
سلاميديا: كمبالا
في مدينة الفاشر التي انهكها الحصار لأكثر من 500 يوماً، كان الصحفي معمر إبراهيم، ضمن آخر ما تبقى من الأصوات القليلة التي توثق الجوع والخوف وانتظار النجاة. دون كلل أو ملل بقي في مكانه بينما يضيق الخناق على المدينة بسبب الحصار، والرصاص يكتب حدود الحياة؛ ظل معمر على الدوام ينقل معاناة المدنيين المحاصرين ويُبقي قصتهم حيّة رغم العزلة وانقطاع العالم عنهم. وعندما اجتاحت قوات الدعم السريع المدينة في 26 أكتوبر 2025م، صمت الهاتف الذي كان ينقل نبض الفاشر، وغاب معمر كما غابت معه أخبار الكثيرين وسط الفوضى التي عمت المدينة.

ومؤخراً ظهر معمر في مقطع فيديو أمام الناطق الرسمي لقوات الدعم السريع، الذي أوضح أنهم اتهموه بعدم الحياد لوصفه قواتهم بالمليشيا والجنجويد بعد التحقيق معه.
واقع الصحفيين/ات
قصة معمر ليست مجرد واقعة اعتقال في خضم الفوضى التي اجتاحت مدينة الفاشر، بل مشهد ربما يعكس وضع الصحفيين/ات؛ فقد برزت لكيما تسلط الضوء على مجموع الانتهاكات التي وقعت على الصحفيين/ات خلال الحرب الحالية في السودان. حيث نجد أن أطراف الصراع دأبت على التعرض للصحفيين/ات اثناء ادائهم لمهامهم الصحفية التي في الغالب تتعارض مع نهج أطراف الحرب لكشفها الانتهاكات التي يمارسونها ضد المدنيين.

وبسبب انقطاع الاتصالات في مدينة الفاشر بعد اجتياحها بواسطة قوات الدعم السريع، لم يكن تلقي المعلومات عن أوضاع الصحفيين بالمدينة بالأمر السهل، وبالتالي تضاربت المعلومات حول وضعهم واعدادهم. وقدرت نقابة الصحفيين السودانيين في تقرير أن عدد الصحفيين أثناء وبعد اجتياح المدينة بأكثر من 20 صحفيًا وصحفية، من بينهم خمسة صحفياً وصحفيتين تم فقدان الاتصال بهم بشكل كامل. وكشفت النقابة أن 12 صحفياً تمكنوا من الوصول إلى مدينة طويلة، بينما لا يزال اثنان منهم قيد الاعتقال وهما الصحفي معمر إبراهيم والمصور إبراهيم جبريل ابكر المعروف بـ (بابو) الذي ظهر في مقطع فيديو متداول بين عدد من الأسرى لدى قوات الدعم السريع. وذكر تقرير النقابة ان قوات الدعم السريع قامت بإخفاء اربعة صحفيين قسرياً قامت باعتقالهم قبل اجتياحها لمدينة الفاشر واحكام السيطرة عليها.

وأكدت إيمان فضل السيد، سكرتير الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين، في تصريح لسلاميديا، تواجد الصحفي معمر ابراهيم والمصور ابراهيم جبريل في قبضة قوات الدعم السريع؛ من بين جملة خمسة صحفيين مفقودين في إقليم دارفور ثلاثة منهم تم اعتقالهم في مدينة الفاشر واثنين من مدينة نيالا.
وذكرت فضل السيد أن النقابة تواصلت مع مسئولين في إعلام قوات الدعم السريع بشأن الصحفي معمر ابراهيم، وبدورهم وعدوا بإطلاق سراحه “تحدثنا معهم بشأن الصحفيين الآخرين المعتقلين، ولكنهم إلى الآن لم يعترفوا باعتقالهم، ربما معمر لأنه ظهر في الفيديوهات التي نشرتها القوات نفسها لذلك لم تكن هناك طريقة للإنكار، ولكن الصحفيين الذين تم اختطافهم من منازلهم ومن الطرقات لم نجد اعتراف بأنهم موجودون تحت قبضة الدعم السريع لذلك حتى الآن لم تأتينا وعود بإطلاق سراحهم ولا حتى أي أخبار عنهم“. وكذلك كشفت عن تواصل عدد من الجهات الدولية مع قيادة الدعم السريع وطالبتهم بإطلاق سراح معمر وضمان سلامته. وهذا ما أكده مصدر مسئول بقناة الجزيرة لسلاميديا أنهم تلقوا تطمينات من قيادة الدعم السريع في نيالا بالإفراج عن الصحفي معمر إبراهيم.

ومن جانبه قال محمد حسين، رئيس رابطة صحفيي دارفور لمركز سلاميديا، أن الرابطة على الدوام تتواصل مع الجهات التي تعتقل الصحفيين بغرض الإفراج عنهم وضمان سلامتهم.

لا حماية للصحفيين
منذ اندلاع الحرب في البلاد انتفت أي ضمانات حقيقية لسلامة الصحفيين العاملين في مناطق النزاع فقد جابهوا الموت، الإعتقال والمضايقات. وأوضحت سكرتير الحريات بنقابة الصحفيين السودانيين، أن النقابة تجري اتصالات مع أطراف الحرب بشأن حماية الصحفيين، اضافة الى التواصل مع جهات دولية تعمل في حماية الصحفيين لتلعب دور الوساطة والتواصل مع أطراف الحرب في حال عدم استجابتها لاتصالات النقابة أو في حال لم تجد النقابة من تتحدث إليه. وتابعت “لا نستطيع أن نقول إن هناك ضمانات لسلامة الصحفيين في مناطق النزاعات مهما فعلنا ومهما قلنا ومهما تحدثنا ومهما أجرينا من تشبيك مع مؤسسات دولية لأن هناك استهداف مباشر وممنهج للصحفيين” ونبهت إلى أن مسألة حماية الصحفيين في هذه الظروف أمر في غاية الصعوبة، لأن أطراف الصراع يستهدفون الصحفيين/ات والمؤسسات الإعلامية استهدافا ممنهجا “كل الصحفيين الذين يواصلون عملهم على الأرض هم معرضون لشتى صنوف الانتهاكات، للقتل، للاعتقال، للاعتداءات الجسدية والتهديدات التي تصل إليهم بطرق مختلفة“. وأشارت أنه حتى الصحفيين العاملين عن بُعد أو في الخارج تعرضوا للتهديد والاعتداء، بما في ذلك حالات موثقة في جمهورية مصر.

ولفت رئيس رابطة صحفيي دارفور، أن الصحافة أصبحت مهنة عالية الخطورة، ما دفع بعض الإعلاميين إلى تأييد القوى المسيطرة لتجنب الاستهداف، بينما تحولت مؤسسات إعلامية إلى جزء من آلة الدعاية الحربية. وكشف عن المخاطر التي يتعرض لها الصحفيين/ات تجاوزت مدينة الفاشر إلى كل السودان، ما جعل فرص الحماية محدودة للغاية. وأوضح حسين، أنه بالرغم من ذلك تسعى الرابطة لحماية الصحفيين عند تعرضهم للانتهاكات او المضايقات بالتنسيق مع المنظمات والنقابات والأجسام المهنية الأخرى. وكشف عن خروج أكثر من 80% من الصحفيين والعاملين في الإعلام من مدن دارفور نتيجة التهديدات الأمنية والاستهداف المهني، موضحاً أن مدن الفاشر، الجنينة ونيالا شهدت مغادرة شبه كاملة للصحفيين، بينما انقطع الاتصال بعدد منهم ولا يُعرف مصيرهم.

وقال فيصل الباقر، المنسق العام لمنظمة صحفيون لحقوق الإنسان (جهر)، أن البلاد باتت تعيش حالة إظلام إعلامي شامل، خصوصاً في دارفور، حيث تواجه الصحافة عسفاً من جميع الأطراف المسلحة، مع احتلال الدعم السريع مركز الصدارة في معاداة الصحفيين/ات، دون إعفاء القوات المسلحة من المسؤولية. وأضاف أن الصحفيات يتعرضن لاستهداف أكبر من خلال حملات تخوين وتنمر ممنهجة لثنيهن عن العمل، مشيداً بصمودهن وشجاعتهن في بيئة عدائية تجاه حرية الصحافة.

ووفق المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977م، يُعتبر الصحفيون/ات الذين يقومون بمهام مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة أشخاصاً مدنيين، تجب حمايتهم بهذه الصفة شريطة ألا يقوموا بأي عمل يسيء إلى وضعهم كأشخاص مدنيين. واعتبر مجلس الأمن في قراره بالرقم 1738 الهجمات الموجهة ضد الصحفيين/ات والعاملين/ات في وسائل الإعلام في مناطق النزاع المسلح، جرائم حرب.

قيود ومضايقات
يواجه الصحفيون/ات صنوفاً متفرقة من القيود والمضايقات التي تجعل قيامهم بمهامهم غاية في الصعوبة، التدهور غير المسبوق في بيئة العمل الصحفي، وسط القيود المشددة وغياب المعلومات الرسمية من قبل مؤسسات الدولة. وكشف عدد من الصحفيين/ات استطلعتهم سلاميديا لمعرفة الظروف التي يؤدون فيها مهامهم الصحفية، حيث أشار بعضهم إلى انعدام قنوات الحصول على المعلومات نتيجة غياب كثير من مؤسسات الدولة، ما يجعل المعلومة مغيّبة. وذكروا أن الصحفيين/ات يتعرضون لمضايقات مستمرة تشمل تفتيش الهواتف ومصادرتها، إضافة إلى مراقبة صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل دائرة الإعلام بقوات الدعم السريع “هناك ضغوط كبيرة تمارس على الصحفيين للعمل في المؤسسات التابعة لقوات الدعم السريع في الولايات التي تسيطر عليها، وفي حال الرفض فأنت مهدد بالسجن كما حدث للزملاء في مدينة الجنينة” وفق افادة احد الصحفيين المستطلعين، وأضاف “الصحفيون يعملون في معاناة وضغوط نفسية كبيرة كونهم معرضون لخطر السجن أو الاختفاء أو حتى القتل في أي لحظة”.
بجانب الخوف من الاعتقال والسجن أو الاعتداء وحتى الموت، فإن الصحفيين/ات يتخوفون من التواصل مع المصادر لانعدام الثقة؛ حيث يرفض معظم المصادر الحديث بسبب الخوف، لذلك فإن أي خطأ في التعامل مع المصادر قد يسبب كارثة للصحفي.
وبحسب الصحفي (ط، و) إن النشاط الصحفي بإقليم دارفور بات مقتصراً على الإعلاميين الموالين لقوات الدعم السريع، إذ ينقلون فعالياتها دون التطرق إلى قضايا المواطنين، الأمر الذي أدى إلى غياب التغطية المهنية الحقيقية لمعاناة المواطنين والأوضاع الإنسانية المتردية؛ وأضاف “أي صحفي يعمل بمهنية أو يحاول تغطية القضايا التي لا تتماشى مع اتجاه قوات الدعم السريع أو تمسها يُصنّف فوراً كغير محايد“. وتابع “أي محاولة للتصوير قد تعرض الصحفي للاعتقال أو اتهامه بالتعاون مع الجيش أو أنه يرفع إحداثيات مواقع، ما دفع معظم الصحفيين المستقلين إلى ترك المهنة”.

ويتفق صحفيان آخران من إقليم دارفور مع (ط، و) بتأكيدهما تعرض الصحفيين/ات لمضايقات تمنعهم من أداء مهامهم. وذكر أحدهما أنه ترك العمل الصحفي لجهة أنه بات سلاحا ذو حدين “اما ان تكون موال لاحد طرفي الحرب، وإما أن تتعرض لكثير من الانتهاكات بسبب العمل الصحفي” بينما قال الآخر، أنهم باتوا يعملون بمبدأ (سلامتك اهم من الخبر) مضيفاً “كثيرا ما غضضنا الطرف عن معلومات وأحداث وقعت بالإقليم رغم انها في بعض الأحيان تكون متداولة في مواقع التواصل الاجتماعي لكن عندما ينقلها صحفي تصبح مشكلة”
وقال صحفي رابع من إقليم دارفور ــ فضلنا حجب اسمه ــ أن أي نشاط صحفي في مناطق سيطرة الدعم السريع في ظل النزاع المحتدم الآن يشكل خطورة على الصحفيين/ات “إذا تناولت أي موضوع صحفي لا يخدم الطرف المسيطر في المنطقة فأنت متهم بالتجسس لصالح الطرف الآخر وستدفع الثمن غالياً، وهناك رقابة شديدة على المواد والقصص التي تنقل، ويتم تتبع من هو وراء هذه الأخبار، بجانب القيود في الاتصالات”.

وذكر الصحفي الرابع، أن الحرب أجبرت عدداً كبيراً من الصحفيين/ات على البقاء في مناطقهم بسبب ظروفهم الاقتصادية وعدم قدرتهم على توفير تكاليف النزوح أو اللجوء أو تكاليف العيش في منطقة اخرى. وأشار إلى أن معظم هؤلاء تحولوا بسبب هذه الضغوطات إلى ممارسة مهن أخرى.
ومن بين العديد من الصحفيين الذين راحوا ضحية هذه الحرب، كان الصحفي النور سليمان النور ملازما لوالدته المعاقة، والده المصاب وإبن أخيه اليتيم؛ حتى لقى مصرعه بقذيفة مدفعية أودت بحياته. لم يستطع النور مغادرة الفاشر لعدم قدرته على تحمل التكاليف الباهظة للمغادرة برفقة والديه وإبن أخيه. وبحسب الصحفية زمزم خاطر، فان النور لقي حتفه بالقذيفة المدفعية وهو في طريقه لجلب الغذاء لأسرته “النور لم يستطع أن يخرج من الفاشر بسبب الحالة الصحية لوالديه، فوالدته تعاني من اعاقة حركية، ووالده مصاب بطلق ناري في أحد فخذيه، وعندما طلبنا منه مغادرة المدينة أخبرنا بأنه لا يملك ما يمكنه من الخروج برفقة والديه اضافة الى ابن أخيه الذي توفي وتركه له تحت رعايته”
وأشار فيصل الباقر، إلى أن الانتهاكات ضد الصحفيين/ات وصلت حد القتل المباشر؛ مستدلاً بمقتل الصحفيات حليمة سالم من سودان بكرة، سماهر عبد الشافع من إذاعة زالنجي، وحنان آدم من صحيفة الميدان، اضافة الى مكاوي محمد أحمد من وكالة السودان للأنباء (سونا) ومعاوية عبد الرازق

إن المعاناة التي يواجهها الصحفيين/ات في السودان، عبر تكريس جهدهم ووقتهم لدرجة وضع أنفسهم على المحك، في تحد للظروف التي يفرضها أطراف الحرب لأجل القيام بمهامهم التي تحتمها عليهم المهنة؛ تمثل شهادة حية على التكلفة الباهظة للعمل الصحفي ومرآة قاتمة لواقع الصحافة في السودان الذي مزقته حرباً لا تعترف بحياد الكلمة.
إن الصحفيين/ات في السودان ودارفور خاصة، يعملون في بيئة من الخطر الوجودي، حيث أصبحت سلامتهم مهددة بشكل منهجي ومباشر. فهم يواجهون الاستهداف والاحتجاز القسري على يد أطراف النزاع، ويعانون من الإظلام الإعلامي الشامل، حيث غادر أكثر من 80% من الإعلاميين، ما أدى إلى غياب التغطية المهنية لأوضاع المدنيين. وقد وصل الأمر حد القتل كما حدث للصحفي النور سليمان لزميلاته وزملائه الآخرين، مما يُبرز غياب أي ضمانات حقيقية للحماية، حتى تلك المنصوص عليها في القانون الدولي الإنساني (المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف وقرار مجلس الأمن 1738).
إن صمود الصحفيين/ات القلة الذين ظلوا في الميدان، أو من يعملون عن بُعد، هو فعل مقاومة للحقيقة في وجه محاولات طمسها وتغييبها. ومع ذلك، فإن الاستهداف الممنهج لأصحاب الأصوات المستقلة يهدد بتحويل السودان إلى فراغ إعلامي مُظلم، تُدفن فيه قصص المدنيين ومعاناتهم تحت أنقاض الحرب. إن حماية الصحفيين/ات ليست مجرد مطلب مهني، بل هي ضرورة إنسانية لضمان ألا يموت صوت الضحية مرتين: مرة بفعل الحرب، ومرة بفعل الصمت والعزلة.

