تقرير: سلاميديا

يقدّم السودان اليوم نموذجًا مأساويًا لكيفية تحوّل النزاعات المسلحة إلى كوارث بيئية متشابكة تهدد بتداعيات طويلة الأمد. فمع تصاعد الحرب، تتداخل آثار التغيّر المناخي مع الدمار الواسع الذي خلّفته المعارك لتشكّل ما يصفه الخبراء بـ”العاصفة المثالية” من التدهور البيئي وفقدان الموارد.

بيئة منهكة تحت نيران الحرب

الحرب الراهنة ألحقت أضرارًا مباشرة وغير مباشرة بالبيئة، طالت كل قطاعات الحياة في البلاد. فقد تدهورت الأراضي الزراعية وتلوّثت التربة والمياه، بينما دُمرت البنية التحتية الصناعية، وتوقفت شبكات الصرف الصحي، ما أدى إلى تفشي الأمراض وتفاقم التلوث. كما تسببت موجات النزوح الداخلي في ضغط هائل على الموارد الطبيعية، لتدخل البلاد في حلقة مفرغة من التدهور البيئي والإنساني. ويقول خبراء البيئة إن تفاعل الحرب مع هشاشة المناخ جعل السودان أكثر عرضة للكوارث، إذ يؤدي تدمير الغطاء النباتي إلى زيادة التصحر وتراجع إنتاج الغذاء، بينما تُفاقم الظواهر المناخية المتطرفة أضرار الصراع. ويقول مركز CEOBS المختص في رصد وتوثيق الآثار البيئية للنزاعات المسلحة ان الصراع في السودان تسبب في أضرار بيئية جسيمة، مباشرة وغير مباشرة، أثرت على سكان المناطق الحضرية والريفية على حد سواء. مشيراً الى أن هذه الآثار شملت تزايد إزالة الغابات، وتدهور الزراعة، والتلوث الناجم عن تضرر البنية التحتية الصناعية والطاقة، وانقطاع التيار الكهربائي، وتدهور أنظمة الصحة والصرف الصحي.

خسارة لا تُعوض للتنوع البيولوجي

توجد في السودان 23 منطقة محمية تغطي الموائل البرية والبحرية، وتلعب دوراً حيوياً في الحفاظ على التنوع البيولوجي والإدارة المستدامة للموارد. وبحسب الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) فان السودان يتميز بتنوعٍ بيئي واسع يجعله موطناً لمجموعة كبيرة من الكائنات الحية. غير أن المعلومات المتوفرة حول توزيع ووفرة الحياة البرية في البلاد ما تزال محدودة للغاية. ويشير الاتحاد الى أن السودان يحتضن نحو 937 نوعاً من الطيور، من بينها 17 نوعاً من المحمية عالمياً. ورغم هذا التنوع الكبير للنظم الإيكولوجية، لا تزال المعلومات حول توزيع ووفرة الأنواع محدودة، بينما يحتل السودان موقعاً مهماً في مسارات هجرة الحياة البرية الموسمية بين إفريقيا وآسيا وأوروبا.

وواجهت المناطق المحمية في السودان تهديدات متزايدة بسبب التدهور البيئي وتوسيع البنية التحتية وتغير المناخ والتعدي الزراعي والتلوث، الا أن الحرب فاقمت هذه الضغوط وخلقت تحديات جديدة، إذ تحولت الأولويات الوطنية والموارد المالية بعيداً عن الحفاظ على البيئة، مما زاد من إجهاد النظم الإيكولوجية.

كما فرض الصراع ضغوطاً متزايدة على الموارد الطبيعية خارج المناطق المحمية. ومن الأهمية بمكان أن تكون حماية واستعادة النظم الإيكولوجية التي تقوم عليها سبل العيش جزءاً أساسياً من أي خطة إنعاش بعد الحرب. فقد أدى انعدام مصادر الطاقة في بعض المناطق إلى لجوء السكان إلى قطع الأشجار لاستخدامها كوقود بديل، ما تسبب في إزالة مساحات شاسعة من الغابات في ولايات دارفور وكردفان والنيل الأزرق وسنار والجزيرة وحتى الخرطوم.

وساهم النزاع في تدمير الموائل الطبيعية وتدهور التنوع البيولوجي، حيث انخفضت أعداد بعض الأنواع الحيوانية بنسبة تصل إلى 60% في المناطق المتأثرة بالحرب، مما يهدد بانقراضها. وقبل اندلاع الحرب، قدرت سلطات الغابات في السودان الخسائر السنوية في القطاع بنحو 500 مليون دولار جراء القطع الجائر للأشجار المستخدمة في الوقود، إلا أن الحرب فاقمت هذه الخسائر بسبب غياب البدائل وغلاء غاز الطبخ، ما وسّع أنشطة القطع الجائر وأدى إلى فقدان متسارع للغطاء النباتي.

غابة السنط… رئة الخرطوم تختنق

لم تسلم غابة السنط في قلب الخرطوم من آثار الحرب، رغم كونها رمزاً للتنوع البيئي وملاذاً للكائنات البرية والطيور المهاجرة. لطالما كانت الغابة مثالاً لتوازن فريد بين الغطاء النباتي والحياة البرية، إذ تضم 87 نوعًا من الطيور، من بينها 50 نوعًا مهاجرًا من المنطقة القطبية القديمة، و8 أنواع مهاجرة محليًا، و29 نوعًا مستقرًا (مقيم)، وتشكل محطة أساسية في مسار الهجرة بين شرق إفريقيا وأوروبا.

لكن مع تصاعد النزاع، تعرضت الغابة لأضرار بالغة طالت غطائها النباتي، مما أثر سلباً على البيئة المحيطة وتسبب في تراجع الحياة البرية. هذا التدهور لا يهدد فقط حياة الطيور المهاجرة، بل ينذر باختلال التوازن البيئي في العاصمة.

في يوليو 2025، أعلن المركز القومي لمكافحة الألغام في السودان اكتشاف ثلاثة حقول من الألغام المضادة للأفراد في منطقة غابة السنط بالخرطوم. ووفقاً للّواء خالد حمدان، مدير المركز، فإن هذه الألغام من النوع البلاستيكي شديد الخطورة، قابلة للانفجار بأقل من كيلوغرام من الضغط، وتحتوي على كمية ضئيلة من المعدن، مما يصعّب اكتشافها. وأضاف أن وجود مثل هذه الألغام يمثل كارثة بيئية حقيقية تهدد واحداً من أهم النظم البيئية في السودان. ويؤكد خبراء أن تأثير الألغام يتجاوز الجانب الإنساني ليشمل تدميراً للتربة والنباتات والنظم البيئية، مما يعطل إعادة تأهيل الغابة ويهدد التنوع البيولوجي.

وتقول الدكتورة مروة طه، أستاذة الموارد الطبيعية بجامعة بحري سابقاً، إن غابة السنط توفر توازناً بيئياً مهماً عبر تظليل النهر وتثبيت التربة وحمايتها من التعرية. وترى أن تدهورها يضاعف الضغط على النظام البيئي ويهدد الطيور المهاجرة والمقيمة مثل أبو قردان ومالك الحزين والبط البري، إذ تعتمد هذه الأنواع على الأشجار للراحة والتكاثر.

وأضافت أن انهيار الغابة بسبب الحرب والقطع الجائر أدى إلى فقدان الموائل الطبيعية وتقلص محطات التوقف للطيور المهاجرة، ما يقلل معدلات بقائها ويحدث اختلالاً في مسارات الهجرة عبر القارات.

ويوضح الخبير في السياحة منير خليل أن الغابة تعرضت لقطع جائر واسع خلال الحرب بسبب الحاجة الماسة للحطب، محذراً من أن تقييم الأثر البيئي يتطلب دراسة ميدانية دقيقة تشمل تعداد الأنواع وتحديد حجم الضرر، إذ إن أي حديث عن أثر بيئي دون بيانات ميدانية “يبقى نظرياً وغير مستند إلى حقائق علمية”.

الحديقة النباتية… إرث علمي في مهب الدمار

لم تكن الحديقة النباتية بالخرطوم بمنأى عن آثار الحرب، إذ تحولت إلى منطقة خطرة خلال الاشتباكات التي شهدها حي المقرن ومحيطه. وتعرضت مرافقها وبنيتها الأساسية للتدمير، فبدت الحديقة جرداء؛ كثير من مبانيها تحطم، وأحواضها تحولت إلى أطلال، والأشجار والنباتات إما احترقت أو ماتت من العطش والإهمال.

فالحديقة هي عبارة عن مستودع نباتي حيّ يضم أنواعاً نادرة من نباتات كردفان وجنوب السودان وأقاليم نائية أخرى، وما حلّ بها يعد مأساة بيئية وعلمية، إذ اندثرت واحدة من أهم الواحات الخضراء في قلب العاصمة. وتقول الدكتورة مروة طه لسلاميديا إن الحديقة النباتية كانت بمثابة بنك جيني فريد من نوعه، يضم مجموعة نادرة من النباتات المهددة بالانقراض، وإن تدميرها يمثل ضياعاً لا يعوض لموارد وراثية حيوية كانت تحمل في طياتها مفاتيح أبحاث مستقبلية مهمة في الطب والزراعة. وأضافت أن إعادة إحياء هذه الحديقة لم يعد مشروعاً ترفياً، بل ضرورة وطنية لحماية ما تبقى من التراث الطبيعي السوداني.

الطريق إلى التعافي البيئي

يقف السودان اليوم على مفترق طرق بيئي حرج. فالتحديات هائلة ومعقدة، لكنها ليست مستحيلة الحل. تؤكد التجارب الدولية أن التعافي البيئي بعد الحروب ممكن، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية قوية، وتمويلاً كافياً، وتعاوناً دولياً فعالاً. ويرى الخبراء أن إشراك المجتمعات المحلية والخبرات الوطنية أمر أساسي لضمان نجاح أي خطة لإعادة البناء. فالتعامل مع ما حدث في السودان يجب ألا يكون باعتباره كارثة محلية فحسب، بل تحذيراً عالمياً من النتائج الكارثية لتفاعل الحروب مع البيئة. ما يحدث اليوم يمكن أن يكون نموذجاً للتعافي البيئي المبتكر إذا تضافرت الجهود، أو قد يصبح مثالاً على انهيار النظم البيئية تحت وطأة الصراعات والإهمال. الخيار ما زال متاحاً، لكن الوقت ليس في صالح البيئة؛ فكل يوم تأخير يعني مزيداً من الفقد، وارتفاعاً في كلفة الإصلاح.