سادت حالة من الفراغ القضائي في إقليم دارفور مؤخراً بعد اندلاع الحرب الحالية في 15 أبريل العام الماضي؛ حيث أدت المعارك إلى توقف المؤسسات القضائية والعدلية عن العمل في وقت تزداد فيه حاجة المدنيين للتقاضي، في ظل آثار الحرب على الحياة العامة. وعليه، عاد سكان الإقليم إلى الاعتماد على المحاكم الأهلية التي يديرها زعماء القبائل؛ كما أن الإدارات المدنية المكونة بواسطة قوات الدعم السريع في بعض ولايات الإقليم أنشأت محاكم طارئة.
المحاكم الأهلية:
عُرف إقليم دارفور تاريخياً بوجود المحاكم الأهلية التي يديرها زعماء القبائل للبت في القضايا داخل المجتمعات المحلية. وتعتمد المحاكم الأهلية في الأساس على القوانين والأعراف المحلية التي تحكم المجتمعات الريفية. ويتمتع الزعيم القبلي الذي يترأس المحكمة الأهلية بمجموعة متفاوتة من الصلاحيات والسلطات والاختصاصات ضمن حدود القوانين السودانية على منذ أمد بعيد، آخرها دستور العام 2005م. ومؤخرا اتجهت السلطات في السودان إلى سن قانون لتنظيم وتقنين عمل الإدارة الأهلية.
محاكم الطوارئ
يتكون النظام القضائي في السودان من الشرطة والنيابة والمحاكم، والتي تعطلت في عدة أرجاء من البلاد بسبب الحرب؛ ولا سيما إقليم دارفور الذي توقفت فيه هذه الأجهزة تماما بعد تدمير البنى التحتية الخاصة بها. أدت الحرب إلى تلف وفقدان ملفات القضايا، اضافة الى غياب الكوادر العدلية، قبل أن يعود النظام القضائي للعمل بعد سيطرت قوات الدعم السريع على أربع من ولايات الإقليم. وقد أصدرت تلك الإدارات المدنية بولايات دارفور قرارات تقضي بتشكيل محاكم طوارئ علاوةً تفعيل الشرطة والنيابة العامة. في ولاية غرب دارفور أنشأ رئيس الادارة المدنية بالولاية التجاني الطاهر كرشوم، عدد 20 محكمة طوارئ في محليات الولاية المختلفة؛ وبحسب القرار تتكون تلك المحاكم من (رئيس للمحكمة وأعضاء من الادارات الاهلية). واتبع رئيس الادارة المدنية بجنوب دارفور محمد احمد زين، ذات النهج باتخاذه قراراً شكل بموجبه ست محاكم أهلية برئاسة قضاة سابقين، وكلاء نيابة، إدارات أهلية، وبعض أعيان مدينة نيالا. وفي ذات الاتجاه، عقدت ولاية شرق دارفور في يونيو 2024م، ورشة عمل حول شرعية تكوين سلطة قضائية بالولاية في ظل غياب الجهاز الرسمي للدولة. وقال الصحفي/ محمد صالح البشر، أنه بموجب توصيات الورشة، أصدر رئيس الادارة المدنية بالولاية قراراً بتشكيل جهاز قضائي برئاسة المحامي عبد الرحيم محمد تبن، ونيابة عامة برئاسة وكيل النيابة محمود المتعافي. وقام تبن بدوره بتعيين عدد 15 قاضياً بمختلف الدرجات من الأولى وحتى مساعدين قضاة. أما في وسط دارفور فتم تشكيل الجهاز القضائي برئاسة أحد قادة الإدارة الأهلية الأمير/ محمود صوصل، ونيابة عامة برئاسة المحامي/ عبد الرؤوف مصطفى. وقالت شيماء حارن الرميلة، وزيرة الثقافة والإعلام المتحدثة باسم الإدارة المدنية بالولاية، إن الجهاز القضائي شكل بدوره محكمة في مدينة زالنجي؛ بينما ترك المحليات لتعمل بالمحاكم الأهلية التي يديرها زعماء القبائل. وأوضحت شيماء لسلاميديا أن المحكمة باشرت عملها للبت في القضايا الجنائية الصغيرة، وأن جرائم القتل يتم البت فيها بواسطة نظام (الجودية) المتعارف عليها في دارفور.
الولاية القضائية:
يشترط البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف المعقودة في 12 أغسطس 1949م، والمتعلق بحماية ضحايا النزاعات المسلحة غير الدولية، وفقا للمادة 6؛ يشترط التقيد بجملة من الإجراءات لحماية المدنيين الذين يخضعون لمحاكمات أثناء النزاعات الداخلية. فيما يرى الدكتور، وسام الدين العكلة أستاذ القانون الدولي والدبلوماسي في المعهد الأكاديمي للعلوم والتكنولوجيا في تركيا، إن القانون الدولي يخول لسلطة الأمر الواقع تشكيل محاكم قضائية، بهدف محاكمة الأشخاص الذين يرتكبون جرائم ولضبط الأمن في مناطق سيطرتها؛ وعلى المحاكم تطبيق القوانين السارية قبل النزاع وإذا أرادت تبديل القوانين عليها أن تختار قانوناً أخف. وبناءً على ما رصده فريق سلاميديا، فإن المحاكم المنشأة في ولايات دارفور اعتمدت في البت في بعض القضايا على القانون السوداني ما قبل الحرب، بينما اتخذت بعض المحاكم قانون الطوارئ للفصل في قضايا أخرى، مع فرضها رسوما مالية نظير خدماتها. وعلى ذلك، قضت محكمة أهلية بمدينة نيالا بالسجن إلى حين السداد على أحد المواطنين وألزمته بسداد مبلغ إضافي كأتعاب للشرطة والمحكمة؛ بموجب تقدم المواطن إدريس صالح ببلاغ ضده بقسم نيالا وسط، بخصوص معاملة تجارية جرت بينهما. وفي قضية أخرى أصدرت (محكمة قادرة) بنيالا حكماً بالسجن بحق مواطن لحين السداد وفقاً لقانون الأحوال الشخصية الخاص بالنفقة الزوجية. بينما لقي عدد 37 شخصاً حكماً بالسجن والغرامة لمخالفتهم أوامر الطوارئ التي أصدرتها الادارة المدنية بجنوب دارفور. وأعطت الادارة المدنية بالولايات رجال الشرطة الذين عادوا للعمل صلاحيات إلقاء القبض، الحبس بمساعدة مستشارين قانونيين، وتنفيذ القرارات التي تصدر من المحاكم الأهلية. بالمقابل شُكلت محاكم طوارئ في عدد من الولايات التي تقع تحت سيطرة القوات المسلحة، حيث أصدرت هذه المحاكم وفقاً لقانون الطوارئ عقوبات على عدد من المواطنين الذين تم القبض عليهم بتهم تتعلق بالتعاون مع قوات الدعم السريع. تراوحت الأحكام التي تمت في مدن (عطبرة، القضارف، كرري، كسلا وبورتسودان) ما بين الإعدام والسجن المؤبد.
الأساس القانوني والدستوري:
يقول المحامي العاقب الزين جابك الله، لسلاميديا إنه وفقاً للقانون الدولي الإنساني، وقانون حقوق الإنسان، يجب أن تخضع المحاكم سواء ان كانت في مناطق النزاعات أو غيرها، لشروط المحاكمة العادلة. وأضاف “في كل الأحوال يشترط في المحاكمة أن تكون عادلة، وكي تكون عادلة لابد أن تتوفر فيها شروط محددة” واشار الى انه من بين هذه الشروط (ضمانات القبض، التحري، التحقيقات، الاحالة للمحكمة، وضمانات التشريع والقانون) وأن يخضع المتهم للمحاكمة بالقانون الطبيعي وألا يخضع لأي إجراءات تعسفية، أو أي إجراءات تهضم حقه في محاكمة عادلة، وأضاف لا يحق أن يحاكم شخص مدني أمام قاضي عسكري او محكمة عسكرية، وأن تتوفر ضمانات مؤسسية بأن تكون هناك مؤسسات تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة من محكمة الموضوع، لمحكمة الاستئناف، للمحكمة العليا إلى المحكمة الدستورية. وأكد أنه إذا لم تتوفر هذه الشروط تصبح المحاكمة غير عادلة وتمثل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني.
بينما يرى المحامي والمدافع عن حقوق الإنسان عادل عبد الله نصر الدين “أن المحاكمات التي تجريها الأجهزة القضائية التي تم تشكيلها في السودان بعد الحرب لا تتوفر فيها معايير العدالة، وبالتالي لا تحقق العدالة للمتقاضين”. وقال نصر الدين لسلاميديا إن هذه المحاكم تعمل وفق خليط من القوانين، (قانون الدولة قبل الحرب وقوانين الطوارئ)، اضافة الى أن قوانين الطوارئ المعمول بها في بعض المحاكم لم تصدر عن جهة تشريعية، فضلا عن أن القضاة الذين عينتهم الإدارات المدنية بولايات دارفور غير مؤهلين، سواء ان كانوا محامين، وكلاء نيابة أو زعماء قبائل. وأوضح عادل “أن سقف صلاحيات المحاكم الأهلية لا يتعدى المحاكمات الإيجازية التي لا يترأسها قاضي بدرجة ثالثة، ولا تتجاوز الأحكام فيها قضايا الجنح”. وذكر “أن الأحكام الصادرة عن محاكم الطوارئ أو المحاكم الاستثنائية تفتقر للقانون الإجرائي الذي يحكم إجراءات التقاضي في جميع المراحل بدءً من تنفيذ أمر القبض مروراً بالحبس حتى إجراء المحاكمة وتنفيذ الأحكام”. مشيراً إلى أن كل هذه العوامل تعطي الحق للمتقاضين بأن يتقدموا بطعن دستوري ضد حكومة السودان بعد انتهاء الحرب. واضاف “في حالة استنفاد جميع مراحل التقاضي داخل الدولة السودانية يحق للمتقدم بالطعن أن يلجأ للقضاء البديل أو الاستراتيجي، اقليمياً او دولياً”.
يقع إقليم دارفور تحت الولاية القضائية للمحكمة الجنائية الدولية منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي بالرقم 1593 الصادر في العام 2005، الذي أحال ملف الانتهاكات التي وقعت في دارفور الى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. وبناء على ذلك القرار صدرت مذكرات توقيف بحق عدد من قادة نظام الإنقاذ على رأسهم عمر البشير في العام 2008م. وفي العام 2021 م، سلم أحد المتهمين، على عبد الرحمن المعروف بـ كوشيب نفسه للمحكمة وتجري جلسات محاكمته حتى الآن.
لجنة تقصي الحقائق
في 11 أكتوبر 2023م، قرر مجلس حقوق الإنسان إنشاء بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق في السودان للتحقيق في جميع الانتهاكات والتجاوزات المزعومة لحقوق الإنسان وانتهاكات القانون الإنساني الدولي وإثباتها وإثبات الوقائع والظروف والأسباب الجذرية لها، والجرائم ذات الصلة في سياق النزاع المسلح المستمر منذ 15 أبريل 2023م. اضافة الى جمع وتوحيد وتحليل الأدلة على الانتهاكات والتجاوزات، والقيام بصورة منهجية بتسجيل وحفظ جميع المعلومات والوثائق والأدلة، بما يتسق مع أفضل الممارسات الدولية على ضوء أي إجراءات قانونية تتخذ في المستقبل. وأن تقوم- إذا أمكن- بتحديد هوية الأفراد والكيانات المسؤولين عن الانتهاكات أو الجرائم الأخرى ذات الصلة. وأصدرت اللجنة تقريرها في سبتمبر الماضي 2024م، بعد ستة أشهر من التقصي؛ وأشار التقرير إلى أن أطراف النزاع في السودان ارتكبوا مجموعة مروعة من الانتهاكات لحقوق الإنسان والجرائم الدولية قد يرقى العديد منها الى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد وجد التقرير أن القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع والقوات الحليفة لهما، مسؤولون عن أنماط انتهاكات واسعة النطاق. وذكر التقرير إن التعريفات المستخدمة في التشريع السوداني أضيق من النطاق المعترف به في القانون الدولي، مما يعوق المساءلة عن النطاق الكامل للجرائم الدولية المرتكبة على المستوى الوطني. وأشارت البعثة إلى أنها لم تتمكن من الحصول على معلومات حول المحاكم التي أنشأتها الإدارات المدنية الخاضعة للدعم السريع، وأنشطتها؛ وقالت “يبدو أنها لم يكن لها أي تأثير واضح على الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها” وقالت البعثة إنها تشعر بالقلق من أن هذه المحاكم قد أنشئت خارج إطار القانون وبالتالي تفتقر إلى أي أساس قانوني وكذلك الضمانات اللازمة للمحاكمة العادلة. وفي أكتوبر 2024م، مدد مجلس حقوق الإنسان مهمة البعثة لعام إضافي رغم اعتراضات الحكومة في بورتسودان على القرار.
وحول حق المحكوم عليهم أثناء النزاع للإدلاء بشهاداتهم أمام لجنة تقصي الحقائق أو المحاكم الدولية، يرى المحامي العاقب جابك الله أنه “لا يوجد ما يمنع أن تحقق معهم لجنة تقصي الحقائق حول المحاكمات التي جرت لهم، فربما تكون هذه المحاكمات عملية ممنهجة لاستهداف فئات او مجموعات محددة وانتهاك لحقوقهم؛ بما في ذلك حقهم في الحياة أو مصادرة ممتلكاتهم. ربما تكون المحاكمات في هذا الوضع الذي يمر به السودان هي سيف لإسكات بعض الفئات، أو للتخلص من بعض المجموعات أو الأفراد”. وأوضح أن الإفادة أو الشهادة أمام اي هيئة ليس لها علاقة بإدانة أي شخص بجريمة، وإنما لها علاقة بمحتوى شهادته؛ إذا كان حاضراً أو شاهداً على وقائع، أو لديه علم عبر شخص محدد؛ وأصبحت لديه معلومات، إذا أدلى بها يمكن أن تثبت مسئولية شخص او مجموعة او فئة او مؤسسة، عن انتهاك محدد أو ينفي عنها المسئولية. وأضاف “إن الادانة بجريمة جنائية لا تمثل مانع في الإدلاء بالشهادة، ويمكن الأخذ بها لاثبات الإدانة او البراءة، وبالتالي الذين خضعوا لمحاكمات جنائية أثناء هذه الحرب لا يمكن أن يحرموا لاحقاً من حقهم في الإدلاء بشهاداتهم أمام الآليات الدولية”.
بالنظر إلى النظم القضائية التي نشأت بعد حرب 15 أبريل 2023م في المناطق تحت سيطرة طرفي الحرب على حد سواء، فإن معظم محاكم الطوارئ في مناطق سيطرة القوات المسلحة، استندت في أحكامها على مواد القانون الجنائي السوداني وقانون الطوارئ، بتوجيه تهم وفق المواد (51/أ، 65 المتعلقة بإثارة الحرب ضد الدولة ومعاونة الإرهاب) والتي تصل عقوباتها إلى الإعدام أو السجن المؤبد. بينما احتكمت المحاكم في مناطق سيطرة الدعم السريع الى القانون المدني السوداني في الغالب، إلى جانب قانون الطوارئ والظواهر السالبة التي لا تتعدى عقوبتهما السجن لأشهر أو الغرامات المالية. ولذا فإن القاسم المشترك بين محاكم الطرفين، هو انعدام توفر معايير العدالة؛ إذ لا تتوفر فيها النزاهة في التحريات، ولا يُمنح المتهمين حق الدفاع أو الاستئناف. لذا يتوجب على المنظمات الوطنية والدولية أن تضطلع بدورها الرقابي بالضغط على أطراف النزاع لاحترام حقوق الإنسان وتوفير شروط العدالة، بجانب القيام بدورها في رصد وتوثيق الانتهاكات التي تتم بواسطة محاكم الطرفين لضمان عدم الإفلات من العقاب.