منصور الصويم
وجدت نفسي فجأةً مزدحمًا بعدد من طلبات الاستكتاب والمقابلات والندوات، جميعها ذات صلة بموضوع واحد، هو: “محاربة خطاب الكراهية”. حدث هذا بالضبط قبل عام، أي بعد نحو خمسة أشهر من اندلاع الحرب المدمرة في السودان. تساءلت حينها ما الرابط بين كل هذه الفعاليات وطلبات الاستكتاب ذات التوقيت المتزامن، ولماذا الآن بالتحديد؟ وبالطبع كانت الإجابة الأقرب: الحرب! فهي التي أيقظت الكراهية، وهي التي دفعت إلى إنتاج “فعل” مناهض لخطابها.
العاطفة التي فينا
الكراهية إحدى العواطف الكامنة في دواخل أيّ إنسان، هذا مما لا شك فيه، وهي كذلك، بدرجة ما، “آلية نفسية” ضرورية لخلق التوزان النفسي للإنسان وهو يخوض رحلة الحياة المعقدة، بدءًا من الطفولة وانتهاءً إلى القبر. إذن، بمعنًى ما، فإن الكراهية “فعل نفسي”، تعويضي ودفاعي، يتفاعل داخل كل شخص منا، رضينا بذلك أم أبينا. قد يظهر هذا الفعل في حدود العلاقات الشخصية – الفردية الضيقة، وقد يتطور ليأخذ حيزًا جماعيًا – جمعيًا، وفي هذه الحالة قد يتحول، من آلية نفسية طبيعية تحقق التوزان تبادليًا مع بقية العواطف، إلى وسيلة مدمرة قد تسبب الأذى لـ”عنصر كامل” أو لشعب برمته، مثلما تخبرنا تجارب التاريخ القريب. وهنا –إن كان ما أراه صحيحًا– أجدني مواجهًا بأسئلة أخرى أكثر تعقيدًا: هل نحن مسؤولون عن كراهيتنا في مستواها الفردي أو الجمعي؟ وهل بإمكاننا التحكم في هذه الكراهية وضبطها وكبحها، وربما تحويلها إلى طاقة أخرى أكثر إيجابية؟ ثم، ما الذي يمكن أن نكسبه بالكراهية؟ هل الكراهية عملية تعويض عن عدم قدرتنا على الفعل تجاه شيء يهددنا، أم هي رد فعل لفشلنا في تحقيق رغباتنا –أيًا كانت– فنكتفي لحظتها بكراهية المتسبب وربما كراهية الشيء نفسه – الرغبة؟ وهل يحقق لنا هذا الفعل –الكراهية– مردودًا ماديًا ملموسًا أم أننا نكتفي بالرضا النفسي فقط؟
الكراهية السودانية
قلت إن الاهتمام بـ”مناهضة خطاب الكراهية” تصاعد مع ارتفاع وتيرة الحرب، وامتدادها وتشعبها وانتقالها من حيز الصراع العسكري – السلطوي، إلى الصراع المناطقي – الإثني، واقترابها من التحول إلى “حرب أهلية شاملة”. وهنا، يحق لي أيضًا طرح سؤال: هل الكراهية التي نراها مستشريةً في مواقع التواصل الاجتماعي وفي “انعكاسات الفعل الحربي”، ناتجة فقط عن هذه الحرب الأخيرة؟ أم هي “نشاط عاطفي جمعي” ظل ممارسًا لفترات طويلة بطول عمر الدولة السودانية الحديثة، وإن اتخذ أشكالًا مخاتلة ومراوغة، بعضها تلبس لبوس السياسة، وبعضها الآخر تلون بالثقافي والفني واللغوي وحتى الديني.
في كتابه “وجوه خلف الحرب” يثير الدكتور الباقر العفيف إشكالية قد تبدو لبعضنا سطحية وغير ذات أهمية وربما مبالغًا فيها قليلًا. في هذا الكتاب يتحدث الباقر العفيف عما يمكن أن أسميه “أزمة اللون”، وكيف أن التدرج اللوني في السودان قد يدحرج المرء إلى قاع المجتمع أو يرفعه إلى قمته. والمدهش في عرض الباقر العفيف أن “التقسيم اللوني السوداني” –إن تفكرت فيه– سيكشف لك عن عقلية احتيالية مراوغة عمدت إلى فرز الناس – السودانيين وفقًا لقراءة طبقية تصنف الفرد حسب موقعه المجتمعي أو الاقتصادي، وقبل ذلك القبائلي والعشائري. فمثلًا اللون الأسود، ستجد منه لونين، أحدهما الأسود المعروف “بلاك”، والآخر أنتجته العقلية الاحتيالية للسودانيين ولا وجود له في الواقع، وأعني اللون “الأخدر – الأخضر”. فإن كنت –طبقيًا أو عشائريًا أو اقتصاديًا– منتميًا إلى “التصورات” المنتجة لطبيعة هذه الألوان، وكان لونك “أسود – بلاك”، فأنت “أخدر”، وربما تُدلل جماليًا بأن يُوصف لونك بـ”الخدرة الدقاقة”، أي الناعمة والطرية المحيلة إما إلى أصل قبلي نبيل أو إلى جذر اقتصادي – طبقي فاحش الثراء. أما إن ساء حظك، وكنت عكس كل ما ذُكر، فأنت “أسود – فحمة”، والأسود الفحمة مرادف في ذاكرة الكراهية السودانية لـ”الرق”، فأنت عبد أو “عب” بالعامية السودانية ذات القدرة الفائقة على الاغتيال وإذكاء الكراهية. ولو تتبعنا هذا النهج في رصد الأساليب الاحتيالية لوسائل “الكراهية السودانية”، سنكتشف أن الاحتيال ليس لونيًا فقط، فهناك احتيال ثقافي، وسياسي – مواثيقي، ولغوي.. إلخ. خذ –مثلًا– ما الفرق بين “الهمباتي” النبيل والنهاب غير النبيل إن كان الفعل واحدًا؟ وما الفرق بين غناء ما يُعرف بالحماسة وأشعارها المحرضة على الحرب والدماء، وغناء الحكامة وأشعارها المحرضة –بدورها– على الحرب وإراقة الدماء؟
تاريخنا الكريه
تاريخ السودانيين مع الكراهية عميق الغور؛ فلا الحرب الأخيرة، ولا الحروب الكثيرة التي سبقتها، تكفي لشرح هذا التاريخ المتلون خفاءً ووضوحًا، وفقًا لظرفه المرتبط بنشأة الدولة وتكونها، سواء ما بعد الاستعمار، أو ما قبله حين كنا عشائر وقبائل متنافرة ومتقاتلة في الرقعة الشاسعة من أرض الشعوب السودانية.
لن أستعيد تاريخ الحروب السودانية، منذ ما قبل الدولة السنارية مرورًا بحروب المهدية وإلى لحظة حروب الجنوب ودارفور المتوّجة بحرب الخامس عشر من أبريل الحالية؛ ما أود الإشارة إليه هنا، هو أن هناك جرثومة ما، ماحقة وقاتلة، ظلت تطارد السودانيين على مدار تاريخهم القديم، وتفعل فيهم فعل الإفناء والحريق المتكرر دون أن ينتبه أحد إلى منبع نشأتها ومكمن تجددها بعد خمول مؤقت إثر كل حقبة من الحقب. هذه الجرثومة في رأيي ما هي إلا “جذر كراهية” متجدد النمو، ولا يمكننا القضاء عليه إلا باجتثاثه برمّته وليس بجز شجيراته وأفرعه المبعثرة هنا وهناك في شكل نكاتٍ سخيفة أو أغانٍ مترهلة أو أصوات حمقاء يتردد صداها في مواقع التواصل الاجتماعي ومؤتمرات الساسة المخادعين.
كيف نحارب كراهيتنا
ستنتهي هذه الحرب. نعم ستقضي على كثيرٍ وتنتج كمًا هائلًا من الحقد –وليد الكراهية– وربما تدفع في نهايتها إلى تقسيم البلاد نفسها. فكيف يمكننا، في أثنائها وبعدها، أن نحارب هذه الجرثومة التي أخذت تكبر وتتضخم في دواخلنا نحن السودانيين؟ وكيف لنا أن نحقق ذلك الاعتراف المتكافئ بين ألواننا، دون تقسيمات احتيالية وتحقيرية، وأعني بالألوان هنا تقسيماتنا المجتمعية والثقافية والدينية والمناطقية.
أعتقد أن التحدي الأكبر الذي سيواجهنا في المرحلة المقبلة هو الكيفية التي يتوجب علينا أن ننظر بها إلى دواخلنا، وأن ننقي هذه الدواخل من أوهام التعالي والنقاء والتميز العرقي والثقافي والديني واللغوي، وأن نزن نظرتنا إلى الآخر الذي يتقاسم معانا هذه البلاد بميزان العدل والمساواة، ونراجع تلك الأساطير التي تمجد كلًا منا بمعزل عن الآخر وتعمل على إقصاء هذا الآخر ووضعه موضع الدونية والتحقير، وأن نعترف أخيرًا بأحقية الجميع في “المحبة والسلام” المعلنان دون قيد أو شرط أو تمييز في الحقوق. لن ننتزع الكراهية إلى الأبد، لكن يجب أن نسيطر عليها وندجنها ونحولها إلى طاقة أخرى أكثر إيجابية وفاعلية.