نيروبي: صديق الدخري

في نهارية عامرة بالحوار والتفكّر في مسارات السودان من الثورة نحو السلام، نظّم مركز “سلاميديا” وبدعم من منظمة Life and Peace Institute جلسة حوارية نوعية تحت عنوان: من الثورة إلى السلام أدوار الأفراد ورؤى المستقبل، وذلك ضمن فعاليات منصة سودان كافي. شهدت الجلسة حضورًا متنوعًا من نشطاء المجتمع المدني، وصحفيين، وأئمة، وقيادات نسوية وشبابية، في محاولة لبلورة رؤية جماعية تعيد تعريف أدوار الأفراد في لحظة حرجة من تاريخ السودان المعاصر.

منصة غنية بالإفادات

استهل الأستاذ نوح آدم الحديث بتأكيده على أن الثورة السودانية لم تكن مجرد لحظة احتجاج، بل محطة لإعادة بناء القيم الإجتماعية. أشار إلى أن العمل التنظيمي كان بوابته للدخول في الفعل المجتمعي، وأن لحظات الثورة عززت التضامن الجماعي على حساب الولاءات الضيقة. وبتأثر، استعاد شعار “لو عندك خد، لو ما عندك شيل” باعتباره تجسيدًا لثقافة التكاتف وسط الثوار.
نوح أشار إلى التحدي الشخصي بين رغبته في حماية أسرته خلال الحرب، وتحمّله لمسؤولية العمل العام. من هذه المفارقة، نشأت مبادرات إنسانية مثل “قدح الخير” لمكافحة المجاعة، ومبادرات ثقافية وتعليمية في منطقة الصالحة، رغم صعوبة التمويل وشيطنة الأصوات المستقلة.
أما الصحفية والناشطة أمل محمد الحسن، فقد افتتحت مداخلتها بتحية الثوار في ذكرى 30 يونيو، وأكدت أن كل سوداني بات يحمل جراحًا وقصصًا مرتبطة بالحرب والثورة. تحدثت عن تجربتها الشخصية في التوثيق من “تحت السرير” كما وصفت ،حينما كانت تختبئ من القصف وتكتب تقاريرها لمنظمات حقوقية مثل العفو الدولية.
أمل أسست منصات نسوية مستقلة مثل “قروب إلكتروني” وSudan Media Forb، وعبّرت عن قلقها من الانقسام الحاد في الإعلام، بين منابر محسوبة على أطراف الحرب وصحفيين مستقلين يواجهون التهديد والتضييق في سبيل قول الحقيقة.
وفي مداخلة مؤثرة، قال القيادي نصر الدين مفرح إن الثورة لم تكن لحظة انفجار بل نتيجة “تراكم للمعاناة والقهر”، منتقدًا استخدام الدين لتبرير الاستبداد . وأوضح أنه خلال فترات السجن، عمل مع مجموعات شبابية لإطلاق مشروع “تماسك”، الهادف إلى ترميم العلاقات الاجتماعية داخل المجتمعات المحلية، معتبرًا ذلك أساساً للسلام الحقيقي. من بين أبرز التحديات التي أشار إليها: السيطرة الأمنية، غياب التواصل بين الأجيال، وتفتت القيادة المدنية.
ثم جاءت الشهادة الأكثر تأثرًا من الناشطة عبلة صالح، خريجة جامعة الأحفاد للبنات، التي ألقت قصيدة مؤثرة في مستهل حديثها. عبّرت عن دور الثورة في تعميق الوعي ضد العنصرية، وربطت تجربتها في دارفور بتجليات النزاع الأوسع، مشيرة إلى أنها عاشت 11 شهرًا في تشاد حيث أطلقت مبادرة “أنقذ الجنينة” لتوفير فضاءات آمنة للنساء والأطفال. دعت عبلة إلى توحيد جهود المجتمع المدني ومواجهة الانتهازية والتشريعات التي تعيق العمل الأهلي، مطالبة بحوار سوداني ، سوداني مستقل بعيدًا عن الإملاءات.


مداخلات الحضور: تنوع الخبرات وحدة القلق

شهدت الجلسة مداخلات ثرية عكست عمق القلق السوداني، وتنوع الرؤى تجاه مآلات الثورة والحرب. الصحفي أبو عبيدة أعاد التذكير بضرورة عدم تجاهل السياقات التاريخية في جبال النوبة وجنوب السودان، مؤكدًا أن الثورة امتداد لمعارك قديمة من أجل العدالة.
ومن النيل الأبيض، تحدثت الصحفية سلمى الشيخ عن ضرورة إعادة بناء الثقة بين المجتمع والدولة لتحقيق عدالة انتقالية حقيقية. أما الإمام الوليد الهادي، فقد أضاء على دور المنبر الديني كأداة للمقاومة، معتبرًا أن أزمة السودان الحقيقية تكمن في نوايا المؤسسات العسكرية لا في الشعارات التي ترفعها.
وفي مداخلة ناقدة، طرحت الصحفية دومنيكا تساؤلات حول انحياز الإعلام الخليجي، ودور الأحزاب السياسية في مناطق النزاع، متسائلة عن موقع الصحفيين المستقلين في أطراف الحرب. كما حذّرت أفراح حسن من تصاعد النزاعات القبلية التي باتت تغذيها الحرب، مشددة على الحاجة إلى إرادة سياسية تتجاوز الانتماءات.
المداخلات لم تخلُ من شهادات شخصية مؤلمة، مثل حديث الصحفي إدريس عن التحضير لمواكب 30 يونيو في ظل تهديدات موجهة للنساء، وكذلك إشارات من عبدالله إلى فوضى المنظمات الشبابية وغياب التنسيق، بينما أكد سمير مكين على أن الثورة كشفت عُنف الدولة وجددت إيمانه بقدرة الشعب السوداني على التغيير.
الناشطة النسوية سهاد انتقدت الأداء السياسي ما بعد الثورة، واعتبرت أن الوقت حان لإعادة تعريف الأدوار والبحث عن أدوات جديدة للتأثير، بينما ختمت الصحفية هيام تاج السر حديثها بالتأكيد على رمزية 30 يونيو كحلم جماعي، قائلة: “نريد سلامًا حقيقيًا، لا اتفاقيات مشوهة.”
في الختام
أكد الحضور ، إلى أهمية استمرار هذه الحوارات بين الأفراد والمجتمع المدني لبناء فهم أعمق لأدوارهم في الانتقال من الثورة إلى السلام، مؤكّدًين أن السودان بحاجة إلى أصوات نزيهة وشجاعة قادرة على اجتراح طريق ثالث، خارج ثنائية الحرب والانقسام.
وأن الجلسة لم تكن فقط مساحة للنقاش، بل كانت شهادة حية على نضال السودانيين لأجل وطنهم، من خنادق الثورة إلى ممرات السلام. وبينما تشتدّ أزمات البلاد، يبقى صوت الأفراد، إن نُظِّم وتضامن، هو الخيط الوحيد المتبقي لنسج مستقبل جديد.