منصور الصويم
تُتلى خلال الفترة من 11 إلى 13 ديسمبر/كانون الأول الجاري المرافعات النهائية للمدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، ضد المتهم بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، علي محمد علي عبد الرحمن، المعروف بــ”علي كوشيب”، بمقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، بهولندا.
محامي الدفاع
قبل أسبوعين تقريبا أتيح لي، مع مجموعة من الصحافيين السودانيين، أن نتلقى إحاطة من محكمة الجنايات الدولية في مقابلة عبر الفيديو، بشأن وقائع محاكمة المتهم السوداني علي كوشيب. من ضمن المتحدثين من جهة المحكمة كان ممثل هيئة الدفاع، السيد سيريل لوتشي، الذي استوقفني بمجرد ظهوره على شاشة العرض، بمظهره اللامبالي، وأمارات السخرية التي تكسو وجهه وتكاد تعانق آذان وأعين مستمعيه. لفتني الرجل بطريقته الغريبة في الحديث التي تمزج بين الجدية والهزل، وهو يحاول منذ بداية كلامه أن ينفي أي صلة بين موكله والجرائم الكبرى المرفوعة ضده.
مغالطة الاسم
بدا السيد لوتشي على غير صلة بالواقع السوداني، وغير ملم بالسياق الذي نشأ فيه المتهم والبيئة التي أنتجته وقدمته باتجاه المحكمة، بينما قدمت آخرين في طرق أخرى أكثر سماحة وجمالا. السيد لوتشي وهو يبرز الملامح العامة لمرافعته النهائية، توقف كثيرا عند أربع “مغالطات” عدها مثيرة للدهشة، ومبنية على الإرباك، وبالتالي ناسفة لكل التهم الموجهة إلى موكله.
قال لوتشي ساخرا: “لا أعرف شخصا اسمه علي كوشيب، موكلي اسمه علي محمد علي عبد الرحمن، وهو شخص آخر لا علاقة له البتة بمن تحاول المحكمة إدانته به في جرائم دارفور”.
ربما لم تبحث هيئة الدفاع، وممثلوها، عن خلفيات المتهم جيدًا في السياق الثقافي السوداني– الدارفوري، أو لم يهتم السيد لوتشي بالتقصي الدقيق عن دور “الألقاب والكنيات” في البيئة السودانية– الدارفورية، العربية أو الأفريقية، وما يعنيه ذلك– لاسيما في الريف– في تمييز الأشخاص وفرزهم اجتماعيا، وتقريبهم محبةً أو إبعادهم كرهًا، أو السمو بهم تباهيًا وتفاخرًا في مركز القبيلة، خاصة في أوقات الحروب والنزاعات. وفي دارفور، وفي السودان عامة، لدى النساء المغنيات والحكّامات، والشعراء الحماسيين والهدايين، تتوالد الألقاب بسلاسة شعرية مدهشة، مثلما تنتجها مراتع الطفولة، ومجالس الشراب، وفي حصاد المزروعات، أو في “سوق الله أكبر”. اللقب في السودان، دارفور، قيمة دلالية عظمى لمعرفة حجم الرجال ومقدار النساء. لكن، المحامي لم يهتم أو لا يهتم، ويكفيه فقط أن “الوثيقة” تقول إن اسم موكله مخالف لهذا “الكوشيب”. هل سأل عن معنى “كوشيب”؟ وهو نوع من الخمور البلدية، وربما يرمز هنا إلى فقدان حامله للرزانة وجنوحه إلى ارتكاب ما لا يعقل. وأخيرًا هل انتبه السيد المحامي إلى حرب السودان الأخيرة؟ هل نظر في أسماء قادة “قوات الدعم السريع” الميدانيين، ومقاتليها المنتشرين على مواقع السوشيال ميديا؟ هل سمع بـجلحة، وسافنا، وكوبرا، وياجوج وماجوج، وكجك، وقبل ذلك قائد جيوشهم على الأرض المسمى “عثمان عمليات”؟ ثم، هل انتبه السيد لوتشي إلى اسم قائد “قوات الدعم السريع”، الطرف الرئيس في الحرب الجهنمية الدائرة الآن؟ هل هو “الفريق محمد حمدان”، أم هو “الأمير دقلو”، أم تراه “حميدتي” كما تسري به الأخبار؟
مغالطة المهنة
المغالطة الثانية التي دلقها أمامنا المحامي الساخر بكل ثقة، تعلقت بمهنة موكله، خلال فترة الأحداث– الجرائم التي يتهم بارتكابها في العامين 2003 و2004، وهي جرائم كبرى تتعلق بقيادة “الجنجويد” وارتكابهم تحت إمرته القتل، والنهب، والحرق، والاغتصاب، والإبادة الجماعية.
يقول السيد لوتشي مغالطًا بيانات المدعي العام: “ذكروا أن موكلي كان يمتلك صيدلية بشرية في تلك الفترة، وأنه كان يبيع الدواء، بينما الحقائق تقول إن موكلي كان يمتلك صيدلية بيطرية، ويبيع الأدوية لمعالجة الحيوانات، لم يكن صيدليًا بشريًا، كان بيطريًا، وهذا ما يؤكد أن من يتحدثون عنه شخص آخر… ثم كيف لصيدلاني أن يتحول إلى قائد للجنجويد وإلى قاتل ومغتصب؟”.
ومرة أخرى يبدو أن السيد لوتشي، لم يهتم كثيرا بالتنقيب في السياق السوداني–الدارفوري، لم يكلف نفسه بالسؤال ولو عن بعد، بما أن السفر إلى السودان تعذر عليه. لو كان سألني أنا مثلاً لأخبرته أن الفواصل بين الصيدلية البشرية والبيطرية في تلك الأصقاع البعيدة حيث كان يعمل المتهم، تكاد تكون معدومة، لأن الأمر لا يتعلق من الأساس بممارس طبي للمهنة، بقدر ما هي مسألة تجارية بحتة، دكان يبيع الصنفين ليتربح منهما كل من يجد إليهما سبيلًا. نعم قد تكون لـ”كوشيب” علاقة بالطبابة من خلال عمله في الجيش أو الشرطة، ولكن ودون أدنى شك فإن بيعه الدواء– الإنساني أو الحيواني– لم يكن يخرج عن إطار العمل التجاري المنتشر في ذلك الوقت، وقلت ليسألني لأنني كنت شاهدًا على هذا بنفسي، أثناء رحلاتي العديدة في ربوع دارفور، وأضرب بنفسي مثلًا من باب المجاز ليس أكثر.
مغالطة “الجنجويد“
المغالطة الكبرى التي تورط فيها السيد المحامي أمام الصحافيين السودانيين، تعلقت بجهله بتشكيل “الجنجويد”، بتكويناتها، وتطورات نشأتها، ومن ينتمي إليها وكيف ينسب لها. قال المحامي لوتشي، إن موكله لا يمكن أن يكون قائداً لـ”الجنجويد” في ذلك الأوان بينما قبيلته لم تنضم بعد إلى “الجنجويد”! وهذا قول فيه الكثير من الجهل والاتهام الظالم لقبائل دارفور “عربية وأفريقية”. لا يمكننا، ولا يحق لنا مطلقًا أن نتهم مكونًا قبليًا كاملًا بالانتماء إلى ما يعرف بعصابات “الجنجويد”، وهي تكوين– في أبسط تعريفاته– إجرامي يجذب إليه كل منفلت وخارج على القانون بغض النظر عن قبيلته أو عنصره، أما سريان “اللقب– المصطلح” في فترات لاحقة من تطور الحرب في دارفور، وإلباسه للمجموعات التي انحازت إلى قوات الرئيس المخلوع عمر البشير، فذلك شأن آخر، يقرأ أيضًا في سياقه وفقًا لمحدداته الإعلامية والدولية والحقوقية التي ثارت ضده وقتها. إذن يمكن لكوشيب أن يكون قائدًا، أو فرداً من “الجنجويد” بغض النظر عن موقف قبيلته من هذا التكوين الإجرامي.
وأصل اللقب– المصطلح “جنجويد” في حال تفكيكه إلى عناصره الأولية، نجده يتركب من اسمين، يرمز الأول إلى “الجن” والثاني يرمز إلى “الجواد”، وفي تفسيره المحلي في دارفور فهو يعني مركَّبًا “الجن الذي يركب الجواد”، في إشارة إلى المجرمين والنهابين الذين انتشروا في ثمانينات القرن الماضي، وكانوا يمارسون ترويع المواطنين وتقتيلهم بهدف الاستيلاء على ممتلكاتهم، وهم على ظهور الجياد ويستخدمون الأسلحة النارية الحديثة، وكأنهم شياطين أو “جن كافر” منزوع الرحمة.
مغالطة الميلاد- الأخيرة
في مغالطته الأخيرة، التي يعدها قاضية، يورد السيد محامي الدفاع، تاريخين متناقضين لميلاد موكله علي عبدالرحمن-كوشيب، ويؤكد أن سنه أثناء وقوع الأحداث المروعة تخالف تمامًا ما أوردته وثائق المحكمة، وأن فاصلًا عمريًا كبيرًا بحجم الفجوة بين الكهولة والشباب، يفصل بين العمرين، ما يؤكد أن الشخص “الشاب” إبان الأحداث ليس موكله “الكهل” حينها. وهنا فخ آخر أيضًا من فخاخ السياق السوداني–الدارفوري. ففي تلك الجلسة التي تضم صحافيين سودانيين أغلبهم من دارفور، لو سأل السيد لوتشي عن تواريخ الميلاد، لوجد أن كثيرين تقول وثائقهم إنهم مواليد “1 يناير” في أي عام. وهو ما يعرف بـ”شهادة التسنين”، التي قد تسبق تاريخ ميلادك بأعوام، أو تأتي بعده بأعوام أخرى، أو كما يرى ذلك الموظف الطبي الذي عليه أن يقدر سنك وميلادك المفترض. فـ”كوشيب” قد يكون شابًا أو شيخًا ساعة ارتكاب الجرائم، فالأمر برمته منوط بشهادة التسنين الخاصة به.
تلك كانت جلسة لطيفة، أعطتنا جانبًا طريفًا عن محاكمة مهمة بشأن جرائم خطيرة قتل جراءها أكثر من 300 ألف سوداني في إقليم دارفور، حسبما أقر الرئيس المخلوع عمر البشير، المطلوب بدوره للمثول أمام المحكمة ذاتها.
جرائم كوشيب
وفقًا لمحكمة الجنايات الدولية، فإن السيد عبد الرحمن يواجه 31 تهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في دارفور، السودان، بين أغسطس/آب 2003 وأبريل/نيسان 2004 على الأقل.
وبدأت المحاكمة في القضية أمام الدائرة الابتدائية الأولى في 5 أبريل 2022، وقد مثل 56 شاهدًا في قاعة المحكمة أثناء عرض مرافعات الادعاء، وانتهى الادعاء من تقديم أدلته. وفي 5 يونيو/حزيران 2023، أدلى الممثلون القانونيون للمجني عليهم ببيان افتتاحي، وفي 5-7 يونيو و16-17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أذن لهم باستدعاء شاهد واحد والمجني عليهم المشاركين للإدلاء بآرائهم أمام الدائرة، واستدعى الدفاع 18 شاهدًا أمام الدائرة وانتهى من تقديم أدلته.
وإلى جانب علي كوشيب، تلاحق المحكمة الجنائية الدولية أربعة سودانيين آخرين، متهمين بارتكاب جرائم ضد المدنيين في إقليم دارفور، يأتي في مقدمتهم الرئيس المعزول عمر البشير، ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين، ووالي شمال كردفان وزير الشؤون الإنسانية الأسبق أحمد هارون، وعبد الله بنده.
نقلا عن “المجلة”