الجميل الفاضل يكتب:

سؤال المبتدأ، جواب الخبر؟!

ثم ماذا بعد أن عركتنا الحرب بثفالها؟!

ماذا يكون؟

“الإخوان” في المصيدة!!

يبدو أن كل ما كان ينبغى أن يكون في هذه الحرب، هو الآن قد كان.

ولم يتبق سوى أن نرى رأي العين، حكمة الله بارزة، وراء كل هذا الذي كان.

فإن لبابا قد تم سلبها، وعقولا طاش صوابها، لابد أن تؤوب يوما لتثوب إلى رشدها، رغم كل هذا الخسران، والعنت والعناء.

على أية حال يُقال:

إذا أراد الله أمراً بامرىءٍ

     وكان ذا عقلٍ ورأي ونَظَرْ،

وحيلةٍ يعملها في دفع ما

     يأتي بِه مكروهُ أسبابِ القَدَرْ،

غَطَّى عليه سمعَه وعقلَه

    وسَلَّه من ذهنه سلَّ الشّعَرْ،

حتى إذا أنفذ فيه حكمه

     ردّ عليه عقلَه ليعتبرْ“.

إذن فالأمر كله لله هو من قبل ومن بعد، تؤكده آية قرآنية تقول: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا“.

أنظر كيف إستنبط الشيخ الشعراوى من هذا المعني نصحا يقول:

لا تقلق من تدابير البشر، فإن أقصى ما يستطيعون هو تنفيذ إرادة الله“.

إذ يُحكى في قصة طريفة أخرى: إنَّ سليمان عليه السلام، قد صَادَفَ في أحَدِ الأيَّامِ نِسْرًا عَظيمًا.

وكانَ النِّسْرُ يُحَلِّقُ بِسَيِّدِنا سُلَيمان، فسألَهُ النسرُ ماذا ترى؟

أَجابَهُ: هَيْكَلي العَظيم والناسُ تَدْخُلُ وتَخْرُجُ.

ثُمَّ حَلَّقَ به أعْلى وسألَهُ ماذا ترى؟.

فأجابَهُ أرى القُدْسَ ولا أُمَيِّزُ هَيْكَلي، ثُمَّ حَلَّقَ ثانِيَةً وسألهُ: ماذا ترى؟

فأجابهُ سُلَيمان: لا أرى شيْئًا.

ضَحِكَ النسْرُ وقال: أنا أرى نَمْلَتين تتَقاتَلانِ على حَبَّةٍ مِنَ الحِنْطَةِ.

فقالَ سليمان: أَنْزِلْني لِأَراهُما، فَذُهِلَ عندما رآهُما وأشَادَ بالنسر.

فَرَنَّحَ الغُرورُ هذا النسر ووقعَ في شِرْكٍ كان أمامَهُ، فَصاحَ أَنْقِذْني يا نبي الله.

فتبسَمَ سيِّدُنا سليمان قائِلًا: كيف استَطَعْتَ أنْ ترى النمْلَتين مِنَ الجوِّ ولم تستَطِعْ أنْ ترى وأنت على الأرضِ الشِّرْكَ المنصوبَ لكَ؟

أجابَ النسرُ: إذا وَقَعَ القَدَرُ عَمِى البصر.

وهنا يقول سبحانه وتعالى تأكيدا لحقيقة سلطان القدر حتى على الأحوال في الحروب:

وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ“.

بل أستطيع أن أقول: إن هذه الحرب ما هي، إلا شركا أعمى القدر عن مصيدته بصر “الإخوان المسلمين”، فأوقعوا فيها أنفسهم والبلاد كما نرى.

عموما فالاقتتال كره، لولا أن الله قادر على أن يفعل كل ما يريد، لما وقع بين الناس يوم كريهة كهذه الحرب، التى جاء أبلغ ذم لها في أبيات بمُعلّقة زهير بن أبى سُلمى تقول:

وما الحربُ إلا ما علِمتُمُ وذُقتُمُ،

وما هو عنها بالحديث المُرجَّمِ،

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً،

وتَضرَ إذا ضريتموها فتضرمِ،

فتعرُككم عَرْكَ الرَّحى بثفالِها،

وتلقح كِشافا ثم تنتجُ فتُتمِ“.

ولعل استمرار الأمر على ما هو عليه إلى الآن على الأقل، يملى أن ندرك قول هذا القائل:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

    ولا سراة اذا جهالهم سادوا

تلفى الأمور بأهل الرشد ماصلحت

       فان تولوا فبالأشرار تنقاد“.

والى متى بالأشرار تنقاد؟

كل يغنى ليلاه، وهى صماء لا تسمع!!

المستغرقون في مناخات الحرب، تجدهم يقاومون بشدة، أى محاولة لانتشالهم خارج هذا الطقس الدموي.

إذ يبدو أن غالب الناس هنا، لا يرون الحرب إلا من الوجه الذي يليهم منها، فمن فقد سلطانه ونفوذه ومراتع فساده، يراها سبيلا لاستعادة ما فقد، ومن تمتع بجاه الحكم، ومصادر الثروات غير المشروعة، من ذهب مهرب، وواردات ممنوعة، يريد الاحتفاظ عبر الحرب بما في يده من مصادر، ومن تشرد من دياره وموطنه ومنزله، يرغب في نتيجة للحرب تعيده امنا إلى سربه، ومن فقد سيارته وأمواله وممتلكاته الأخرى، يريد لها نهاية ترجع له ما فقد، ومن حرم من فرص عمله، ومصادر دخله، ينتظر أن تقف لكي يعود لمزاولة أعماله ونشاطه كما كان فيما سبق.

من أين جاء هؤلاء؟

عبثية الحرب تقول:

أن إجابة على سؤال أديبنا الراحل “الطيب صالح” ربما نجد جانبا منها لدى المؤرخ “ابن الأثير” الذي يقول: “نحن نذكر الأيام المشهورة والوقائع المذكورة التى اشتملت على جمع كثير وقتال شديد، ولم أُعَرِّج على ذكر غارات تشتمل على النفر اليسير، لأنه يكثر ويخرج عن الحصر“.

ومع هذا فقد أتى بما يربو على خمسين يومًا “معركة”، كلها من الوقائع الكبيرة المشهورة.

فقد بلغ من تعلُّق العرب الشديد بالحرب والقتال وتأصلها في نفوسهم، أن قال شاعرهم عمرو بن كلثوم، بيتًا من الشعر يُعبِّر عن هذه النفسيات المعقَّدة، والعقول المضطربة:

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنَا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا“.

حتى وصل الأمر إلى أن قال القطامي:

وَأَحْيَانًا عَلَى بَكْرٍ أَخِينَا

إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إِلاَّ أَخَانَا“.

إنه لم يكن هناك مانع إذن أن يُحارب الأخ أخاه، فقط لأن زمانه خلا من حرب أخرى!

وقد لَخَّص جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه أمر العرب قبل الإسلام في كلامه مع النجاشي ملك الحبشة، فقال له: “أَيُّهَا الْمَلِكُ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ يَأْكُلُ الْقَوِى مِنَّا الضَّعِيفَ“.

على أية حال إن من أيام العرب الدموية

حرب الفجار:

التى كانت بين قريش وكنانة من جهة، وقيس عيلان من جهة أخرى، وسُمِّيَت الفجار لما استحلَّ الحيَّان كنانة وقيس فيه من المحارم.

يوم عين أباغ:

ومن أيام العرب كذلك يوم عين أباغ، وكان بين غسان ولخم، وكان قائد غسان الحارث، وكان قائد لخم المنذر بن ماء السماء، وقُتل المنذر في هذا اليوم، وانهزمت لخم، وتبعتهم غسان إلى الحيرة، وأكثروا فيهم القتل.

حرب يوم أوارة:

ومنها يوم أوارة وهو جبل، وكان بين المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة وبين بكر بن وائل بسبب اجتماع بكر على سلمة بن الحارث، فظفر المنذر ببكر، وأقسم أنه لا يزال يذبحهم حتى يسيل دمهم من رأس أوارة إلى حضيضه، فبقي يذبحهم والدم يجمد، فسكب عليه ماء حتى سال الدم من رأس الجبل إلى حضيضه، وبرَّت يمينه.

يوم الكُلاب الأول:

ومن أبلغ الدلائل على ما وصلوا إليه من شهوة الدم ما رُوى عن يوم الكُلاب الأول.

وهي حرب كانت بين الأخوين شراحيل وسلمة ابني الحارث بن عمرو الكندي، وكان مع شراحيل وهو الأكبر بكر بن وائل وغيرهم، وكان مع سلمة أخيه تغلب وائل وغيرهم، ووقعت الحرب بينهما في الكُلاب، وهى منطقة بين البصرة والكوفة، واشتدَّ القتال بينهم، ونادى منادي شراحيل: من أتاه برأس أخيه سلمة فله مائة من الإبل. ونادى منادي سلمة: من أتاه برأس أخيه شراحيل فله مائة من الإبل. فانتصر سلمة وتغلب على شراحيل وبكر، وفرَّ شراحيل، وتبعته خيل أخيه ولحقوه وقتلوه، وحملوا رأسه إلى سلمة.

حرب البسوس:

والبسوس هى الناقة التى لا تدر إلا على التلطف بأن يقال لها: “بس بس”. وفي المثل: “أشأم من البسوس“.

لأنه أصابها رجل من العرب بسهم في ضرعها فقتلها، فقامت الحرب بينهما.

قيل البسوس، اسم امرأة، هى خالة جساس بن مرة الشيباني، كانت لها ناقة يقال لها سراب.

فرآها كليب وائل في حماه، وقد كسرت بيض طير كان قد أجاره، فرمى ضرعها بسهم، فوثب جساس على كليب فقتله، فهاجت حرب بكر وتغلب ابني وائل بسببها أربعين سنة.

حرب داحس والغبراء:

داحس والغبراء، اسمان لفرسين دخل صاحباهما سباقًا، فلطم أحدهما فرس الآخر، ليمنعه من الفوز، فقامت حرب بين القبيلتين قُتِلَ فيها أيضا الألوف.

حرب يوم بعاث:

الذي هو يوم اقْتَتَلَتْ فيه الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه يومئذٍ للأوس، وفيها أيام مشهورة هلك فيها كثير من صناديدهم وأشرافهم، وبُعاث اسم أرض بها عرفت، وقال الخطابي:

يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب، كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج، وبقيت الحرب قائمة بينهما إلى أن قام الإسلام مائة وعشرين سنة“.