كتب: حسين سعد
أزمة مشروع الجزيرة والمناقل جذورها هيكلية، تتجاوز الحرب الكارثية إلى البنية التي تستند إليها الزراعة نفسها، بنية شوهتها السياسات الزراعية والقوانين ، وضعف الإدارة وغياب التخطيط والمساءلة، فعندما تترك الدولة مزارعها بلا حماية ولا دعم، يصبح الموسم مقامرة، والأرض عبئًا، والإنتاج مغامرة غير مضمونة، وكما قلنا في الحلقة الأولي من هذه السلسلة من التقارير ان المزارع كان (جمل الشيل) والركيزة التي يقوم عليها مشروع الجزيرة، لكنّ سنوات الحرب والإهمال دفعت به إلى حافة الانهيار، فالمزارع اليوم لا يطلب نظافة الترع والقنوات فقط، بل يطلب سياسة عادلة تحمي جهده من الخسارة، وتعيد قيمة العمل الزراعي في اقتصادٍ أنهكته الفوضى، لانه عندما تُترك الحواشات والحقول بلا دعم، والمشروعات الزراعية بلا تخطيط، والمزارع بلا حماية من تقلبات الأسعار أو الكوارث الطبيعية، فإن الخلل يصبح هيكليًا لا ظرفيًا. الدولة التي ترى في المزارع مجرد منتجٍ هامشي، لا شريكًا استراتيجيًا، تفقد تدريجيًا توازنها الغذائي واستقلالها الاقتصادي، نظافة الترع والقنوات وإنسياب مياه ري المحصولات الزراعية دون أن ترافقها سياسات رشيدة، تبقى الحقول خضراء لوقتٍ قصير، ثم تذبل تحت وطأة الإهمال وغياب العدالة. أما عندما تُمطر السياسات بالعطاء كما تمطر السماء بالماء، عندها فقط يمكن للمزارع أن يستعيد مجده، وتستعيد الأمة قدرتها على الاكتفاء والنهوض من تحت رماد الجفاف إلى فضاء الازدهار.
فساد الأسمدة… القشة التي قصمت ظهر الموسم:
في واحدة من أكثر الحوادث خطورة، أوقفت السلطات الأمنية في محلية المناقل عمليات توزيع السماد بعد اكتشاف أن الديباجة تشير إلى انتهاء صلاحيته في أكتوبر 2024. وبحسب صحيفة الساعة نيوز فأنه قد تم ضبط السماد بناءً على إفادة مسؤول إدارة مشروع الجزيرة بالمناقل ياسر نقد، الذي أكد أن السماد منتهي الصلاحية، وقال مدير البنك الزراعي بالمناقل، أبوبكر عثمان، لصحيفة الساعة نيوز أقر بأنهم أوقفوا توزيع هذا السماد على المزارعين بناءا على توجيهات السلطات الأمنية بمحلية المناقل إلا أنه أكد ان هذا السماد قادم من مصر وكان موجود في مخازن بمنطقة الخرطوم بحري وبحسب الديباجة المكتوبة عليه فإن صلاحيته تنتهي في أكتوبر 2024 ولكن إدارة البنك الزراعي قامت باخذ عينات منه وفحصة بمعامل جامعة وادي النيل بعطبرة واكدت نتيجة الفحص ان السماد صالح للاستخدام حتى مايو من العام 2026 وتم إستخراج بذلك (تمديد صلاحية) والشهادة موجودة الان بحوذة البنك، وأوضح الأستاذ ابوبكر عثمان ان البنك الزراعي حريص جدا على حقوق ومصالح ومكاسب المزارعين وان البنك قام بتوزيع كميات كبيرة من ذات السماد على عدد من الولايات عبر فروعه الأخرى دون أي مشكلات في الصلاحية، وأضاف : نحن الان استجبنا لتوجيهات السلطات الأمنية بالمناقل واخطرنا إدارة البنك (القطاع الأوسط) بذلك وستقوم هى بدورها للاتصال بهيئة البحوث الزراعية بمدني لإعادة الفحص للتأكد من صلاحية هذا السماد..
الفوضي وهشاشة الرقابة:
قضية السماد الفاسد لم تكن مجرد خلاف حول تواريخ، بل مؤشرًا مرعبًا على عمق الفوضى التي تضرب سلسلة الإمداد الزراعي، وتكشف هشاشة الرقابة وتعدد الجهات وتضارب المصالح، وكلها عوامل تدفع المزارع إلى مزيد من الخسائر وانعدام الثقة، وفي بداية الموسم الشتوي الحالي الذي شهد فضحية السماد الفاسد إرتفعت بشكل جنوني إسعار مدخلات الانتاج لزراعة محصولات العروة الشتوية مثل القمح والفول المصري والكبكبي وغيرها من المحصولات النقدية التي يعتمد عليها المزارع ، فالموسم الشتوي ( من قولة تيت) يلتهم المزارعين من البذور إلى الجازولين إلى العمالة، كما ارتفعت تكاليف الإنتاج إلى مستويات غير مسبوقة، بينما بقي سعر محصول المزارعين منخفضًا أو خاضعًا للمضاربة، والمزارع الذي كان يخرج من الموسم ببعض الربح، أصبح اليوم يخرج بالديون، والمفجع أن زيادة الإنتاج لم تعد تعني زيادة الدخل؛ فالسوق غير محمي، والوسيط يربح، والمزارع يخسر، هذه المعادلة القاسية حولت الموسم من فرصة رزق إلى مصدر للخوف، وجعلت المزارعين في الجزيرة والمناقل يفكرون جديًا في ترك الأرض، أو زراعة مساحات أقل، أو الدخول في موسم واحد بدلاً من اثنين.
قصة ألمٌ بلا نهاية في كل قرية :
ولاية الجزيرة كانت منطقة إنتاج رئيسية وممر عبور للخروج من الخرطوم اثناء الحرب الكارثية حيث إحتضنت الجزيرة الملايين من الهاربين من زخات الرصاص من العاصمة قبل أنتقال الحرب الي مدنها وقراها التي تحولت ساحات قتال،وقتل المدنيين بالعشرات في قراهم ، التي نزحوا منها حيث تركت الأراضي بلا حراثة، وبلا حصاد، وبلا عمالة، توقفت آلات الري، دُمرت البنية التحتية، وتوقفت الدورة الزراعية بالكامل في كثير من المناطق، حكاية مزارعي الجزيرة ، ألمٌ بلا نهاية في كل قرية من قرى الجزيرة والمناقل، حكاية موجعة، وبما إنني عندما فقدت عملي الصحفي كنت مزارع في تفتيش المعيلق بالقسم الشمالي حيث شاهدت مزارعٌ زرع أرضه بالدين، انتظر السماد، فجاء منتهي الصلاحية، ومزارع أخر باع ماشيته ليكمل موسماً انتهي به خاسراً، وهنالك شابٌ ورث الزراعة عن أبيه، لكنه غادرالسودان لأن موسمًا كاملًا لم يُدخل عليه ما يكفي لشراء بذور الموسم الذي يليه ، هذه ليست قصصًا فردية، بل واقع متكرر، يعكس انهيارًا كاملًا في منظومة كانت يوماً ما مفخرة السودان.
تناقص المساحات ونزوح المزارعين:
الي ذلك تشير التقارير الحديثة إلى أن الحرب تسببت في تقلص المساحات الزراعية في السودان إلى 35% فقط، بينما خرجت 55% من أراضي مشروع الجزيرة من الدورة الزراعية، وفق إفادات خبراء تحدثوا لصحيفة سودان تربيون ، وقال الموظف السابق في وزارة الزراعة السودانية محمد بدر الدين لـسودان تربيون إن نحو 60% من المساحة الزراعية التي كانت تُستخدم قبل الحرب خرجت عن دائرة الإنتاج بسبب الصراع، وأكد انخفاض التمويل بما أثر على المشاريع الكبرى مثل مشروع الجزيرة، حيث خرجت 55% من أراضي المشروع خارج الدورة الزراعية، وكشف عن معلومات حديثة تشير إلى انخفاض إنتاج الحبوب مثل الذرة إلى أقل من ثلاثة ملايين طن مقارنة بنحو 5 – 6 ملايين طن قبل الحرب، من جهته قال الخبير الاقتصادي الدكتور هيثم محمد فتحي لـسودان تربيون ان خروج من الدورة الاقتصادية كان القطاع الزراعي يمثل قبل الصراع 48% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وفقًا لإحصاءات عام 2017 (آخر إحصاء علمي)، ويوظف 61% من القوى العاملة، لكن الخبير الزراعي حامد عبد اللطيف عثمان أوضح لـ”سودان تربيون” أن نشوب الحرب أدى إلى تقلص الإنتاج الزراعي إلى أقل من العشر، مشيرًا إلى أن القطاع “خرج تمامًا من دورة الاقتصاد السوداني وليس من الصادر فقط، وأضاف عثمان: “غالب أهل السودان في الوقت الراهن تهددهم مجاعة طاحنة، وبالذات مع تقلص مساحات الذرة والقمح.
انهيار حاد:
وفي المقابل أشار تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي إلى أن نسبة المساهمة الحالية للقطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي شهدت انهيارًا حادًا، وتوقفت عن كونها القوة الاقتصادية المهيمنة التي كانت عليها في السابق، وأكد هيثم فتحي أن السودان يمتلك حوالي 80 مليون فدان من الأراضي الزراعية غير المستغلة، أي ما يعادل 47% من إجمالي مساحة البلاد الصالحة للزراعة.
في غضون ذلك، أكد الخبيران أن المساحة المزروعة فعليًا في القطاعين المروي والمطري لا تتعدى العشر من المساحة التي كانت تزرع في وقت السلم، مقارنة بنحو 45 مليون فدان كانت تزرع من إجمالي الأراضي الصالحة للزراعة قبل الحرب، ويربط الخبيران تقلص الإنتاج الزراعي المتسارع بأزمة النزوح الداخلي والخارجي، والتي أدت إلى نزوح أكثر من 12 مليون سوداني داخل البلاد، وحوالي 3 ملايين لاجئ سوداني في دول الجوار. كما أشارا إلى أن النزوح يتركز بشكل خاص في مناطق الإنتاج الزراعي الرئيسة مثل دارفور، كردفان، الجزيرة، والنيل الأبيض، مما أدى إلى تعطل عمليات الزراعة والحصاد بالكامل وساهم في تفاقم أزمة انعدام الغذاء التي تهدد الملايين، وتشير تقارير إلى تأثير النزوح على الزراعة بصفة كاملة في البلاد، إضافة إلى فقدان العمالة والمزارعين والضغط على المناطق الزراعية وفقدان مصادر المياه ، والكهرباء ، وشكل تدمير الأصول والبنية التحتية ، والآلات التي كانت متوفرة في المشاريع عاملًا في تفاقم أزمة القطاع بالبلاد(يتبع)
