بالقتل، وأشار التقرير إلى أن بعضهم قتل ودفن في مقابر جماعية. وكذلك أشار التقرير الصادر عن ريليف ويب (Reliefweb) نقلاً عن مفوضية العون الإنساني الحكومية، أنه تم التعرف على 80 طفلاً من بين ما يزيد عن الـ 700 محتجزاً بواسطة قوات الدعم السريع في ولاية غرب دارفور.

ولاحقاً أبلغت مصادر عن وفاة امرأة كانت محتجزة في معتقلات قوات الدعم السريع بقرية أبوشجر بمحلية سربا بولاية غرب دارفور، بعد تعرضها للتعذيب، على خلفية اتهام اثنين من أبنائها بالانضمام إلى القوة المشتركة للحركات المسلحة.

جنوب دارفور

قبل يوم من فرض قوات الدعم السريع سيطرتها الكاملة على مدينة نيالا، كشفت أنها تمكنت من تحرير 15مواطناُ كانوا معتقلين في قيادة سلاح المهندسين التابع لقيادة الفرقة 16 مشاه، وذكرت انها وجدت المعتقلين محرومين من الأكل والشرب. وأكد ثلاثة من المعتقلين المفرج عنهم، أنهم تعرضوا للتعذيب من قبل القوات المسلحة وحرموا من الأكل والشرب. وقال دكتور فضل الغالي، الأستاذ بجامعة نيالا، الذي اعتقلته استخبارات القوات المسلحة وقضى 20 يوماً متنقلاً في عدة معتقلات داخل قيادة الفرقة، في تسجيل فيديو حصل عليه موقع سلاميديا أنه كان مع حوالي 68 معتقلاً في غرفة واحدة؛ توفي ثمانية منهم داخل المعتقل جراء التعذيب. بينما لقي المواطن عبد اللطيف إدريس كركاج، مصرعه بسبب التعذيب داخل معتقلات قوات الدعم السريع، بمنطقة الردوم الحدودية مع دولة جنوب السودان.

شمال دارفور

نشر راديو تمازج تقريراً عن اعتقال عشرات المدنيين بواسطة قوات الدعم السريع بمدينة الفاشر، لكنه وثق لعدد 18 معتقلاً توفى منهم ثلاثة جراء التعذيب الذي تعرضوا له، والظروف القاسية داخل المعتقلات. وقال ضابط شرطة تم اعتقاله مع اثنين من افراد أسرته، إنه اضطر للاعتراف بأنه ضابط، بعد أن مشاهدته قطع أذن شقيقه الأكبر أثناء الاستجواب بحثاً عن هوية الضابط بينهم. واشار الى ان المعتقلين يتلقون خلال اليوم كوبا أو كوبين من الماء ووجبة واحدة، الأمر الذي تسبب في وفاة عدد منهم جراء الجوع والعطش والأمراض المزمنة. ولقي الناشط الطوعي عبد الرحمن الهادي عدلان مصرعه في معتقلات الدعم السريع في مدينة كبكابية بشمال دارفور، وقال شقيقه، إن عدلان تعرض لأنواع من التعذيب أثناء الاعتقال مثل الطعن بآلة حادة والجلد بالسياط وكسر عنقه.

وروى ناجون قصصا مروعة عن معتقلات القوة المشتركة للحركات المسلحة بالفاشر، وذكر مفرج عنه بعد 47 يوماً من الاعتقال، أنه شهد وفاة سبعة معتقلين داخل الغرفة التي كان محتجزاً بها جراء التعذيب والجوع والمرض. وكشف ضابط شرطة عن وفاة الشرطي عبد المعز جمال الدين في معتقلات الحركات أيضاً جراء التعذيب. 

تداولت مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر عناصر من منسوبي القوات المشتركة يحققون مع شخصين (معلقين من أرجلهم)  وينهالون عليهما ضرباً بالعصي لإجبارهما على التحدث، وبالرغم أن الفيديو يفتقد لأي معلومات عن مكان الاعتقال الا ان سودان وور مونيتور رجحت أن يكون من مدينة الفاشر.

وسط دارفور
رصد المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام اعتقال أربعة أشخاص بمدينة زالنجي عاصمة وسط دارفور من قبل قوات الدعم السريع وهم (المعلم/ آدم حسن 28 عامًا، المدرس بالمرحلة الثانوية السيد عثمان 49 عاماً، المدافع عن حقوق الإنسان ناجي الدين الزبير خميس 45 عاماً، والماحي والمدافع عن حقوق الإنسان موسى أحمد بوش 29 عامًا) وأبدى المركز مخاوف بشأن السلامة الجسدية للمحتجزين، وأشار الى أنه وثق حالات تعذيب وإساءة معاملة ضد المحتجزين.

إن الرصد الذي قامت به سلاميديا لعمليات التعذيب والقتل التي طالت المدنيين في ولايات دارفور يظل نقطة ضوء صغيرة في ظلام دامس من الانتهاكات المتنوعة، مع صعوبة رصدها جميعاً؛ لكن بالرغم من ذلك، فإن ما تم الكشف عنه وحده، يجعلنا نصف ما يحدث من إنتهاكات بأنه يرقى لجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية. هذه الإنتهاكات تتجاوز حدود الأطر القانونية والدستورية، لتصبح بمرور الوقت ألغام باقية في تربة مجتمعات دارفور لأجيال طويلة. إن جميع أطراف النزاع في محل إدانة لارتكابها جملة من الفظاعات بلا استثناء، فقد تختلف كماً وحجماً؛إلا أنها نوعاً تظل هي نفسها. 

لقد أصدرت المؤسسات الدولية المختلفة قرارات عديدة عديمة الجدوى، بشأن اللحاق بمرتكبي الجرائم. اليوم والحرب تتقدم نحو عامها الثالث، تضاعف حجم الانتهاكات،وزادت على أثره عمليات التهجير. نعيد ندائنا للمجتمع الدولي والإقليمي بحكم المسئولية الإنسانية، إلى ضرورة الضغط بكل السبل لحماية المدنيين في دارفور والسودان.