تقرير: سلاميديا

هربت جوليا آدم من جحيم الرصاص حاملة طفلتيها على أمل النجاة؛ لكن الموت بدون رصاصة كان بانتظار إحدى الطفلتين على الضفة الأخرى من رحلة الهروب إلى أحد مراكز الإيواء بمدينة بورتسودان. تقول جوليا بصوت يثقله الحزن، انها نقلت طفلتيها إلى المستشفى بعد إصابتهما بالكوليرا، حيث نجح الأطباء في إنقاذ إحداهما فقط، فيما فارقت الأخرى الحياة “لأن مرضها كان أقوى”. 

وفي مشهد آخر، يروي محجوب صالح، رجل ستيني نزح من الخرطوم الى بورتسودان، كيف باغته إسهال حاد وتقيؤ في إحدى الليالي؛ فتم نقله على عجل إلى مركز عزل الكوليرا. هناك، وسط تجهيزات شحيحة وكادر منهك، تكافح المراكز الطبية للبقاء في الخدمة، شأنها شأن 70% من المؤسسات الصحية التي أثرت الحرب في قدرتها على الخدمة، فلم يعد الرصاص هو القاتل الوحيد.

بينما تسلّط الأضواء على المعارك والقصف والانتهاكات المسلحة، ينتشر موتٌ آخر في الظلال، أكثر بطئًا وقسوة، حيث يعيش ملايين السودانيين في معسكرات النزوح أو المناطق المحاصرة، محرومين من الماء النظيف، العلاج والغذاء الكافي. ومع تفشي الأوبئة والأمراض مثل الكوليرا، والحصبة، والملاريا مع الجوع أصبح الموتى لا يُحصون فقط بين ركام المباني، بل أيضًا تحت سقوف العنابر والخيام المهترئة، وبين ذراعي أمهات عاجزات، وفي طرقات معسكرات النزوح حيث لا دواء ولا غذاء.

تسبب انهيار النظام الصحي، وغياب الدولة، والحصار الخانق على بعض المدن، في تفشي أمراضٍ يمكن علاجها في الظروف العادية، لكنها أصبحت اليوم حكمًا بالإعدام البطيء. 

هذا التقرير يغوص في عمق الكارثة الصحية في البلاد، ويرصد إحصائيات الضحايا الذين فتكت بهم الأوبئة، مقارنة بموتى الرصاص، وكيف يُترك المدنيون لمصيرهم في صمتٍ، لا تلتقطه وسائل الإعلام. 

خريطة تفاعلية: حول إحصاءات الوفيات والإصابات في الولايات

لمتابعة الخريطة التفاعلية اضغط على الرابط ادناه 

انهيار القطاع الصحي:

قضت الحرب التي اندلعت في السودان على القطاع الصحي الضعيف بالأساس، ففي 21 مايو 2025، خلال اجتماع جانبي لمنظمة الصحة العالمية، ذكر المدير العام دكتور، تيدروس أدهانوم، أن 20 مليون شخصاً بحاجة للمساعدة الصحية، وأن تغطية التطعيم تراجعت إلى ما دون 50%. بينما قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في تقرير بمناسبة مرور عامين على الحرب في السودان، إن 70 إلى 80% من المرافق الصحية في المناطق المتضررة متعطلة، ما أدى إلى حرمان ثلثي المدنيين من الرعاية الطبية. وذلك ما أكدته تقارير وزارة الصحة الاتحادية بخروج 70% من المستشفيات والمراكز الصحية عن  الخدمة في ولايات (الخرطوم، دارفور، كردفان، الجزيرة، سنار، النيل الأبيض وأجزاء من إقليم النيل الأزرق)، فيما تعطل أكثر من 250 مستشفى في القطاعين العام والخاص؛علاوة إلى خروج أكثر من 60% من الصيدليات ومخازن الأدوية عن الخدمة، إما بسبب النهب أو التلف. وأشارت الوزارة إلى أن إجمالي خسائر قطاع الصحة في السودان تقدر بنحو 11.04 مليار دولار أمريكي، شاملة المباني، الأجهزة والمعدات الطبية، الأثاث الطبي، سيارات الإسعاف والمحركات والأدوية والمستهلكات الطبية. ووفقاً لتقرير وزارة الصحة فإن من آثار التداعيات الكارثية للحرب على القطاع الصحي “تفشت الأمراض والأوبئة وازدادت حالات الإصابة بأمراض مثل الملاريا، الكوليرا وحمى الضنك”

انتشار الوبائيات بعد الحرب 

أدى الدمار الواسع الذي لحق بالقطاع الصحي في السودان نتيجة الحرب المستمرة منذ أبريل 2023م إلى موجة تفشٍ كارثية للأمراض الوبائية، شملت كل ولايات البلاد. وعلى أثر الغياب الملحوظ للرعاية الطبية الأساسية، تفاقمت الإصابات بأمراض مثل الكوليرا، الملاريا، حمى الضنك، الحصبة، واحمرار العين، مما ينذر بكارثة صحية طويلة الأمد.

الملاريا

بحسب منظمة الصحة العالمية، فإن حالات الملاريا في السودان خلال العام 2023م، قُدرت بـ 3.4 مليون إصابة بينها 7,900 حالة وفاة؛ بينما ذكر وزير الصحة الدكتور، هيثم محمد إبراهيم، أن السودان سجل 1.5 مليون إصابة بالملاريا، منها 900 وفاة خلال العام 2024م. وبناءً على التقرير الصادر عن ReliefWeb، أنه تم تسجيل أكثر من 1.2 مليون حالة ملاريا سريرية بحلول فبراير 2024م، دون ورود ذكر للوفيات.

حمى الضنك

في العام 2023 م، تم تسجيل ألف حالة إصابة بينها 11 حالة وفاة؛ تلا ذلك تباين في الإحصاءات حول تراكمي الإصابة بحمى الضنك في العام 2024م. ففي الوقت الذي أشارت فيه الأمم المتحدة الى تسجيل حوالي 4,544 إصابة و12 وفاة في عام 2024م، جاءت إفادة لجنة أطباء السودان المركزية أن إجمالي الإصابات في ذات العام بلغ 7,632 إصابة، بينها 253 وفاة؛ بينما ذكرت  وزارة الصحة إن تراكمي الإصابات بلغ حوالي 2,024 إصابة تضمنت 9 وفيات. 

وشهد العام الجاري إرتفاعاً واضحاً في تراكمي الإصابات بحمى الضنك بتسجيل حوالي 13,314 حالة إصابة منها 21 وفاة ــ وفقاً لتقرير وزارة الصحة الصادر في الثامن من يوليو المنصرم.

الكوليرا

سُجلت أول حالة إصابة بالكوليرا في ولاية القضارف في أغسطس 2023م، قبل تفشيه السريع في كل ولايات البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية ــ بحسب تقارير وزارة الصحة الاتحادية. ففي العام 2024م أشار تقرير لوزارة الصحة الى تسجيل 24,604 إصابة منها 699 وفاة؛ في حين تضاعف عدد الإصابات والوفيات إلى أربعة أضعاف في العام الحالي ــ بموجب تقرير وزارة الصحة الاتحادية الصادر في الخامس من أغسطس الجاري، الذي أورد أن تراكمي الإصابات بلغ 96,681 إصابة، منها 2,408 وفاة مسجلة في 129 محلية بجميع الولايات خلال 30 اسبوعاً من العام الحالي.

وبالرغم من زعم الوزارة إن الإحصاءات التي وردت في تقريرها تشمل جميع ولايات البلاد؛ إلا أن وزارات الصحة بولايات دارفور أكدت (سلاميديا) غياب التواصل بينها وبين الوزارة في بورتسودان، فيما يخص عمليات رصد ومتابعة الوبائيات منذ اندلاع الحرب؛ ما يثير شكوكاً حول دقة الإحصاءات التي أوردتها الوزارة الاتحادية بشأن الوبائيات في البلاد، خاصة في ظل الانتشار الواسع للكوليرا في ولايات دارفور وبعض ولايات كردفان وعدد من معسكرات النزوح.

تصف منظمة الصحة العالمية تفشي المرض في ولايات دارفور وكردفان بأنه “مثير للقلق” بسبب صعوبة الوصول وتدهور الأوضاع الصحية والإنسانية في تلك المناطق. ولاحظ فريق (سلاميديا) من خلال البحث أن وباء الكوليرا هو الأكثر فتكاً بالسكان، حيث ارتفع  معدل الوفيات بالكوليرا بنسبة متأرجحة بين 2.5%  إلى 4.4% في بعض معسكرات النزوح وهو أعلى من المعدل العالمي 1%.

في ظل تباين الإحصاءات حول الإصابات والوفيات، حسب تقارير وزارة الصحة الاتحادية والمنظمات الدولية العاملة في المجال الصحي في ظل استمرار القتال، وتراجع القدرة على الاستجابة؛ يبقى ملايين السودانيين تحت رحمة الأوبئة؛ في واحدة من أكبر الأزمات الصحية التي يشهدها السودان في تاريخه الحديث. 

نازحون محاصرون بالأوبئة

تشهد بعض معسكرات النزوح في عدد من مدن السودان تفشياً مريعاً لوباء الكوليرا؛ وتشير المنسقية العامة للنازحين واللاجئين إلى أن إجمالي الحالات اليومية التراكمية في معسكرات النزوح في اقليم دارفور حتى الثالث من أغسطس الحالي، بلغت 3,901 إصابة، منها 191 وفاة؛ وارتفعت تباعاً الى 5,211 إصابة بينها 229 وفاة بحلول العاشر من نفس الشهر. ويقول آدم رجال، المتحدث الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين، إن الكوليرا تتفشى بسرعة بين النازحين في ظل شح مياه الشرب النقية، ونقص الاحتياجات الطبية الأساسية، ونقص الغذاء في المعسكرات.

في ذات الأثناء أعلنت لجنة محاربة وباء الكوليرا بمناطق سيطرة الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال بجنوب كردفان/ جبال النوبة، أن حالات الإصابة بالكوليرا بلغت 460 إصابة في نهاية شهر يونيو الماضي؛ ولم تذكر مؤسسات الحركة ما إذا كانت هناك وفيات بسبب الكوليرا في مناطق سيطرتها. وأشارت الى أنه تم عزل المصابين بمراكز العزل الطبي في مستشفى القديل بمنطقة (كونجو)، مركز منظمة أطباء بلا حدود البلجيكية، ومستشفى لويري.

الرصاص و الوباء الصامت

ورد في هذا التقرير أكثر من 28,700 وفاة خلال سنوات الحرب الثلاث، بينها نحو 7,500 مدني فقدوا حياتهم جراء الهجمات مباشرة ــ بحسب بيانات (ACLED)، في حين تُرجّح تقديرات أخرى أن العدد الفعلي للضحايا قد يصل إلى 150,000 شخصاً. بالمقابل نجد أن الأوبئة أيضاً تحصد أرواحًا في هدوءٍ تام وبلا ضجيج. فالكوليرا وحدها أهلكت أكثر من 2,408 نفساً هذا العام.

لا يموت المواطن في السودان برصاص الحرب وحده؛ ففي الوقت الذي تتركز فيه أنظار العالم في ضحايا المعارك، هنالك آلاف الناس تموت في صمت تحت وطأة الأوبئة التي تصيب الأطفال والنساء والمسنين في المخيمات والقرى البعيدة، دون أن تلتقطهم كاميرات العالم أو تصلهم قوافل النجاة. إنها حرب من نوع آخر، بلا صدى، لكنها لا تقل فتكاً. 

فما لم يتحرك العالم سريعاً، فإن هذا (الموت الصامت) سيواصل حصد الأرواح. فهؤلاء الذين يموتون اليوم في صمت بسبب غياب الماء النظيف، وانهيار المشافي، وانتظار دواء لن يأتي، لا يحتاجون إلى بيانات مناصرة وتعاطف؛ بل إلى أفعال تنقذ أرواحهم. كل لحظة تأخير في التدخل هي فرصة أخرى لانتصار الموت. فهل سيتحرك الضمير الإنساني قبل أن تحول الأوبئة السودان إلى مقبرة مفتوحة لشعب بأكمله؟