بين أصوات المدافع وأنين الجوعى، يعيش السودان حالة أشبه بالانقسام بين حكومتين عسكريتين؛ وسياسيين مدنيين بحت أصواتهم في مناداة عودة الحكم المدني، مع تناثر أحلام المواطنين تحت ركام البيوت المهدمة. وبين هذا وذاك، في أغلب القرى والمدن، هناك أمهات يبحثن عن لقمة عيش، وأطفال يتعلمون الخوف قبل الحروف، وشباب يحدقون في مستقبل غامض لا ملامح له. وتتكرر ذات المشاهد في دول الجوار حيث ملايين اللاجئين يواجهون مرارة العيش، يأملون في يوم تفتح لهم فيه أبواب العودة إلى وطن آمن بلا رصاص. وسط هذا الظلام، يتشبث السودانيون بخيط رفيع من الأمل، يسألون “هل يمكن أن يولد السلام من قلب هذا الخراب، أم أن المجد بات فعلاً للبندقية وأن الحرب قد قضت على الحق في العيش بسلام؟”

حكومتان وتحديات الوحدة

بعد عامين من المعارك الدامية والخراب الذي طال معظم البلاد، اتجهت أطراف الحرب إلى تشكيل حكومتين متنافستين في شرقي وغربي البلاد بحثاً عن الشرعية المفقودة منذ 25 أكتوبر 2021م، كما تقول القوى السياسية المدنية. فالقوات المسلحة وحلفائها جاءت بالدكتور/ كامل ادريس، رئيساً للوزراء بعد عامين من اندلاع الحرب الحالية، ليكون وجها مدنياً لحكومة عسكرية تحت إمرة القوات المسلحة.

 في المقابل خرج تحالف (تأسيس) الذي يقوده الفريق/ محمد حمدان دقلو، قائد الدعم السريع وينوبه عبد العزيز الحلو قائد الحركة الشعبية – شمال؛ وجاء بالسيد/ محمد حسن التعايشي، رئيساً مدنياً للوزراء، تحت إمرة ذات الطابع العسكري أيضاً؛ في حين اشتملت الحكومتان في تكوينهما على بعض القوى السياسية المدنية. وخارج المكونين اختار التيار الثالث (صمود) أن يبقى في الحياد بحثاً عن سبيل لإعادة الأمور إلى مربع ما قبل 25 أكتوبر 2021م.

يشير الدكتور/ عاطف آدم عجيب، الأستاذ الجامعي المختص في دراسات السلام، إلى أن هذا التشرذم يفاقم الانقسامات الجهوية والهوياتية ويعطل فرص التوافق الوطني،ويعتبر أن ضعف تنظيم التيارات المدنية وغياب الرؤى، من المعوقات الرئيسية أمام تحقيق السلام. 

بينما يرى الدكتور/ شمس الدين ضو البيت، المستشار وعضو الوفد الحكومي لمفاوضات سلام جوبا، أن المشهد السوداني اليوم تحكمه معادلة تثبيت الأمر الواقع بين طرفين أساسيين ــ الحركة الإسلامية من جهة، وتحالف تأسيس من جهة أخرى ــ مع ما يبدو أنه توافق أو على الأقل قبول من جهة المجتمع الدولي والإقليمي بهذا التوازن الهش. وذكر ضو البيت أن النظام في بورتسودان بدأ خطوات لتقنين شرعيته، عبر تعيين رئيس وزراء مدني وعدد من الوزراء، وفتح قنوات اتصال مع المجتمعين الدولي والأفريقي باعتبار حكومة الأمر الواقع، وكذلك يسلك الطرف الآخر ذات المسار. ويضيف، أن كثيراً من المواقف المعلنة من منظمات كالاتحاد الأفريقي، الإيقاد وجامعة الدول العربية لم تغيّر حقيقة أن معظم القوى الدولية والإقليمية الكبرى- من الولايات المتحدة وبريطانيا إلى مصر والسعودية والإمارات – لا تُظهر تضرراً حقيقياً من تقسيم السودان، وربما يجد بعضها مصلحة مباشرة في السيناريو الماثل. 

ويقول الدكتور/ ضو البيت  إن تقسيم السودان هو مخطط قديم بالنسبة للحركة الاسلامية، منذ خمسينيات القرن الماضي، وهي ترى – وفق ذا المخطط – أن جنوب السودان إذا أصبح عائقاً أمام قيام دولة إسلامية في السودان فلينفصل. ويفسر أن كلمة (عائق) تدل على معنى فضفاض يمكن أن ينطبق على أي جزء من السودان، إذا كان لدى سكانه تطلعات لا تتماشى مع تطلعات الحركة الإسلامية؛ مضيفاً “من هذا المنطلق جاءت ورقة مثلث عبد الرحيم حمدي 2005م، التي تنص على أن دارفور تمثل عائقاً، وإن أرادت أن تبقى في السودان الموحد فلتبقى بشروط الحركة الاسلامية وإلا فلتذهب”. وأشار إلى احتمالية وجود من يدعم هذا التوجه من المسئولين في حكومة بورتسودان، ويظهر ذلك جلياً – بحسب ضو البيت – في الإشارات التي أطلقها حاكم إقليم دارفور مني اركو مناوي بقوله “إن مسئولين كبار في الدولة يرون تحرير الخرطوم والجزيرة يكفي ولا داعي للتقدم نحو كردفان ودارفور”.

حكومة تأسيس والمخاوف الدولية

إن إعلان تحالف (تأسيس) تشكيل حكومته التي يترأسها قائد الدعم السريع، الفريق/ محمد حمدان دقلو، لم يلاقي اعترافاً حتى الآن. ومقابل ذلك، أصدر مجلس الأمن الدولي في 13 أغسطس 2025م، بياناً بعد جلسة خصصها لمناقشة الوضع في السودان، أعلن فيه رفضه إنشاء سلطة حكم موازية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. وأعرب المجلس عن قلقه البالغ إزاء تداعيات تلك الإجراءات التي تمثل تهديدا مباشراً لسلامة أراضي السودان ووحدته، وينذر بتفاقم الصراع والوضع الإنساني المتردي أصلاً، ولا سيما تفتيت البلاد،. وشدد على أن الخطوات الأحادية الجانب ستدفع بتقويض مبادئ سيادة السودان واستقلاله ووحدته وسلامة أراضيه؛ ولا تعد مهدداً لمستقبل السودان فحسب، وإنما السلام والاستقرار في المنطقة ككل. 

 وفي سياق متصل، أعلن مجلس السلم والأمن الأفريقي في بيان عقب اجتماعه في الرابع من أغسطس 2025م، رفضه إنشاء حكومة موازية في السودان بواسطة تحالف (تأسيس). ودعا المجلس جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي والمجتمع الدولي إلى رفض الاعتراف بحكومة تأسيس لأنها تهدد وحدة السودان. وفي المقابل تتمتع حكومة بورتسودان باعترافاً ضمنياً وتعاملاً أشبه بالرسمي من المؤسسات الدولية. 

يفسر الدكتور/ أبكر محمد أبو البشر، الباحث والأكاديمي والمفاوض السابق في منبر أبوجا لسلام دارفور، مخاوف المجتمع الدولي من خطوة تشكيل حكومة موازية في غرب السودان، بقوله إن مسار الانقسام، إذا استمر، سيقود حتمًا إلى نشوء كيانات هشة غارقة في التناقضات الداخلية، ما سيؤدي إلى انفجار أزمات أمنية واجتماعية جديدة. 

وحذر أبو البشر، من أنه في حال نشوء دولة جديدة في غرب السودان، ستجد نفسها أمام تحديات ضخمة في إدارة التنوع الإثني والثقافي واللغوي، وهي إشكالات متجذرة في إقليم دارفور منذ عقود. ومع غياب الخبرات والبرامج القادرة على احتواء هذه التناقضات، ستكون الأوضاع مرشحة لمزيد من العنف الداخلي، فضلًا عن احتمالات استغلال الانقسامات من قبل أطراف داخلية وخارجية. ولم يستبعد أبو البشر أن يحدث ذات السيناريو مع الجزء الآخر من السودان، بقوله أن الوضع ليس أفضل، إذ يرى أن عودة الحركة الإسلامية إلى السلطة عبر القوات المسلحة وحكومة كامل ادريس التي يهيمن عليها الإسلاميون، لن تمثل خطوة نحو حلول حقيقية، بل ستعيد إنتاج إخفاقات الماضي في التعامل مع قضايا الحريات، الديمقراطية وحقوق الإنسان، إضافة إلى الفشل في تحقيق التنمية المتوازنة.

ويرجّح أبو البشر أن الحرب ستستمر، ليس فقط داخل كل دولة على حدة، بل ربما بين الدولتين – على غرار ما حدث بعد انفصال جنوب السودان. وبرأيه، فإن الأطراف المتحاربة تفتقر إلى القدرة أو الإرادة لفرض حلول شاملة، إذ ينحصر أقصى ما يمكنها التوصل إليه في تفاهمات مصلحية ضيقة، بعيدًا عن معالجة جذور الأزمة أو وقف الانقسام. وحتى المساعدات الإنسانية، في حال التدفق، ستظل مرتبطة بظروف الحرب والتقسيم، ما يعني استمرار المعاناة الإنسانية.

سيناريو نظامين في دولة

يشير الدكتور/ شمس الدين ضو البيت، إلى أن الضغوط الدولية، خاصة الاجتماع الذي تم في جنيف بحضور الدعم السريع وغياب القوات المسلحة، بجانب خارطة الطريق التي قدمها الفريق/ البرهان لمجلس الأمن الدولي، علاوة على تشكيل تحالف (تأسيس) واعلانه حكومة موازية لاحقاً؛ كلها عوامل تؤدي إلى (وضع جديد في سياق قديم) وهو دولة واحدة بنظامين “اعتقد ان الوضع الحالي يسير بتوافق ما مع المجتمع الدولي لتكريس وتثبيت وتقنين شرعية النظامين في دولة، رغم بيانات الاتحاد الأفريقي والإيقاد والجامعة العربية الرافضة لهذا الاتجاه، لكن بصورة عامة إذا تم تحليل مواقف هذه الدول لا يوجد بينها متضرر من تقسيم السودان، بالعكس هناك دول مصلحتها في التقسيم”. ويؤكد ضو البيت أن  المقترح الذي يقضي بنظامين داخل دولة واحدة، كان بداية لعملية انفصال جنوب السودان، مضيفًا أن الخطوات الحالية تمضي على نفس المسار، وإن اختلفت التفاصيل، مما يطرح تحديات جديدة أمام تحقيق سلام شامل ومستدام. 

فيما يرى الدكتور/ محمد أبو البشر أن إعلان حكومتين في السودان، سيقود بلا شك إلى تعقيد كل المساعي الهادفة للتوصل إلى حلول حقيقية، مستدلاً بتجربتي الصومال وليبيا. وفي تحليله لوضعية الحكومتين في بورتسودان ونيالا يقول أبو البشر، أن حكومة بورتسودان تحظى بشبه اعتراف دولي، لكن تنقصها الموارد الإقتصادية لتسيير دفة الحكومة، بجانب أن عدد من قادتها الإسلاميين مطلوبين لدى القضاء الدولي؛ فضلاً الفساد المالي والإداري اللذين يشكلان أكبر مشكلة تواجه استمراريتها كدولة.

أما بالنسبة للحكومة الموازية في نيالا، فيقول “رغم أنها ستكون غنية بمواردها البشرية والاقتصادية، إلا أنها ستواجه أيضاً مشاكل كبيرة، مثل عدم اعتراف المجتمع الدولي بها كدولة قائمة بذاتها؛ وقد ظهر ذلك بعد مؤتمر نيروبي التأسيسي، إذ أن الدول الغربية نددت بالتوجه لإقامة حكومة موازية ــ على حد قوله، وتابع “أهم معضلة تواجه حكومة نيالا هي مدى اعتراف القبائل الإفريقية بقيادة هذه الحكومة التي مؤسسها من القبائل العربية”. وذكر أبو البشر، أن هناك معضلة مشتركة بين الحكومتين، تتمثل في أن الحركات المسلحة من غرب السودان انقسمت إلى فريقين كلٌ منهما يناصر إما بورتسودان أو نيالا. ويبقى السؤال الذي يواجه الجهة التي تريد أن تسوق الأطراف للتفاوض؛ هل تعمل أولاً على مصالحة أفراد القبائل المسلحة الموزعة بين الحكومتين؟ أم تدعو للتفاوض المباشر بين الحكومتين؟ وأين دور المواطن المشرد (نازح أو لاجئ)؟ وأكد أن قيام حكومتين في السودان إشارة واضحة بأن حكومة بورتسودان تخطط لعودة الإسلاميين إلى السلطة، أما حكومة نيالا فهي من أجل تأسيس دولة التجمع العربي، فالمسألة زادت تعقيداً ــ على حد تعبيره.

وذهب الصحفي/ خالد محمد طه ،المهتم بشؤون القرن الأفريقي، ليعدد ما ارتكزت عليه قوات الدعم السريع لتكوين حكومة موازية، من العمق الاجتماعي والاقتصادي في غرب السودان، وسيطرتها على موارد الذهب والطرق الحيوية التي تربط الإقليم بدول الجوار مثل ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان؛ ووصفها بأنها عوامل تجعل التفكير ممكناً لإقامة (سلطة أمر واقع) كأداة للمناورة السياسية والإرباك العسكري، لكنها تظل على (رمال متحركة) بفعل تنامي الخلافات القبلية. ونوه الى أن الدعم السريع يسعى لفرض نفسه كطرف أساسي في أي تسوية قادمة، مشيراً إلى تعيين حكاماً على الشرق، الشمال والخرطوم، بعد الاكتفاء سابقاً بإنشاء إدارات مدنية في مناطق سيطرته. وذكر طه، أنه حتى الآن لا توجد مؤشرات جدية على اتفاق صريح لتقسيم السلطة بين القوات المسلحة والدعم السريع، في حين يشير الواقع الميداني إلى (توازن قسري)، حيث تسيطر القوات المسلحة على الشمال والشرق والوسط، بينما يتمركز الدعم السريع وحلفاؤه في الغرب وأجزاء من النيل الأزرق وجبال النوبة. ويرى طه، أن الوضع قد يبدو مشابهاً للتجربة الليبية مع وجود أكثر من سلطة، إلا إن فارق الانقسام في السودان لم يُعلن رسمياً، بل جاء نتيجة تعثر الحسم العسكري.

التعقيدات العسكرية والسياسية

في إشارة مهمة تعكس تعقيدات المشهد العسكري والسياسي، يقول الدكتور/ شمس الدين ضو البيت، “اتفاقية جدة نصت على خروج قوات الدعم السريع من بيوت المواطنين، تلتها اتفاقية جنيف التي تحدثت عن حماية المدنيين، وبعد ذلك تم تحرير الخرطوم والجزيرة، والسماح بانسحاب قوات الدعم السريع بالصورة التي تمت بها، حيث عبرت قواتها جسر جبل أولياء راجلين على الأقدام وعلى مركباتهم دون اعتراض من القوات المسلحة، وهو ما يثير تساؤلات كبيرة”. ورجح أن يكون هذا الأمر مرتبطًا بتنفيذ غير مباشر لاتفاق جدة في السياق الحربي، خاصة بعد تقديم الفريق/ البرهان خارطة طريق إلى الأمم المتحدة في فبراير 2025م، تضمنت انسحاب قوات الدعم السريع إلى حواضنها كشرطًا لإيقاف الحرب، ما يفسر طريقة خروجهم من الخرطوم.

بينما يرى الباحث في الشأن السوداني الاستاذ/ التجاني الحاج، خلاف ذلك  مرجحاً أن الانسحابات جاءت نتيجة لاحتمال استخدام القوات المسلحة أسلحة كيميائية في الخرطوم وسنار، وكذلك في مناطق بالجزيرة ودارفور، وهو ما دفع الدعم السريع إلى اتخاذ قرار عسكري بالانسحاب إلى العمق في كردفان ودارفور، مؤكداً أن القرار ليست له صلة مباشرة بتكوين حكومة موازية؛ قائلاً “الكثير من المعلومات المتداولة بشأن ملابسات انسحاب الدعم السريع من الخرطوم ومناطق جبل موية بولاية سنار ومناطق أخرى، تربط تلك التطورات بوجود تفاهمات متبادلة بين القوات المسلحة والدعم السريع، أو بوساطات إقليمية مثل تركيا، غير صحيحة”.وأضاف الحاج “لا اعتقد وجود تفاهمات عسكرية بين الطرفين حول قيام نظامين سياسيين داخل دولة واحدة” لافتاً إلى أن الاتجاهات الراهنة نحو وجود نظامين أو حتى انفصال الدولة إلى كيانين، فرضتها الحرب المستمرة منذ أكثر من عامين، إلى جانب تراكمات التهميش السياسي والانقسامات الاجتماعية.

وأشار إلى أنه رغم ذلك لا يمكن استبعاد العامل العسكري كواحد من الشروط التي دفعت نحو القبول بطرح نظامين سياسيين كمخرج محتمل لإطالة أمد الحرب، مبيناً أن “غياب أي انتصار ساحق لطرف على الآخر بعد عامين من القتال جعل القوى السياسية المساندة لكل طرف أكثر استعداداً لقبول خيارات بديلة لإنهاء الحرب، ومن بينها خيار نظامين سياسيين كثمن لإيقافها”، مؤكداً أن هذا الطرح أصبح يتردد في خطابات وتحليلات متعددة في الآونة الأخيرة.

فيما قال الصحفي خالد محمد طه المهتم بشئون القرن الأفريقي، إن الحديث عن أن انسحاب قوات الدعم السريع من الخرطوم والجزيرة كان خطوة لتمهيد إعلان حكومة موازية في غرب السودان (لا يستقيم)، موضحاً أن مؤشرات مبكرة منذ منتصف 2024م كانت تدل على أن قيادة الدعم السريع تسعى لتركيز ثقلها في دارفور وكردفان، بعد أن واجهت صعوبات في الحفاظ على انتشارها الواسع في العاصمة والمناطق الوسطى. وأشار طه إلى أن القوة فقدت عناصر ميدانية مؤثرة تميزت بسرعة الحركة وكثافة النيران، ما جعل من الصعب عليها مواصلة السيطرة على الخرطوم والجزيرة وأجزاء من ولايات سنار والنيل الأبيض وحتى تخوم القضارف والنيل الأزرق. 

وتوقف طه عند واقعة السماح لقوات الدعم السريع بالخروج من الخرطوم عبر جسر خزان جبل أولياء دون مواجهة عسكرية مباشرة، في حين أُخرجت من بحري ومعظم أنحاء العاصمة عبر معارك متواصلة. واعتبر أن هذه الخطوة ربما عكست توافقاً في رغبات الطرفين دون اتفاق معلن، إذ سعت القوات المسلحة إلى نقل ساحة المعركة غرباً لتحقيق مكاسب معنوية واستثمار العوامل الاجتماعية لتفتيت الدعم السريع وحلفائه. منبهاً إلى أن القوات المسلحة ما زالت تعلن أن هدفها هو سحق خصمها عسكرياً. واعتبر أن انسحاب الدعم السريع من وسط السودان باتجاه الغرب هو إعادة تموضع إستراتيجي أكثر من كونه انسحاباً كاملاً، ما يفتح الباب أمام جولة جديدة من القتال.

واستبعد الخبير العسكري معين يحيى، إن يكون انسحاب قوات الدعم السريع من ولاية الجزيرة ووسط الخرطوم تم بموجب اتفاق مع القوات المسلحة، وإنما جاء نتيجة ظروف ميدانية واستراتيجية. وأوضح يحيى أن القوات المسلحة لا تخوض الحرب بالسلاح والذخيرة والجنود فقط، بل تعمل على قطع الإمداد وتشتيت قوة الدعم السريع وحصرها في مناطق ضعف، مشيراً إلى أن الدعم السريع واجه صعوبات لوجستية بعد محاولاته فتح منفذ عبر إثيوبيا لتأمين الإمداد، وهو ما تمكنت القوات المسلحة من عرقلته.

وأضاف أن استعادة القوات المسلحة منطقة جبل موية، بوصفه موقعًا استراتيجيًا يحمي الجزيرة والنيل الأزرق، دفع قوات الدعم السريع إلى التراجع، واصفًا انسحابها بالذكي ويصب في مصلحة الطرفين على حد سواء، إذ أعاد قوات الدعم السريع تموضعها في اتجاه كردفان لتشكيل خط دفاعي متماسك. 

وأشار يحي إلى أن هذا التموضع سمح للدعم السريع بالتركيز على الفاشر ومحاولة السيطرة عليها كجزء من خطة دفاعية مرتبطة بكردفان، بما قد يفتح الباب أمام ترتيبات سياسية مثل تشكيل حكومة تأسيس أو السعي إلى حكم فيدرالي عبر المفاوضات. وذكر الخبير العسكري أن ما يجري على الأرض يعكس تداخلًا بين البعدين العسكري والسياسي، حيث تحاول الأطراف المتحاربة استخدام التموضع الميداني وسير المعارك كأوراق ضغط في مسار التفاوض المرتقب.

مبادرات السلام: التشتيت وتضارب الأجندة

على الرغم من تعدد مبادرات السلام على الصعيدين المحلي والدولي، آخرها اجتماع الرباعية ولقاء الفريق/ البرهان في سويسرا بــ مسعود بولس، مستشار الرئيس الامريكي للشرق الاوسط، إلا أن غياب الوحدة والاتفاق بين الأطراف العسكرية والمدنية، بالإضافة إلى تضارب المصالح الإقليمية والدولية، يعد من أبرز العوائق أمام إحراز تقدم حقيقي. وبرز التضارب في بيان مجلس السلم والامن الافريقي بالإعراب عن قلقه إزاء عدم التنسيق بين مبادرات السلام المتعددة بشأن السودان؛ وطلب المجلس من رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي عقد اجتماع لجميع الجهات الفاعلة المشاركة في جهود السلام في السودان بهدف توحيدها في عملية واحدة بقيادة الاتحاد الأفريقي والايقاد، وذلك لتجنب ازدواجية الجهود وانتشار مبادرات السلام. ودعا في ذات الوقت إلى إعادة تنشيط الدور المركزي للاتحاد الأفريقي في جهود السلام من أجل التوصل إلى حل قابل للتطبيق وشامل ودائم للنزاع في السودان. وشدد الاتحاد الأفريقي على حماية المدنيين واحترام القانون الإنساني الدولي.

ويرى الدكتور/ عاطف آدم عجيب، الأستاذ الجامعي المختص في دراسات السلام، إن مبادرات السلام في السودان ما تزال تعاني من حالة تعثر مستمر تعكس عمق الأزمة البنيوية في الدولة وطبيعة الصراع الدائر. وأوضح أن المبادرات الداخلية غالباً ما تنطلق من قوى مدنية مشتتة وغير موحدة الرؤية، تعاني من ضعف التأثير الميداني وغياب الثقة مع الأطراف المسلحة، بجانب اختلال ميزان القوى في ظل هيمنة المؤسسة العسكرية وانعدام الإرادة السياسية الجادة لتحقيق تسوية شاملة.

وعلى الصعيد الخارجي، أشار عجيب، إلى أن تعدد الوسطاء الإقليميين والدوليين واختلاف أجنداتهم أدى إلى إرباك مسارات التفاوض بدلاً من توحيدها. وضرب مثالاً باجتماع الآلية الرباعية الأخير، الذي ضم ممثلين عن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والسعودية والإمارات، قائلاً إنه عكس فهماً جزئياً لطبيعة الصراع، وركز بشكل أساسي على وقف إطلاق النار والترتيبات الإنسانية دون معالجة الجذور العميقة للأزمة. وأضاف أن هذه المبادرات تفتقر غالباً إلى الشمولية، وتتجاهل إدماج القوى المدنية الحقيقية وممثلي المجتمعات المحلية المتضررة، فضلاً عن غياب آلية ملزمة لتنفيذ مخرجاتها أو ضمانات دولية واضحة، مما يجعلها أقرب إلى بيانات سياسية لا ترقى إلى مستوى الاتفاقات الفعلية. وشدد على أن السودان يحتاج إلى مسار موحد يقوم على رؤية شاملة للحل، تتجاوز النخب التقليدية، وتضع العدالة والمساءلة والتحول الديمقراطي في صدارة الأولويات.

بينما يؤكد الدكتور/ أبكر محمد أبو البشر، أن الخطوة الأولى نحو حل الأزمة السودانية يجب أن تكون عبر مقاربة علمية تضع في الاعتبار الجذور التاريخية لتكوين الدولة السودانية الحديثة، التي تأسست – حسب قوله – على “فوهة البندقية” إبان الاستعمارين التركي-المصري (1820–1885م) ثم البريطاني-المصري (1899–1956م)، وهي فترات زرعت بذور عدم الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد. وأوضح أبو البشر أن المفاوضات السياسية في السودان، منذ قبل الاستقلال وحتى مفاوضات جوبا 2020م، ظلت تدور بين الفرقاء السياسيين بهدف تقسيم السلطة دون إشراك الشعب السوداني بوصفه صاحب المصلحة الأساسية، وهو ما جعل نتائجها هشة وغير مستدامة. وشدد على ضرورة أن يقوم أي تفاوض مستقبلي على مبدأ (Win-Win) أو المكسب المتبادل، مع تحديد واضح للهدف الوطني وأطراف التفاوض الحقيقيين.

وطرح أبو البشر ثلاثة سيناريوهات للتفاوض: الأول، جلوس طرفي الحرب الجارية الآن بضغط من المجتمع الدولي لوقف القتال وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، لكنه حذر من أن ذلك قد يؤدي فقط إلى وقف مؤقت للحرب دون معالجة جذور الأزمة. الثاني، أن يكون التفاوض بين السياسيين من جهة والشعب من جهة أخرى، وهو ما اعتبره صعب التحقيق بسبب غياب ممثلين حقيقيين للشعب. أما الثالث، فيتمثل في تفاوض بين مكونات الشعوب السودانية نفسها، بما يضمن الاعتراف المتبادل بالإنسانية المشتركة ويؤسس لدستور دائم يضمن التعايش السلمي.

لكن الدكتور/ شمس الدين ضو البيت، يرى أن الحرب في السودان لم تعد محصورة بفاعلين سودانيين، بل تحولت إلى حرب إقليمية تدور على أرضه من أجل مصالح ثلاث دول رئيسية وربما أربعة، بينما أُقصيت القوى السياسية المدنية والحزبية عن تحديد أجندة ومستقبل البلاد.

رهانات القوى المدنية 

يعتقد المراقبون أن القوى السياسية المدنية في السودان لا زالت تدور في فلك الانقسامات التي ظلت تعاني منها لعقود، وأنها تتعامل مع الحرب على اساس انها ازمة سلطة، مما يجعل الحل الحقيقي لهذه الازمة مرهوناً بقدرة هذه القوى على تجاوز منطق المكاسب، لصالح مشروع تأسيس دولة عادلة وشاملة. مقابل هذا المشهد القاتم، يضع الدكتور/ محمد أبكر أبو البشر بعض الأمل في المجتمع المدني الجديد الذي ولد من رحم ثورة ديسمبر 2018م، معتبرًا إياه الفاعل السياسي الأقدر على إحداث تغيير حتى في ظل التقسيم. هذا المكوّن، بحسب أبو البشر، يتميز بعدم الارتهان للأيديولوجيا، بامتلاكه توجهًا وطنيًا ومعرفيًا جامعًا، إضافة إلى ارتباطه العميق بالمجتمعات المحلية، ما قد يمكّنه من الضغط على الأطراف المتحاربة وتحمل مسؤوليته التاريخية، وربما العمل على إعادة توحيد السودان مستقبلًا. لكن أبو البشر يشير إلى أن هذه القوى لم تجد بعد الصيغة التنظيمية التي تمكّنها من العمل المشترك لإحداث هذا التغيير. وفي ذات الخصوص يقول الدكتور/ عاطف عجيب إن القوى السياسية تعاني من ضعف بنيوي على صعيد التنظيم، وضبابية في الرؤية، وعجز عن تقديم بدائل واقعية تُعبّر عن تطلعات الشارع السوداني. ويرى أن هذا الضعف أسهم في انسداد الأفق السياسي، وأفقد القوى المدنية القدرة على التأثير في مسار التغيير أو تشكيل مركز سياسي جاذب.

بهذا يبقى السودان أمام تحدي البقاء ما بين حكومتين متصارعتين، نزيف في كل الاتجاهات، وسلام يبدو بعيد المنال. ومع ذلك، فإن المستقبل ليس مغلقًا تمامًا؛  فكلما اشتدت الأزمة، تعالت الأصوات المنادية بإنهاء الحرب لإنقاذ ما تبقى من حلم الدولة.