كمبالا: سلاميديا
تقرير: حسين سعد
في سهول مشروع الجزيرة والمناقل الممتدة كالحلم، كان المزارعون ينتظرون فصل الزراعة كما ينتظر العاشق لحظة اللقاء يتفقدون الأرض، ينقّبون في وجوه التقاوي، ويشمّون رائحة المطر قبل أن يهطل، وكان الموسم المنتظر يمثل أملاً بالخلاص، ورجاءً بالحصاد، وعوداً بالقمح والذرة والفول، ليعود الخير إلى البيوت، والطمأنينة إلى البطون التي طالها الجوع.
واليوم مع حلول الموسم الصيفي الحالي، يقف المزارع حائراً بين أرض تعطشت للزراعة، وحرب عطلت ثلاثة مواسم، وسوق التهم حلمه البسيط، فالحرب التي اشتعلت في قلب الوطن، لم تترك للأحلام متسعاً لتنمو، ولا للتقاوي أرضاً خصبة، تُلقى فيها، ففي مشروع الجزيرة، أحد أعظم المشاريع الزراعية في أفريقيا، تحوّلت الزراعة إلى “مقامرة” مريرة، وخطيرة، بعدما ارتفعت أسعار المبيدات والأسمدة والتقاوي، بصورة جنونية، ولم تعد الحقول الخضراء، تبشّر بالخير، بل أصبحت ساحات للنضال اليومي من أجل البقاء… المزارع الذي كان يحلم بوفرة الإنتاج، وجد نفسه أمام واقعٍ مُرّ، إذ ارتفعت أسعار التقاوي إلى أضعاف، وغابت المبيدات من الأسواق، أو ظهرت بأسعار تفوق طاقة المزارعين الصغار، أما الأسمدة، فقد باتت نادرة ومكلفة، تضع الزراعة برمتها على حافة الانهيار… هذه الأزمة لم تكن طبيعية أو موسمية، بل كانت نتيجة مباشرة لحرب طاحنة مزّقت البلاد، وعطلت طُرق الإمداد، ورفعت أسعار الوقود والنقل، وجعلت من كل مدخل زراعي سلعة باهظة الثمن، أو أمنية صعبة المنال.
في قرى الجزيرة، تدور الحكايات عن الحقول التي لم تُزرع هذا العام، وعن مزارعين باعوا مواشيهم أو استدانوا لإعداد الأرض، ثم عادوا بـ”خُفّي حُنين” حلمهم المكسور، وخرجوا من ثلاثة مواسم متتالية (صفر اليدين) … في كل وجهٍ قصة، وفي كل قلبٍ وجع… هنا، لا يشتكي الناس من الجوع فقط، بل من ضياع فرصة كانوا يرونها خلاصاً، فحتى من امتلك الأرض، لم يستطع زرعها… هذه المأساة لا تمس المزارعين وحدهم، بل تُهدد الأمن الغذائي، في السودان كله، وتضيف فصلاً جديداً في معاناة بلدٍ أنهكته الحروب، والمجاعات، وسوء الإدارة… وبينما يحاول المزارعون البسطاء، “إنقاذ ما يمكن إنقاذه”، تظلّ الأزمة تطرق أبواب الجميع، في انتظار حلول غائبة، أو موسم آخر، لا يعرف أحد، إن كان سيأتي حقًا !.
ارتفاع مدخلات الإنتاج
ومع حلول الموسم الصيفي الحالي، تواجه مدخلات الإنتاج إرتفاعاً غير مسبوق في أسعار الأسمدة، وأكد عدد من المزارعين في مناطق مختلفة من الولاية، في حديثهم مع (سودانس ريبورترس)، إن أسعار جوال السماد تضاعفت أكثر من أربع مرات، مقارنة بالمواسم التي سبقت الحرب… وقال المزارع علي إبراهيم من مكتب الترابي بالقسم الشمالي: “ما عندنا قُدرة نشتري السماد، والبنك الزراعي، لا يوفر تمويل، كل حاجة بقت نار، والأسمدة ما بقت للزراعة، بقت تجارة للناس المقتدرة”… وفي مكتب المعيلق بالقسم الشمالي، إتفق المزارع محمد حسن عثمان، مع ما ذكره علي ابراهيم، وأضاف: التحضير للأرض مُكلف، والتقاوي والأسمدة غالية.
وفي إمتداد المناقل، الذي لم تدخله قوات الدعم السريع، عند هجومها على الجزيرة، توجد ذات المشكلة، وهي إرتفاع مدخلات الإنتاج، بحسب المزارع المهل الضوء، من تفتيش المنسي، وفي المقابل أكد تحالف مزارعي مشروع الجزيرة والمناقل، إن إرتفاع مدخلات الأنتاج الزراعي، يهدد العروة الصيفية بالفشل، لافتاً إلي إن سعر جوال السماد اليوريا بلغ (90) ألف جنيه، بدلاً من (30) ألف جنيه، في العام الماضي، وجوال السماد الداب، إرتفعت قيمته من (40) ألف جنيه، في العام الماضي، إلي (120) ألف جنيه.
المجاعة ونقص الغذاء
وفي المقابل، قال رئيس مجلس إدارة مشروع الجزيرة والمناقل في الحكومة الانتقالية، صديق عبد الهادي، إن موضوع التقاوي والأسمدة، يظل هو القضية الأهم في المشروع، لأنّ هذه هي مدخلات الإنتاج، التي تقوم عليها الزراعة، ولذلك، فهي دائماً من أولى المهام لإدارة للمشروع، وأضاف: هذا من جانب، وأمّا من الجانب الأخر، يجب ألّا تخضع قضية التقاوي والأسمدة، للتوقعات، ولعشوائية التخطيط، أو للتعامل معها بمنطق السوق، على إنها سلعة، كما حدث ذلك، في فترة سلطة الإنقاذ، التي تعاملت مع قضية التقاوي والأسمدة بطريقة منسجمة مع فكرة تخصيص المشروع، وبل، كان أداة في تحقيق تلك الفكرة وإنجازها، وأوضح صديق عقب انقلاب (25 أكتوبر)، وعودة النظام السابق، رجع ذات التعامل مع كل قضايا الزراعة، ومقوماتها، ومن ثم خضوعها لمنطق السوق… ويري عبد الهادي، أنّ قضية التقاوي والأسمدة، ليس صدفة، ويجب أن تتصدي إدارة المشروع، لهذه القضية الملحة والمحاولة للمساهمة في حلها، وتخفيف عبئها على المنتجين، خاصة أنّ المصاعب التي خلفتها الحرب، ما زالت تخيم على المشروع، وتوفير التقاوي والأسمدة لمواجهة المجاعة التي تلوح في الأفق، تصبح الواجب الأوّل، لإنقاذ الموسم الزراعي.
الأرض التي تنتظر الحصاد
بين ألسنة اللهب، ودخان البنادق، تئن الزراعة السودانية، تحت وطأة حرب لم تبقِ ولم تذر… لقد كشفت الأزمة عن هشاشة المنظومة الزراعية في البلاد، ومدى ارتباطها العميق بالاستقرار السياسي، والأمني، فمع تدمير البنية التحتية، وتشريد المزارعين، وغياب التمويل، وارتفاع أسعار المبيدات، والأسمدة، والتقاوي، إلى مستويات خيالية، أصبحت الزراعة – التي كانت يوماً تُعرف بأنها (مورد السودان الأخضر) – على شفا الانهيار، ما يتعرّض له القطاع الزراعي اليوم لا يهدد فقط الإنتاج، بل يُشكّل تهديداً بيئياً وصحياً خطيراً للأجيال القادمة، كما أن تقلُّص المساحات المزروعة، وارتفاع تكلفة الإنتاج، قد يتركان آثاراً بعيدة المدى على الأمن الغذائي في البلاد، ويزيدان من معدلات الفقر والجوع، في مجتمع يعتمد بنسبة كبيرة على الزراعة، في حياته اليومية… إن استمرار هذا الوضع دون تدخل عاجل، يعني أن السودان، قد يخسر أحد أعمدة اقتصاده الرئيسية، ويجد نفسه في مواجهة مجاعة واسعة النطاق، وعليه، فإن إنقاذ الموسم الزراعي، وضمان وصول المدخلات الزراعية بأسعار معقولة وآمنة، وإعادة تأهيل ما دمرته الحرب، من منشآت ومخازن وطرق، لم يعد خياراً مؤجلاً، بل أولوية وطنية، تستدعي تضافر الجهود المحلية والدولية، قبل فوات الأوان.
نقلا عن سودان ريبورتس