منصور الصويم
لم تتوقف حركة النشر في السودان خلال 2024، بل ربما ازدادت كثافة واتساعا مع انضمام دور نشر جديدة إلى سوق الناشرين، مثل دار “الموسوعة الصغيرة”، التي رفدت المكتبة بعدد كبير ومتنوع من المؤلفات الجديدة في الأدب والفكر وشتى ضروب المعرفة.
كتاب معروفون مثل أمير تاج السر، وعبد العزيز بركة ساكن في الرواية، والنور حمد، وشمس الدين ضو البيت في الفكر والسياسة، وعباس التيجاني ومحمود الشين في أدب الرحلات والمدن، وغيرهم في النقد، وضروب المعرفة الأخرى، ظهرت لهم أعمال جديدة خلال العام المنصرم. بيد أن اللافت خلال 2024 تلك المفاجآت الشابة في الكتابة، التي تمثل إضافة مهمة الى حركة النشر والتأليف في السودان.
نتوقف هنا عند أربعة أسماء ينتمي أصحابها إلى مجموعة “جيل جديد” الأدبية (ظهرت في 2013 عبر موقع إلكتروني بهذا الاسم جمع كتابات شابة)، دون إهمال الإشارة إلى آخرين زينت أعمالهم أروقة المكتبات ومعارض الكتاب أيضا في نشر أول أو ثانٍ، مثل الطيب عبد السلام وزياد مبارك وعثمان الشيخ وغيرهم.
“أيام الشيلات” لوقاص الصادق
قبل صدورها أثارت رواية “أيام الشيلات” للروائي والقاص وقاص الصادق اهتمام القراء وترقبهم، وذلك بعدما كتب البعض ممن قرأ مسودتها الأولى، مشيدا بمستواها الفني ومبشرا بميلاد روائي جدديد، ولم يخب ظنهم، حين صدرت الرواية، من حيث فرادتها وإبداعيتها.
وقاص الصادق، روائي وقاص سوداني من الجيل الجديد، صدرت له مجموعتان قصصيتان هما “حضور بلون الماء” عن “دار أوراق” في مصر (2015)، و”كتاب الانتظارات” عن “دار نرتقي” في السودان (2023)، وسبق ونال جوائز أدبية وشارك في مشاريع إبداعية.
تحكي الرواية قصة قرية سودانية على شاطئ النيل خلال ثلاثة عقود من الزمن، تبدأ من المستقبل عبر قصة عرس لا يكتمل حين تُسرق “شيلته”، وتعني هدايا العروس من ملابس ومصوغات ذهبية وأطعمة ومؤن. يخلق اختفاء “الشيلة” إرباكا في القرية، ويوقظ صراعات قديمة بين الأسر، ويخرج أحقادا وسكاكين، فتصبح القرية على وشك تفجر الدماء.
يقول وقاص: “كتبتُ الرواية خلال سنتين وبضعة أشهر، بمعدل روتيني ثابت، نصف صفحة في اليوم، وأحيانا ربع صفحة، وليس أكثر من ذلك، لم يسبق أن كتبت صفحة كاملة خلال يوم واحد قط”. ويرى أن الرواية “تحاول بصورة دقيقة أن تصف كيف تتحول قرية إلى مدينة، خلال أحداث وتغيرات سياسية واجتماعية، عبر التركيز على سنوات بعينها تمظهرت فيها هذه النقلة الكبيرة، إذ يحاول السرد البحث عن اللحظات التي صارعت فيها القرية نفسها وهويتها، وعن رفض التمدن، ثم قبوله عبر الأيام، وعن أثر ذلك على سكان القرية”.
ويضيف أن الرواية تضم الكثير من الشخصيات، فهناك شخصيات تظهر وتختفي بأدوار مهمة، وأخرى حاضرة في ذهن الشخصيات وفضاء الرواية بلا ظهور حقيقي. فهذه هي حياة القرى النيلية، فضاء ضيق يحوي الكثير من التاريخ والحكايات ويلتقي فيه الناس بعضهم ببعض يوميا مرات عدة في الحقول وفي “البحر” وفي جلسات الأنس والأفراح والأتراح الصغيرة والكبيرة، وفي الشارع العادي، فلا يمكن حكي حكاية بغير هذا الاشتباك والتلاقي والتأثر، فلا خبر يخفى ولا حدث يبقى بلا تأويل أو شروح أو وجهات نظر تنتشر مع الخبر نفسه. ثم لا يطرأ طارئ إلا ويؤثر في القرية كلها، سواء بالتأثير المباشر أم غير المباشر، نسبة الى طبيعة قرابة الدم التي تميز القرى النيلية في السودان، إذ غالبا ما يشترك أهل القرية جميعهم في الجد العاشر أو العشرين، وبذلك لا يكون الغريب غريبا دائما، وتكون المشاكل إما أكبر من حجمها أو مكبوتة في مهدها.
عودة وقاص الصادق إلى القرية النيلية في شمال السودان، يحيلنا إلى عودات نادرة إلى هذا المكان لدى الأجيال الجديدة من الكتاب السودانيين، فبينما مثلت القرية فضاء للروائيين المؤسسين مثل الطيب صالح والشمال النيلي، وإبراهيم إسحاق، تسيدت المدينة أكثر الأعمال الروائية الحديثة، عدا نماذج قليلة باهرة، منها رواية “الغرق” لحمور زيادة و”حبال النور والظلمة” لأمير شمعون حيث الشمال النيلي، و”درفون” لإبراهيم سليمان حيث نجد دارفور.
الظروف التي كتبت فيها “أيام الشيلات” لا يمكن وصفها بأنها كانت صحية للكتابة أو القراءة، مثلما يقول وقاص الصادق، فنصفها كتب قبل اندلاع الحرب في السودان، بينما أكمل النصف الآخر بعد اندلاع الحرب في ظروف مأسوية بمعنى الكلمة “لكن ماذا نفعل؟ على الحياة أن تستمر” يقول وقاص، ويضيف: “وبالتالي يمكن القول إن القلق وانقطاع الشبكات والاتصال وأصوات الضرب والقصف والعزلة التي كنا عليها شكلت بطريقة ما ظروفا لا بأس بها لكتابة عمل أدبي”.
فازت “أيام الشيلات” أثناء كتابة فصلها الثاني بمنحة تفرغ كتابي من “مؤسسة مفردات”، كذلك حصلت على منحة نشر من “مؤسسة غوته”، ونشرت عبر دار “الكتب خان” في مصر.
“الغرفة ثمانية” لريهام حبيب
“الغرفة ثمانية”، هو العمل الروائي الأول للكاتبة الشابة ريهام حبيب، التي سبق لها أن أصدرت في 2018 مجموعة قصصية بعنوان “حمى الريح الأحمر”، عن “دار رفيقي للنشر والتوزيع”، ومجموعة “الجدار” صدرت عن “دار نرتقي للنشر والتوزيع” في 2024، وتستعد حاليا لنشر أشعار ونصوص بلغة قبيلة “الفور” المحلية، في تجربة جديدة ومختلفة.
“تتناول الغرفة ثمانية” حياة نزيلات في سجن أمدرمان في الأيام الأخيرة لسقوط نظام الرئيس المخلوع عمر البشير، وهن نساء من خلفيات مختلفة: بائعة خمور، وقابلة، وبائعة قهوة إثيوبية الأصل، وحنّانة، وودَّاعية، وصاحبة صيدلية، ومدمنة مخدرات، وناشطة سياسية. تقول حبيب لـ”المجلة” إن “ما يجمع هؤلاء النسوة هو التجهيل والإقصاء من الحياة العامة، مما جعل الثورات والانقلابات السياسية خارج أسوار السجن وخارج حياتهن أيضا”.
تدور أحداث الرواية خلال يوم واحد، بلغة محمومة ومتصاعدة ما بين هتافات الثورة في الخارج، وصراخ امرأة من آلام المخاض داخل زنازين السجن. عن تجربتها في هذا الشكل من الكتابة تقول الكاتبة: “بدأت الرواية قبل اندلاع الحرب. وبعد جهد حصلت على إذن لدخول سجن النساء في أمدرمان، إلا أن تاريخه – الإذن – كان يوم الأحد 16 أبريل/ نيسان، أي بعد يوم من اندلاع الحرب، فما تمكنت بالطبع من زيارة السجن”.
لم تيأس ريهام من إكمال مشروعها رغم نزوحها بسبب الحرب إلى مدينة ود مدني، إذ جددت محاولتها هناك لزيارة سجن النساء، ونسبة لتعقد الأوضاع الأمنية في تلك الفترة تأخر الإذن أيضا، وحين نالته أخيرا كانت الحرب وصلت إلى ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني.
ما تحكيه ريهام حبيب عن تجربتها في كتابة روايتها يعدّ في حد ذاته رواية أخرى موازية، فبعدما لاحقتها الحرب في مدني، فقدت جهاز “اللابتوب”، والمسودة الأولى للعمل وكل ما جمعته من شهادات السجينات من اللائي استطاعت التواصل معهن.
تقول حبيب: “لم أستطع الكتابة إلا بعدما خرجت من السودان واستقررت في دولة الإمارات، حينها هدأت قليلا وبدأت الكتابة من جديد، في مسودة جديدة تماما”.
نالت ريهام جوائز عدة من قبل، منها جائزة الطيب صالح للشباب في فئة القصة القصيرة، كما شاركت في معتزل الكتابة الذي أقامته وزارة الثقافة السعودية، وهي عضو في عدد من المؤسسات الثقافية الشبابية، مثل “جيل جديد” و”ايبير” و”الشبكة الإقليمية للحقوق الثقافية”.
“مونولوجات” لبشير أبو سن
في الشعر، نشر ديوان “مونولوجات” للشاعر بشير أبو سن، وهو الثاني له، بعد ديوان أول في 2020 في الخرطوم، بعنوان “أغنيات في شارع الحرية”. عن هذه التجربة يقول أبو سن لـ”المجلة”: “تلك أغنيات هادرة صاخبة عالية الصوت، وهذه مونولوغات فقط، ولعل العنوانَينِ يكفيان لتبيين الانتقال من الثوران إلى التأمل والتمهل، وهو انتقال لا أعرف حقا إن كنتُ تعمدتُه أم لا”.
ويقول أبو سن: “مونولوجات” قصيدة واحدة، أو قصائد تكمل الواحدة الأخرى، أردت أن أخلق به عالما واحدا، فيه ذات واحدة تقف أمام عصر، تستدعي الذاكرة والتاريخ والحاضر، وتتذوق الحب والخيبة والدهشة، و”مرارة طعم الحرية” كما يقول الشاعر السنغالي ديفيد ديوب”.
وعن علاقة القصائد بما يمر به بلده، يقول: “كنت قلِقا على وطني، ويسوؤني ما صار إليه. إنه تائه، وهذا منح القصائد مسحة من بؤس. وكنت أيضا أنفخ في رماد غضب قديم في شعري لربما استجابت نار خامدة فاشتعلت في بعض القصائد، ولهذا فلا تجد قصائد ثورية حتى النخاع، غير أن الثورة والانفعال بقضايا السودان واضحان للعيان، يتجليان بطرق أخرى. أردتُ أيضا أن أقول إن التاريخ يتغلغل في كل لحظاتنا، يستوي تغلغله فينا حين نثور على الطغاة، وحين يخلو الواحد بحبيبته”.
يضيف أبو سن: “أتيحَ لي أن أرى أشياء ما كنت لأراها من هذه الزاوية لولا ابتعادي عن طرق كانت تصل بها ربة الشعر إليَّ سابقا، غدا النيل شيئا آخر، وغدت الصحراء والأهل والطفولة والوجوه الأليفة والشوق والخرطوم أشياء أخرى، كأنها معلقة بين الأرض والسماء، أستطيع رؤيتها كاملة في أي لحظة، أو استدعاءها أيان أشاء، ورحت أنسج من كل ذلك قصائدي. غير أن جميع ما قلته لا يعدو أن يكون مونولوغات فحسب، إذ ما عاد بالإمكان أن تواجه شيئا، هل أقول إنني انتبهت لوضع الشعر في عالمنا هذا؟ هذا أيضا أردت أن أشير إليه”.
“أشباح كافكا” لأيمن هاشم
لم يتوقع أيمن هاشم أن يتحول بالكامل من الاشتغال بالفن التشكيلي والرسم الإيضاحي إلى عوالم القص والسرد، محملا كل مرموزاته وتجريدياته الفنية التي تستحوذ على تصوراته وتخيلاته للأشياء. وحين نشر أول نصوصه القصصية اكتشف الناس تلك القوة السحرية العجيبة التي تكمن طيات هذه النصوص، فهذا السارد الشاب تمكن بإبداعية فذة من الاشتباك مع المحكي الشعبي الخاص للسودانيين بكل غرائبيته وفانتازيته ليعيد تشكيله من جديد في نصوص قصصية مثيرة للدهشة ومحفزة على الأسئلة في الآن ذاته.
أخرج هاشم مجموعته القصصية “أشباح كافكا”، في العام 2024، رفقة إصدارات رفاقه في مجموعة “جيل جديد”، ويقول عن هذه الكتابة: “هذه محاولة لإظهار السحر الذي تتميز به أرياف ومدن السودان – القطر الذي في حجم قارة ثقافيا، وإبراز العناصر المنسية في المحكيات والأساطير في قالب القصة القصيرة، فهي مزيج بين حكايات الجدات والمرويات الشفاهية وأحداث تاريخية هامشية بنزعة شعرية ونوستالجيا للريف والصحراء”.
تتدرج نصوص المجموعة في الطول بين الأقصوصة والقصة القصيرة، بواقع التنوع في أصوات السرد والأزمنة التي عولجت بين الماضي البعيد المنقول شفاهة، والماضي المنسي لثورة ديسمبر/كانون الأول، في محاولة لإخراج المحكي الشفاهي والقصص من النسيان.
يقول الكاتب: “تناولت مواضيع تاريخية، محكيات شعبية وأساطير، بثيمة الواقعية السحرية والفانتازيا وأجواء الحلم في زمن داخلي وزمن خارجي يتحرك بين الماضي والحاضر”. ويضيف أنه استخدم تقنيات سرد متصل أو دائري ونهايات مفتوحة في معظم النصوص.
أما عن اللغة التي استخدمها فيرى أنها تحركت بين الإطناب والإسهاب والتكثيف في معظم القصص، ومن اللغة النثرية – الشعرية إلى اللغة السردية، بالإضافة إلى حوارات باللغة العامية. معظم الأماكن في المجموعة القصصية تنتمي إلى واقع الحكي المحلي، فهي مدن وقرى سودانية، ذات أجواء ثقافية محلية متنوعة، لإبرازها هويات ثقافية واحتفاء بالتراث المحكي الشفاهي وتصديره للعالم بطريقة أكثر حداثة وجاذبية، مع إظهار المفردات للغات المحلية، مثل اللغة النوبية، ولغة البداويت، وربطها باللغة العربية.
تقنيا وفنيا يُدرج هاشم أصوات السرد والحكي من المونولوغ الداخلي، والراوي العليم، وضمير المخاطَب، فمعظمها بضمير المذكر، أما الشخوص فتتنوع كذلك، فبعضها يشكل حضورا رئيسيا، وبعضها شخصيات شبحية – غير مرئية.
في وجه عام يقول يقول هاشم إنه راضٍ عن “أشباح كافكا”، ويعمل حاليا في كتابة مشروع يستهدف سبر أغوار التاريخ المحكي والعجائبي، وتاريخ أولئك الذين لم تنصفهم الذاكرة – المنسيين، الذين لا صوت لهم، في ديسمبر/كانون الأول العام 2019 مع بداية اندلاع الثورة حيث تزامنت معها بعض النصوص على امتداد ثمانية أشهر.
*نقلا عن “المجلة”