سلاميديا: جوبا
في أكتوبر 2023، وبينما كانت الحرب في السودان قد دخلت شهرها السابع، وبعد أن تضرّرت عموم القطاعات والأنشطة الثقافية بشكل بالغ، خصوصاً في العاصمة الخرطوم، كانت هناك محاولات من مثقفين وكتّاب وناشرين لاستعادة ما تبقّى وعدم الاستسلام للأمر الواقع. ومن مدينة جوبا، عاصمة جنوب السودان، جاءت المبادرة هذه المرّة بانطلاقة دار نشر حملت اسم “الموسوعة الصغيرة للطباعة والنشر والتوزيع”، وهي “مؤسسة مُستقلّة متخصّصة في مجالات الأدب والعلوم الإنسانية والترجمة؛ وتعمل على تكريس جهودها للتنافس في تقديم أفضل المنشورات في المجالات المعرفية المختلفة”، كما يقدّمها مديرُها العام، أحمد يعقوب.
ويتابع: “جاءت فكرة الموسوعة من خلال قراءاتنا لواقع دُور النشر والمحتوى الذي تُقدّمه؛ فبعض الدُّور تحوّلت إلى ما يمكن أن نطلق عليه ‘مكان لطباعة الكتب’، دون الاهتمام بالمحتوى المعرفي الذي يتم تقديمه للقارئ؛ ونعتقد أن ما تقدّمه مؤسسات النشر للقارئ هو مسؤولية أخلاقية ومعرفية، إذ يجب الارتقاء بالقارئ من خلال تقديم محتوى معرفي يُضيف لعامة جمهور القرّاء ولا يكون خصماً عليهم؛ وأرجو ألّا يُساء فهمي حيث إن هنالك أجيالاً ستقرأ ما نطبعه وننشره وهذه مسؤولية كبيرة جدّاً”.
وعن سبب اختيار جوبا لتكون مقرّاً لـ”الموسوعة الصغيرة” يقول أحمد يعقوب لـ”العربي الجديد”: “بعد اندلاع الحرب في السودان في الخامس عشر من إبريل 2023، تعرّضت كلّ الدُّور لعملية نهب واسعة وإتلاف وإحراق للكتب، بل وصل الأمر إلى حدّ تخريب الذاكرة الوطنية السودانية وضياع أرشيفات ومؤلفات مهمّة. اختيارُنا لجوبا هو اختيارٌ مدروس لعدّة عوامل؛ فالسودان وجنوب السودان كانا دولة واحدة، وظلّت الدولتان ما بعد استقلال جنوب السودان عام 2011، تتقاسمان الموارد المادّية والثّقافية، وهنالك حالة تداخُل كبيرة جدّاً ما بين البلدين ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، حيث يتقاسم عشرات الآلاف من السودانيّين اللاجئين المأوى والطعام مع أشقّائهم في جنوب السودان”.
ويُضيف: “لقد فتحت جوبا أذرُعها مُرحِّبة بالسّودانيين الذين لجأوا إليها، هناك عامل حاسم أيضاً وهو عامل اللغة العربية، حيث درس آلاف الجنوب سودانيين بالمدارس والجامعات السودانية، وتشهد جوبا أيضاً حراكاً ثقافياً كبيراً يتمثّل في المراكز الثفافية ومراكز الدراسات، وهي بوّابة لشرق أفريقيا التي تشهد أيضاً بطبيعة الحال تأثيرات وحراكات ثقافية كبيرة”.
الشمال والجنوب
ينظرُ أحمد يعقوب بعين الفاعل الثقافي إلى واقع البلدين، ومن خلال نشاطه ناشراً يقرأ التواصل بين الشمال والجنوب، يقول: هناك تداخلات كبيرة على كافة المستويات، وبالرغم من أنّ البلدين شهدا الحرب الأهلية التي بدأت ما قبل استقلال السودان في العام 1955، ثم حرباً أُخرى بعد استقلال جنوب السودان، ولكن ظلّ التواصل حاضراً في كلّ شيء. إذ إنّ مصير البلدين هو مصيرٌ مشترك، ومهما أفسدت السياسة ما بين الشعوب يظل التواصل الثقافي والاجتماعي والاقتصادي حاضراً. وبعد اندلاع الحرب الأخيرة في السودان فتحت جامعات جنوب السودان والمعاهد الأبواب للطلاب من السودان دون أي شروط، كما للأطباء والمهندسين، إنهم يعيشون الآن في جوبا دون أي شعور بأنهم غرباء، إذ تظلّ القواسم المُشترَكة تجمع الشّعبين. وقبل هذه الحرب وقبل استقلال جنوب السودان ظل آلاف السودانيين في جوبا ولم يبرحوها قطّ”.
تتركّز خطّة “الموسوعة الصغيرة” على توفير المحتوى المعرفي الممتاز للقارئ، إذ يعتبر يعقوب أن مهمة الدار لا تقتصر على توفير الكتاب فقط وطبعه ونشره، بل هناك مسؤولية معرفية وأخلاقية تجاه القُرّاء، وعن هذا التفصيل يقول لـ”العربي الجديد”: “إننا أحياناً نستكتب المؤلّفين حول موضوعات نراها مُلحّة في السياق العام، وفي كِتَابنا ‘مستقبل السّودان في ظلّ تعدّد أزماته’، قُمنا باستكتاب مجموعة من الأكاديميين والباحثين من السودان وجنوب السودان وشرق أفريقيا حول الحرب في السودان، نتعاون أيضاً مع مراكز الدراسات في إنتاج كُتب حول القضايا ذات الاهتمام المشترك ولدينا أيضاً تعاون مع ‘جامعة أديس أبابا’ في إثيوبيا لإصدار كتاب مُشترك حول قضايا القرن الأفريقي وهكذا. نشتغل في الدار على الفلسفة والعلوم الإنسانية بمختلف التخصّصات والترجمة للإنكليزية والسواحلية والفرنسية”.
آليات التوزيع
وحول آليات توزيع دار “الموسوعة الصغيرة” لإصداراتها، وأي شريحة من القرّاء تستهدف يوضح مديرُها العام لـ”العربي الجديد”: “نستهدف في التوزيع دول شرق أفريقيا والقرن الأفريقي بشكل خاص، وبالطبع الدول العربية. وفي توزيعنا لشرق أفريقيا نركز على ترجمة ما نراه مهمّاً وما ينبغي توصيله للقارئ في هذه البلدان، فالترجمة عاملٌ حاسم في نقل الثقافة ومعرفة الشعوب لبعضها البعض. تستهدف الدّار بشكل كبير القُرّاء من الشباب والطّلاب فهُم عِماد ونهضة المستقبل ولا يمكن بناء أي بلد وحضارته ونهضته دون الاهتمام بهذه الشريحة. قُرّاؤنا أيضاً مُتعددو اللغات: الإنكليزية والسواحلية والفرنسية، بالاضافة إلى العربية وهي شريحة كبيرة وبالطبع فالدّار توفر كتبها في المعارض الإقليمية والدولية والمكتبات المتعددة في مختلف أنحاء العالم”. ويلفت أحمد يعقوب إلى تجارب أُخرى تضع الكتاب العربي من ضمن اهتماماتها مثل “دار رفيقي” و”دار ويلوز هاوس” وهما دارا نشر من جنوب السودان تعملان وسط مخاطر كبيرة يشهدها سوق النشر عموماً.
أزمة اقتصادية
ويختم الناشر السوداني حديثه بالإشارة إلى التّحدي الأبرز الذي يتمثّل في “الأزمة الاقتصادية التي تضرب العالم اليوم والتي أثّرت على كلّ شيء، على سبيل المثال المطابع وأسعار الورق التي يتجدّد سعرها كلّ يوم، بالإضافة إلى الترحيل لمختلف بلدان العالَم. وفي هذا السّياق بدأنا في ‘الموسوعة الصغيرة’ ترتيباتنا لتشغيل مطبعتنا الخاصة في محاولة منّا لتخفيف الأحمال حتى على دور النشر التي تتعاون معنا، إذ نسعى لتكوين جبهة عريضة من دُور النشر للقيام بالدَّور الذي ينبغي أن تقوم به دور النشر، وهي أنها مؤسسات معرفية تساهم في ترقّي شعوبها وعموم القرّاء لمجابهة حالة الخلل الذي تعيشه مجتمعاتنا وحيث لا توجد وسيلة أُخرى لنهضة الشعوب سوى الاهتمام بالمعرفة ونشرها”.
نقلا عن “العربي الجديد”